الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المكتبة

حمزة الذهبي
كاتب وباحث

(Hamza Dahbi)

2021 / 9 / 1
الادب والفن


تخيلت الفردوس على شكل مكتبة
- بورخيس

تلقيت قبل لحظات اتصالاً هاتفيا من أمي فاطنة ، أخبرتني فيه بخبر مفزع وصادم، توفي مُعلمي " بوعزة "، صاحب مكتبة صوفي، المثقف الموسوعي، المحب للكتب حد الافتتان إن لم أقل حد الهوس . ذلك الذي يمكن نعته بالملاك والذي أنقذ شباب حي بأكمله من الضياع ـ مات.
***
إنني أتذكر بوضوح، اللحظة التي بسببها لم يعد فيها ذلك الحي ذا البنايات الموحشة ، الآيلة للخراب ، مكان مُنتج فقط للصوص والمنحرفين والمتطرفين وبائعات الهوى، بل أضحى كذلك مكان منتج للكتاب والشعراء والفنانين والطلبة المتفوقين . حدث ذلك ، قبل سبعة عشر سنة من الآن ، حين قدم إلى الحي بوعزة ، هذا الرجل الذي قضى قرابة عشرين سنة مغتربا في بلاد المهجر، بعد أن هاجر إليها سرا ، وهو في مقتبل العمر، على قوارب الموت شأنه شأن العديد من شبابنا بحثا عن مستقبل أفضل .
أول شيء فعله لما استقر نهائيا هنا ، هو أنه اشترى بناية كبيرة ذات ثلاثة طوابق ، هدمها وأعاد بناءها من جديد ، جاعلا من الطابق الأرضي والأول مكتبة أطلق عليها اسم "مكتبة صوفي" ، مفتوحة بالكامل لسكان الحي ، مليئة بأصناف عديدة من الكتب التي لا يمكن عدها ، كتب قديمة وجديدة ، تغط في نوم عميق، أو تتظاهر بذلك ، منتظرة امتداد أيادي القراء لها لتستيقظ . الدخول إلى المكتبة كان بالمجان ، وإذا أردت أن تستعير كتاب فلا ضير في ذلك بشرط أن تعيده ما إن تنتهي من قراءته . أما الطابق الثاني فقد جعله مكان للقيام ، بقرءات جماعية ، مناقشة روايات ، تمثيل مسرحيات ، الخ من الأنشطة.
هو كان يقطن في الطابق الثالث ، وحده ، ليس له أبناء ، زوجته الفرنسية صوفي ، توفيت سنة قبل عودته بشكل نهائي إلى المغرب ، إثر حادثة سير مأسوية ، يقال أن فكرة المكتبة كانت فكرة زوجته ، لهذا فعل ذلك كي يضمن ذكرها. بيد أنه مجرد قول لا أساس له من الصحة ، لأنه قال لي أنه راودته فكرة إنشاء مكتبة منذ طفولته ، لأن الكتب حوله تجعله يشعر بشعور جيد وبالتالي لما تمكن من أن يصبح ميسور الحال ، بحث عن مكان تكون فيه المكتبة ذات أثر واسع يمكن أن يلاحظه ملاحظة مباشرة ، لهذا لم يجد أفضل من هذا المكان السيئ السمعة . إنها تجربة ، استغرقت منه عمرا بأكمله ثم أضاف وعيناه تومض ببريق خاص : اليوم عندما أشاهدك أنت ، محمد ، إلياس ، فؤاد ، سعيد وسعد ، سمية وفاطمة علاوة على شابات و شبان آخرين من الأحياء المجاورة يكتبون قصص وروايات ومقالات صحفية ويقرضون شعرا ، ويعملون في وظائف جيدة ـ ويتصرفون بشكل جيد ، ويعرفون ما لهم وما عليهم ، أحس بمتعة لا تضاهيها متعة أخرى .. ما قمت به لم يذهب سدى ..
ثم يضيف ممازحا : الأرض التي كنت أسقيها لم تنتج الشوك ـ أنتجت أزهار وورود جميلة . أليس كذلك؟
***
بعد أن تلقيت خبر وفاته ، أحسست بأني فقدت أبي ـ لأن من خطفه الموت ، لم يكن مجرد شخص عادي مر في حياتي مرور الكرام ، لقد شكلني ، جعلني ما أنا عليه الآن، حيث أني كنت قد طُردت من المدرسة في سنتي التاسعة إعدادي ، وخرجت إلى العمل: صباغ ، سيكليس ، ميكانيكي ، عامل بناء ، بائع للسمك ، وأحيانا لص - مع خجلي بالاعتراف بهذا – وذلك عندما كان يتعذر حصولي على عمل ما . لكن عندما افتتحت المكتبة وطلب مني بوعزة أن أساعده في مكتبته مقابل مبلغ شهري ، تغير كل شيء ،أعترف أنه في البداية كانت تبدو لي الكتب ، شيئا ثقيلا على القلب ، أنا الذي لم أقرأ يوما ما ، في حياتي ، كتاب خارج المقرر الدراسي ، لذا كنت أكتفي في الأيام الأولى وأنا أعمل في المكتبة ، بترتيبها و مسح الغبار عنها ، بيد أنه سرعان ما بدأ الجليد الذي بيني وبين الكتب يذوب شيئا فشيئا ، لأجد نفسي منجذبا إليها بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى .
إن للكتب جاذبية خاصة كان يقول بوعزة عندما كان يشاهد الكتب تجذبني إليها .
***
عندما علم سكان الحي أنه يبني مكتبة استغربوا أيما استغراب ، وتساءلوا كيف يمكن لشخص أن يبدد ماله في هذا المشروع الفاشل ، هل يعقل ذلك؟ . من سيشتري الكتب في هذا الحي الذي لا يجد المرء في جيبه حتى ما يشتري به ما يسد به رمقه ؟
وزاد استغرابهم أكثر ، عندما اكتشفوا أنه ، لا يبيع الكتب ، ولا يطلب مال في المقابل ، إذا ما أراد أحد ما الدخول والقراءة والاستعارة . وقالوا إنها من علامات الساعة ضاربين كف بكف. بيد أنهم سرعان ما أدركوا قيمة ما فعله بوعزة ، إذ شاهدوا مع مرور الوقت تغيرا في سلوك أشخاص ، لم يتوسموا فيهم خيرا قط . أشخاص وُصموا منذ البداية بقلة التربية وعدم الإحترام والحقارة ، هؤلاء الأشخاص أضحوا يتنافسون على القراءة تنافسهم سابقا على إرتكاب أسوأ الأمور . وبهذا أدركوا إدراكا مباشرا ، لا جدال فيه ، ما يمكن للكتب أن تفعله :
إنها ببساطة تغير حياة الناس ومصائرهم . !!

