الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رسالة في أخبار الجنّ عند العرب

ربيع نعيم مهدي

2021 / 8 / 30
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


لا يخفى على احد ان سجل العرب التاريخي قد حفل بكم كبير من المرويات عن الجنّ، حالهم حال الكثير من المجتمعات البشرية التي تؤمن بوجود كائنات غريبة لا تنتمي الى عالم الانس، ولست هنا بصدد اثبات أو نفي وجود هذه المخلوقات، فالغاية من هذا الجهد المتواضع هو جمع بعض الاخبار ليتمكن القارئ من الاحاطة بموضوع لا زال يشغل الكثير من ذهنية البعض.

"1"
في لغة العرب وردت معاني مختلفة لكلمة الجنّ، إذ كانت العرب تسمي الملائكة جناً لاستتارهم عن العيون، وقال بعضهم ان الجنّ ضرب من الملائكة كانوا خُزّان الارض، والجان: أبو الجنّ والجمع جنان، وجنان الناس دهمائهم، والجان ايضاً حية بيضاء، وأرض مجنّة: الارض الكثيرة الجنّ، وبات فلان ضيف الجنّ: أي بمكان خال لا أنيس به. والتجنين : ما يقوله الجنّ.
وفي القاموس الفقهي نجد تعريفاً بأن (الجنّ خلاف الانس، واحده جني والانثى جنية، ولهم وجود حقيقي، وهم مكلفون، وقد قال كثير من الفلاسفة والزنادقة والقدرية بانكار وجودهم. وهذا لا شيء وإن رؤيتهم على صورتهم الأصلية ممتنعة إلا للأنبياء، ولذلك قال الشافعي: من زعم أنه يرى الجنّ أبطلنا شهادته إلا أن يكون نبياً)، و(الجنّ جنس من المخلوقات سموا بذلك لاجتنابها واستجنائها عن الابصار ولأنهم استجنوا من الناس فلا يرون) كما في معجم ألفاظ الفقه الجعفري.

"2"
وعند النظر الى تاريخ العرب نلاحظ ان مفردة الجنّ قد استخدمت في الحياة الاجتماعية والفكرية والسياسية، وشكلت هذه المفردة ثنائيات متعددة، كاقترانها بالعبقرية والجنون والكهانة، اضافة الى اقترانها بالكثير من الظواهر التي لم يستطع العقل ايجاد تفسير ملائم لها، فعلى سبيل المثال كانت العرب تقول لبن محتضر اي فاسد بمعنى ان الجنّ حضرته، وعرف عن العرب تقديمهم ذبائح للجن بغية دفع ضررهم عند شراء الدار أو حفر الآبار.
وفي القرآن الكريم نجد عدد من الآيات تصف رؤية العربي المشوشة لموضوعة الجنّ من حيث كونه مخلوق يمتلك من القدرات ما يجعله شريكاً للخالق.
وعند النظر في المواجهة التي حدثت مع النبي محمد (ص) في بدايات دعوته للإسلام تم استخدام مفردة الجن كوسيلة للتشكيك بنبوته من خلال القول بأن القرآن الكريم ليس إلا كلام ملقى من الجنّ على صدره، مع العلم ان رواة المسلمين أعادوا استخدام مفردة الجنّ في عملية أشبه ما تكون بتدوير الفكرة، لتكون لها امتدادات ستكون لنا معها وقفة في هذه الرسالة، ففي كتابه دلائل النبوة يورد الحافظ ابي نعيم الاصبهاني عدد من الروايات التي بشّر بها الجنّ بنبوة محمد (ص)، والتي منها رواية - أذكرها بالنص - عَنْ أَرْطَاةَ بْنِ الْمُنْذِرِ، قَالَ: سَمِعْتُ ضَمْرَةَ، يَقُولُ: "كَانَتِ امْرَأَةٌ بِالْمَدِينَةِ يَغْشَاهَا جَانٌّ، يَتَكَلَّمُ وَيَسْمَعُونَ صَوْتَهُ قَالَ: فَغَابَ فَلَبِثَ مَا لَبِثَ فَلَمْ يَأْتِهَا، وَلَمْ يَخْتَلِفْ إِلَيْهَا، فَلَمَّا كَانَ بَعْدُ إِذْ هُوَ يَطْلُعُ مِنْ كُوَّةٍ، فَنَظَرَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ: يَا ابْنَ لَوْذَانَ، مَا كَانَتْ لَكَ عَادَةٌ تَطْلُعُ مِنَ الْكُوَّةِ، فَمَا بَالُكَ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ خَرَجَ نَبِيٌّ بِمَكَّةَ، وَإِنِّي سَمِعْتُ مَا جَاءَ بِهِ، فَإِذَا هُوَ يُحَرِّمُ الزِّنَا، فَعَلَيْكِ السَّلَامُ. " – وهنا أضع علامات استفهام وتعجب حول مضمونها بالجملة - .

"3"
أما أجناس الجنّ ومسمياتهم فقد تعددت في أدبيات العرب والمسلمين، والتي منها:
- الشيطان: وهو كل من بعد عن رحمة الله وكل متمرد عات من الجنّ والانس
- الغول: وهم جنس أو طائفة من الجنّ والشياطين تترائى للناس فتغول تغولا أي تتلون في صور شتى لتبعدهم عن الطريق وتهلكهم
- الدياهش والدناهش: جنس من أجناس الجنّ.
- السعالي : سحرة الجنّ
- أم الصبيان: هي التابعة من الجنّ
- العفريت
- المارد
- الرئي : وهو التابع من الجنّ، وقولهم به رئي من الجنّ اي به مس من الجنّ.
- الكلاب السود البهيم ( بحسب ما يراه ابن فهد الحلي)
- الحيّة البيضاء (بحسب وصايا ابن نجيم المصري الذي يشدد على عدم قتل الحية البيضاء التي تمشي مستوية لأنها من الجنّ، ويوصي بالاحتياط في قتل الحية حتى لا يقتل الرجل جنيا لان الجنّ سيؤذونه).

"4"
وبعيداً عن الحديث في منازل الجنّ وحفلاتهم ومعزوفاتهم وملاعبهم التي وضع صنّاع الرواية لها ما يناسب العقلية السائدة، سأقف في هذه الرسالة على ثلاث محاور بغية الاختصار، الأول منها متعلق بفقهاء الانس وأحكام الجنّ، إذ لم تخل مصنفات الفقهاء من أحاديث وآراء وفتاوى تصف تعاملاتهم ووفودهم على النبي محمد (ص) طالبين منه متاعاً لهم، فأعطاهم من المأكل الروث والعظم والفحم ومن الحديد زينة لهم في الدنيا، مع العلم ان بعض المرويات ضعيفة عند أهل الحديث.
هنا قد تكون بعض هذه الاخبار طبيعية، على اعتبار ان القرآن الكريم قد ذكر ان بعض الجنّ قد سمع آياتٍ من القرآن، لكن ان نجد مرويات تعطي صور عن حياة الجنّ وأساليبهم في المعيشة – بما فيها مسألة النكاح وأوقاته – فهذا أمر فيه العجب.
وليس هذا فقط، فبعض الفقهاء يورد اجتهاداته بنهيه عن جماع الجنّ! لأختلاف الاجناس، فيما يفتي البعض الاخر بخلاف ذلك ويرى فيه جواز النكاح، ووجوب الغسل سواء أكان رجل أو امرأة (بإمكان القارئ مراجعة كتاب مغني المحتاج للشربيني، وحواشي الشرواني، وحاشية الدسوقي للنظر في هذه المسألة)، وهناك من ذهب باجتهاده الى أبعد مما تقدم وحدد أربعين فردا من الجنّ لتُقام بهم صلاة الجماعة، - والقول هنا للدسوقي في حاشيته- والذي ينقل فتوى مفادها بأن الآدمي لا يُقتل بالجنّي، وميتة الجنّ نجسة، أما حليب الجنّ فهو كحليب نساء بني آدم، وهو مختلف عن حليب البهائم، - ولا أدري كيف أدرك شيخنا الفرق في طعم الحليب وكيف شاهد ميتة الجنّ وأفتى بنجاستها -.

"5"
المحور الثاني يتعلق بأدب الجن وتحديداً أشعارهم، فلو جُمع التراث الشعري المنسوب الى الجن لخرجنا بديوان ضخم في محتواه، منه على سبيل المثال ما رواه الحسين الجعدي انه كان مع عمه بالسيالة وكانا يشذبان حجارة للبناء، فعثرى على حجر كتب عليه:
(يا لك من دهر خلا بنا عجبه حول رأسا من حمقه ذنبه)
وتحته توقيع لجني نصه : وكتب أبو خردلة الجنّي لسنة تسع.
ومن شعر الجنّ في الرثاء ما جاء في رواية منسوبة الى ام سلمة زوجة النبي (ص) قالت: ما سمعت نوح الجنّ منذ قبض الله نبيه إلا الليلة، ولا أراني إلا وقد أصبت بابني الحسين. قالت: وجائت الجنّية منهم وهي تقول:
(أيا عيناي فانهملا بجهد فمن يبكي على الشهداء بعدي
على رهط تقودهم المنايا الى متجبر من نسل عبدِ).
ويبدو ان الجنّ قد أكثروا من رثاء الامام الحسين، والتي يذكر صاحب كتاب كامل الزيارات بعضاً منها حديث عن خمسة من أهل الكوفة أرادوا نصر الحسين بن علي فمروا بقرية يقال لها (شاهي) إذ أقبل عليهم رجلان شيخ وشاب، فسلما عليهم وقال الشيخ أنا رجل من الجنّ وهذا أبن أخي أردنا نصر هذا الرجل المظلوم، وقال لهم الشيخ الجنّي: قد رأيت رأياً . فقال الفتية الأنسيون: وما هذا الرأي الذي رأيت؟. قال: رأيت أن أطير فاتيكم بخبر القوم فتذهبون على بصيرة، فقالوا له: نعم ما رأيت. فغاب يومه وليلته فلما كان من الغد إذا هم بصوته يسمعونه ولا يرون الشخص وهو يقول:
(والله ما جئتكم حتى بصرت به بالطف منعفر الخدين منحورا
وحوله فتية تدمي نحورهم مثل المصابيح يملون الدجا نورا
وقد حثثت قلوصي كي أصادفهم من قبل ما أن يلاقوا الخرد الحورا
كان الحسين سراجاً يستضاء به الله يـــعلم انــــي لـــم أقــل زورا
مجاوراً لرســــول الله في غرف وللبتــــول وللطيــــار مســرورا)
وما تقدم ليس سوى عيّنة لما هو متناثر في بطون الكتب.

"6"
أما المحور الثالث في هذه الرسالة المختصرة فهو يدور حول استغلال مفردة الجن في الحياة السياسية للعرب، فقائمة المقتولين على يد الجنّ طويلة، وتضمنت أسماءً لشخصيات كان لها دور في الصراعات التي شغلت المنطقة العربية، منهم طالب بن أبي طالب الذي قتل في طريق عودته الى مكة بعد رفضه المشاركة في معركة بدر الى جانب قريش ونُسب قتله الى الجنّ دون بيان السبب، حاله حال عبد الرحمن بن أبي بكر، الذي قُتل بين المدينة ومكة في أيام معاوية بن أبي سفيان، عندما كان يجمع البيعة لولده يزيد.
وقد يكون سعد بن عبادة أشهر الذين قتلوا على يد الجنّ، إذ ردد العرب بيتين من شعر قاتليه، ففي الخبر ان بعض أهل المدينة سمعوا هاتفاً من الجنّ في دار سعد ينادي:
(نحن قتلنا سيـــد الخزرج ســعد بــــن عبــــــــادة
ورمينـــــــاه بسهميـــــن فـــــــلم نخطئ فـــــؤاده)
وذكرت الروايات ان سبب اغتيال الجن لسعد بن عبادة هو (تبوله وقوفاً).
وإذا بحثنا في كتب التاريخ الاسلامي والعربي سنجد ان الكثير من الذين تعرضوا للاغتيال على يد الجنّ يشتركون في صفة واحدة، ألا وهي المعارضة للنظام الحاكم.

"7"
وكما حفظ لنا التاريخ أسماء القتلى من بني آدم، حفظ لنا أيضاً خبراً عن أسراهم، إذ يورد النووي في المجموع حديثاً – أذكره بالكامل ليطلع عليه القارئ- عن قتادة عن أبي نضرة عن عبد الرحمن بن ابي ليلى ان رجلاً من قومه خرج ليصلي مع قومه صلاة العشاء ففقد، فانطلقت امرأته الى عمر بن الخطاب فحدثته بذلك، فسأل عن ذلك قومها فصدقوها، فأمرها ان تتربص اربع سنين، ثم أتت عمر فاخبرته بذلك فسأل عن ذلك قومها فصدقوها فأمرها أن تتزوج، ثم ان زوجها الاول قدم فارتفعوا الى عمر، فقال عمر يغيب أحدكم الزمان الطويل لا يعلم أهله حياته، قال: كان لي عذر. قال وما عذرك؟ قال خرجت أصلي مع قومي صلاة العشاء فسبتني أو قال أصابتني الجنّ فكنت فيهم زمناً طويلاً، فغزاهم جن مؤمنون فقاتلوهم فظهروا عليهم فأصابوا لهم سبايا فكنت فيمن أصابوا، فقالوا ما دينك؟ قلت مسلم. قالوا أنت على ديننا لا يحل لنا سبيك، فخيروني بين المقام وبين القفول، فاقبلوا معي فاما الليل فلا يحدثوني واما النهار فاعصار وريح اتبعها فقال له عمر فما كان طعامك فيهم؟. قال ما لا يذكر اسم الله عليه، قال فما شرابك؟ قال الجدف. – وبصراحة.. لا أجد ما هو مناسب للتعليق على هذه الرواية سوى الصمت -.
وفي ذيل لائحة العجب التي تتعلق بأخبار الجنّ عند العرب هي سلالات النسل الهجين من الإنس والجن، فبحسب ابن سعيد الاندلسي صاحب كتاب نشوة الطرب، ان الملك الهُدهاد تزوج بجنية ولدت له بلقيس، وان أبرهة بن ذو القرنين عشقته امرأة جنيّة من الذين كانوا يسكنون بوادي الجنّ عند المُشَلّل من ارض اليمامة، فخطبها من أبيها وتزوّجها، فولدت له العبد ذا الاشعار وعمراً ذا الاذعار.
ويورد المسعودي في مروجه ما هو أعجب من أخبار ابن سعيد الاندلسي، إذ يتحدث عن أنساب الأكراد وأصولهم، ويذكر خبراً يلحقهم فيه بإماء النبي سليمان بن داود، فعندما زال ملك سليمان أتى بعض الجن الى جواريه فجامعوهن وحملن منهم، ولما ردّ الله على سليمان ملكه، ووضعت تلك الإماء حملهن، أمر سليمان وقال: إكردوهن الى الجبال والأودية.. فربتهم أمهاتهم وتناكحوا وتناسلوا فذلك بدء نسب الأكراد.

"8"
في الختام أود الاشارة الى ان هذه الرسالة كانت في البدء مشروع لكتاب يبحث في موضوعة الجنّ وامتدادها وتأثيراتها على العقلية العربية، لكن صعوبة التفرغ لجمع المتناثر في بطون الكتب دفعني الى اختصار ما جمعتُ من أخبار، وارجوا ان يكون كافياً لرسم صورة واضحة عن أخبار الجنّ عند العرب، والتي في أغلبها ليست سوى مرويات صنعتها مخيلة الرواة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهاجمة وزير الأمن القومي الإسرائيلي بن غفير وانقاذه بأعجوبة


.. باريس سان جيرمان على بعد خطوة من إحرازه لقب الدوري الفرنسي ل




.. الدوري الإنكليزي: آمال ليفربول باللقب تصاب بنكسة بعد خسارته


.. شاهد رد مايك جونسون رئيس مجلس النواب الأمريكي عن مقتل أطفال




.. مظاهرة أمام شركة أسلحة في السويد تصدر معدات لإسرائيل