الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أصوات سورية تعلو بالخيبة

راتب شعبو

2021 / 8 / 31
مواضيع وابحاث سياسية


المحكومون لنظام الأسد، الذين كانوا يعتقدون، خلال العقد المنصرم، أن الطغمة الأسدية في بطشها بالمتظاهرين وتحديها إرادتهم، تعبر عن مصلحة البلد وتقود إلى ما فيه خير للشعب وللوطن وتصد المتآمرين، يجدون أنفسهم اليوم في ورطة قل نظيرها. إنهم خائبون من نظام ظنوه "نظامهم"، ليكتشفوا أنه نظام اللصوص والمرتشين والفاسدين والشبيحة وأثرياء وأمراء الحرب وتجار الأزمات. ولكن هذا الاكتشاف لا يعيد الأرواح للميتين ولا الأطراف للمعاقين، وقيمته لا تشتري خبزاً أو لباساً أو وقوداً ولا تؤوي مشرداً، قيمة هذا الاكتشاف تنصرف إلى شيء واحد فقط هو الخيبة.
لم يكن للمحكومين في مناطق سيطرة نظام الأسد موقف سياسي واحد من النظام، لا قبل الثورة ولا بعدها، ولكن للبؤس اليوم موقف واحد منهم. البؤس يوحدهم. من كان على قناعة بأن النظام يخوض معركة ضد مندسين وعملاء من أجل "حماية الدولة" و"صيانة الوطن" و"الحفاظ على السيادة" ... الخ، يجد نفسه اليوم، في وضعه المعيشي وفي شروط حياته وكرامته وأمنه، على المستوى نفسه مع من كانوا على قناعة بأن الطغمة الأسدية تخوض معركتها لغاية وحيدة وهي الاستمرار في الحكم على حساب أي شيء آخر، أي على قناعة إنها لا تخوض معركتها "من أجل الوطن" بل ضد الوطن بالأحرى.
إضافة إلى بؤسهم المشترك مع أصحاب القناعة الثانية، فإن أصحاب القناعة الأولى، يعانون من صدمة تبدد الوهم والخيبة. مع الأيام ومع تكشف خطأ قناعتهم ومع تردي وضعهم المعيشي وانسداد الأفق أمامهم، بدأت تبرز من هذه الفئة الواسعة أصوات غاضبة تعبر عن خيبتها المرة وعن احتجاجها على ما وصلت إليه حالهم. أصوات الاحتجاج الخائبة كثيرة، ولكن ما يصل منها قليل، فلا يصل إلا الأصوات المنشورة والصادرة عن أشخاص معروفين (فنانون أو إعلاميون) كالمراسلة الحربية (كنانة علوش) التي تشكو تقاعس "الجهات المختصة" في القبض على من سرق جناية عمرها من منزلها، رغم أنه معروف وأنها زودتهم باسمه وعنوانه ورقم هاتفه، وتشير صراحة إلى تفشي الفساد والمحسوبيات داخل "الجهات المختصة". أو معدة البرامج (رنا علي) التي تشكو نقص المواد والكهرباء والماء وتشكوا أن راتبها الذي لا يتجاوز 44 ألف ليرة سورية (13 دولار) أقل من سعر أسطوانة الغاز 70 الف ليرة سورية (21 دولار).
كما تصل الأصوات العالية النبرة والتي يمكن اعتبارها انتحارية بسبب تجاوزها الخطوط الحمر، مثل بوست (أمين صقر حسن) الذي يكتب على صفحته على الفيسبوك مخاطباً "حاكم البلاد": "تنادي بالسيادة؟ سيادة على دولة محتلة من خمس دول؟ (...) على ماذا تسيطر؟ اكيد انك لازلت تسيطر على سجون وسجانين وأدوات تعذيب حديثة هي الوحيدة لا تمانع امريكا من استيرادها وقت تشاء ومعفاة من قانون قيصر بالتأكيد؟ (...) تبتسم لتخدع من؟ هؤلاء المسحوقين أمام الافران من أجل رغيف خبز؟ أم منتخبيك المكدسين كعلبة السردين أمام مؤسساتك الفاسدة؟ (...) انت تبتسم ونحن نبكي عليك، نبكي على جيش حطمته يداك؟ نبكي على اقتصاد كل أمواله حولت للبنوك الأجنبية بأسمائكم؟ لقد دمرت سوريا وتزعم انك منتصر؟"
من بين الأصوات التي انتشرت أيضاً فيديو لوالدة أحد الجرحى التي سبق أن خسرت زوجها، والتي تشكو إهانة ابنها الجريح (إعاقة حرب)، مع مئات الجرحى مثله، في دورة ألعاب تحمل اسم (جريح الوطن) وتسميها هذه الأم "مهرجان ذل وإهانة"، وتقول "نحنا عايشين عيشة الكلاب".
قيمة هذه الكتابات والتسجيلات تنبع من كونها تأتي على لسان أفراد لا يمكن رميهم بسهولة في خانة المندسين والمغرضين والحاقدين ... الخ، لذلك هي محرجة للسلطات الأسدية التي لا تملك ما تفعل إزاءها. لو جاءت هذه التسجيلات على لسان أشخاص معارضين أو ذي ولاء مشبوه، لكان الأمر سهلاً على رجال السلطة البارعين في صنوف الاتهام براعتهم في صنوف الفساد. ولكنها أصوات تأتي من المتن، من قلب النسيج الموالي، ممن لم يترددوا في اندفاعهم ولم يسائلوا قناعاتهم، رغم كل ما حدث. ليست مشكلة هؤلاء أنهم يعيشون في فقر مدقع، كان يمكنهم أن يقولوا إننا نعاني ونضحي "من أجل الوطن"، مشكلتهم أنهم يرون النهب والفساد والتشليح والبطر وأشكال التعالي والتنمر من قبل أهل السلطة وحاشيتها، فيدركون في أي وهم عاشوا، ومن أجل ماذا ضحوا بأغلى ما لديهم وإلى أين قادهم هذا الطريق الباطل.
الكثير من هذه الأصوات، ولاسيما تلك التي وصلت إلى الناس وأصابتها الشهرة، تعود لكي توضح ما قالته من قبل، أو لكي تعتذر وتؤكد وقوفها مع "الرئيس"، لكي لا يصطاد أحد في الماء العكر، كما تقول والدة الجريح. لكن الماء عكر على كل حال.
يعرف الجميع أن وراء هذه التسجيلات الاعتذارية ضغط وترهيب، وأن تأكيد الولاء بعد هذه التسجيلات أمر مخجل، وأنه لا التوضيح ولا الاعتذار ينفع بعد قول الحقيقة التي يعيشها الجميع، والتي دفعت صاحب التسجيل إلى رفع صوته رغم إدراكه ما يمكن أن يلحق به جراء فعلته. والدة الجريح تدرك أن هناك حساب فتقول: "اللي بدو يجي يحاسبني يجي"، أما صاحب الكتابة الانتحارية فيعلم أيضاً أنه يغامر بحياته، فيدون عنوانه ورقم هاتفه "حتى أريحك من صرف البنزين" ويختم بالقول "بانتظار قتلتك"، هو الذي يعرف نفسه في البداية "أنا مواطن أطلب الموت بطرقكم المعهودة". لا تفيد تسجيلات الاعتذار سوى في إضافة عنصر الترهيب إلى خلفية اللوحة التي يعتذر عنها المحتج المقهور الخارج عن طوره. لذلك ليس أبأس من رجال المخابرات الذين يدبرون تسجيلات التوضيح والاعتذار وتأكيد الولاء، سوى "المعارضين" المتبرمين والساخرين من "توبة" هؤلاء المحتجين وتوضيحاتهم واعتذاراتهم.
لا يوجد اليوم أخيب من أنصار الأسد، فبعد أن جعلوا من كلمة معارضة رديفاً للخيانة، ومن كلمة معارض رديفاً للعميل، يجدون أنفسهم ناقدين و"معارضين" لطغمة حكم تمتص دماءهم وتسرق لقمة عيشهم إلى حد الجوع. والمخرج الوحيد من هذه الخيبة أن يتبادلوا مد الجسور التي قطعوها مع أخوتهم الخائبين أيضاً، وإن بطريقة أخرى. المخرج الوحيد أن لا يتبنى السوريون المحكومون في كل المناطق، عداوات "أسياد" الحرب فيما بينهم، فالواقع أنه لا يوجد بين هؤلاء سيد، ولا يوجد بينهم من يهتم لأمر شعبه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الفرنسية توقف رجلاً هدد بتفجير نفسه في القنصلية الإير


.. نتنياهو يرفع صوته ضد وزيرة الخارجية الألمانية




.. مراسلنا: دمار كبير في موقع عسكري تابع لفصائل مسلحة في منطقة


.. إيران تقلل من شأن الهجوم الذي تعرضت له وتتجاهل الإشارة لمسؤو




.. أصوات انفجارات في محافظة بابل العراقية وسط تقارير عن هجوم بط