***

كيف يمكن أن أكمل دراستي وقد مرت سبع سنوات على انقطاعي ، علاوة على ذلك أنت تعرف أن الوضعية لا تسمح لي بإكمالها" هكذا تساءلت مستغربا عندما طلب مني بوعزة أن أكمل دراستي, لكنه قال مبددا شكوكي : يمكنك إجتياز إمتحان الحصول على شهادة البكالوريا أحرار بدون الالتحاق بالصفوف الدراسية أما بالنسبة للوضعية التي تقول أنها صعبة فلا تحمل هما لذلك . أنا سأتكفل بكل شيء.
وهكذا وجدت نفسي مجتازا المبارة ، حاصلا على شهادة البكالوريا أحرار، ومنتسبا إلى الجامعة محمد الخامس بالرباط التي تحصلت منها بعد أربع سنوات على شهادة الإجازة في اللغة العربية التي خولتني بدورها أن أصير أستاذ للغة العربية. الكتب غيرت حياتي ، أو كما يقول بوعزة ، فتحت عيني وجعلتني أعي الفخ الذي كنت قابعا فيه .
***
ركبت سيارتي واتجهت صوب مدينة سلا، كانت الساعة قد إقتربت من الحادية عشر ونصف صباحا ، عندما ترجلت من السيارة تاركا إياها عند حارس السيارات ، وجدت جحافل من رجال و شيوخ وشبان الحي والأحياء المجاورة ، بالإضافة إلى أفراد من عائلته ،أخوه ، أبناء أخته و أعمام وأخوال قادمين من البادية ، واقفين بجانب ، خيمة كبيرة من الخيمات التي تبنى غالبا في هكذا مناسبات أليمة أمام بيت المتوفي. قمت بتعزيتهم ثم إقتعدت كرسيا ، محملقا في الأرض . بينما الدموع تنساب على خذي بدون أن أمسحها ..
تم تغسيله و تكفينه ، ثم صلينا عليه صلاة الجنازة في المسجد القريب من الحي ، بعد ذلك ، توجهنا به إلى المقبرة بسياراتنا وحافلاتنا ودرجاتنا النارية ، حيث دفناه هناك.. بقيت أنا بعد أن إنصرف الجميع ، إشتريت قنينة ممملوءة بالماء من عند صبي يحوم في المكان ، مهمل الثياب ، نفحته بعض المال، ثم سقيت قبر بوعزة بالماء ، وبعد ذلك ، زرت قبر والدي سقيته أيضا ثم نزعت عنه الأعشاب الضارة التي نبتت فوق قبره طالبا من الإله ، تقدس إسمه ، أن يغفر لهمما ذنوبهما ويدخلهما فسيح جناته .
***
كان بوعزة يحب الإنزواء في ركن المكتبة ، تحت إضاءة خافتة ، محاط بأرفف مزدحمة بالكتب، مستغرقا في قراءة كتاب لا يفارقه لأسابيع عديدة، إن لم أقل لعدة شهور وحينما ألقي عليه سؤال يؤرقني مثلما يلقي صبي صغير حجر في بركة ماء منتظرا بفارغ الصبر ماذا سيحدث : لماذا تستغرق كل هذا الوقت في قراءة كتاب لا تتجاوز صفحاته ثلاثمئة صفحة ؟
يرد علي بالقول:
علينا أن نمضغ الكلمات جيدا ونستمتع بمذاقها في أفواهنا وبعد ذلك نبتلعها لكي نحقق كل من المتعة والفائدة .
***.
بعد مرور ثلاثة أيام ، ثلاثة أيام فقط على وفاته، تم بيع الاف الكتب التي كانت في المكتبة بالكيلوغرام
يا للوقاحة .
صدق من قال أن الأهل أعداء الكتب و المكتبات ، يا للخبث ، لم يتركوه حتى يستريح في قبره فإذا بهم يسارعون إلا هدم ما بناه طيلة هذه السنوات .
***
هل فعلا قرأت هذه الكتب جميعها ؟
سألته في أحد المرات حينما ادعى أنه قرأ جميع ما تحتويه رفوف المكتبة من كتب، وهو ما يتناقض تماما مع طريقته البطيئة في القراءة. فأجابني بالقول : نعم ، عن طريق لمسها .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج المغربي جواد غالب يحارب التطرف في فيلمه- أمل - • فران


.. الفنان أحمد عبدالعزيز يجبر بخاطر شاب ذوى الهمم صاحب واقعة ال




.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة


.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية




.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر