الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأيام الأخيرة في حياة ( معيوف ) … ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2021 / 9 / 4
الادب والفن


قصتنا هذه امتداد أو تكملة لقصةٍ سابقة بعنوان : ( جحيم امرأة ) … !

( معيوف ) .. معتوه كفَّ عقله عن النمو بينما واصل جسده نموه الطبيعي ، فعاش بعقل طفل ، وجسد رجل كامل النضج والفحولة . يترك لساقيه كل يوم الحرية لتقوداه في طول الحي وعرضه بلا وعي أو هدفٍ أو وجهةٍ محددة .. لا يعترض طريقه أحد ، ولا يزجره أحد ، ولا حتى يبالي بوجوده أحد .. يدخل أي بيت يشاء ، ويبقى مكوماً في أي ركن فيه ما شاء من الوقت ، دون ان يضايق وجوده أحد أو حتى يحسوا بوجوده .. يعاملونه بعطف ولامبالاة معاملتهم لحيواناتهم الأليفة .. حتى كان ما كان يوماً من أحداث قدرية جمعته مع الحسناء زكية ، فتغير كل شيء فيه بعدما تدخلت الاقدار كعادتها لتختط له مساراً مظلماً مغايراً للمسار الذي كانت عليه دنياه البسيطة … !
تتطاير في الحي اشاعة لاذعة بأن حمل زكية كان سفاحاً .. وهو رأي تتشبث به أقلية مصدِّقة ومتحمسة ، ورأي آخر لأكثرية مستغفرة ورافضة ، لكن الاشاعة لا تكاد تصل الى الالسن المتعطشة للوكها حتى تذوب رويداً وتتبدد ، فزكية لم يكن معروفاً عنها الاختلاط ، ولا تربطها أية صلة بعالم ما وراء الباب المليء بالذئاب البشرية الطامعة بحسنها الأخاذ ، ولا يُعرف عنها عقد صداقات من أي نوع .. كان البيت والزوج هم كل عالمها وكل حياتها رغم احساس المقربين منها بانها غير سعيدة مع زوجها ! لابد لكل جريمة من فاعل ، من الفاعل اذن ؟ من نفخ بطن زكية ؟ فالزوج كما كان معروف ومؤكد .. عقيم ، فرغم تعدد زيجاته لم يحصل مع واحدة منهن مثلما حصل مع زكية من حمل ..
وهكذا بنى أصحاب النظرة المتشككة بشرعية الحمل .. آراءهم وتصوراتهم ، ولم يخطر على بال أحد أن لمعيوف دور في هذه المعضلة الا بعد ان ضاقت الدائرة ، ولم يتبقى الا هو محشوراً في محيطها لا يخرج عنه .. ! تصوّرٌ .. ترك الكل في ذهول ، وقد عقدت الدهشة السنتهم قبل عقولهم ، وعلى قدر ما اذهلهم ما سمعوه ، فقد استنكره البعض وأبوا تصديقه ! رغم أن الأمر اصبح تحت الشمس !
انتشرت الاشاعة وتناثرت أشلائها في أرجاء الحي .. تحملها الأفواه الى الآذان المتلهفة ، وسرعان ما تحولت الى خبر يسري كوباء ، ويتحرك مع الهواء في كل اتجاه .. تتلقفه الاسماع ضاحكة ساخرة أحياناً ، وشامتةً معقِّبة ومحللة أحياناً أخرى حتى اصبح نكتةً تروى ، ونادرة يتسلى بها الناس في حلقات السمر لملء ليالي الشتاء الطويلة !
وما ان يطرق الخبر ، ومآلاته من تساؤلات وشكوك رأس زكية حتى تنتفض رافضة مستنكرة ، وقد أربد وجهها وأحمر ، وهي تجتهد في رسم شيءٍ فوق ملامحها يعبر عن الغضب والأستهجان .. دافعةً بقدر استطاعتها مثل هذا الاتهام والافتراء الظالم ! مدعيةً البراءة ، وهي تغمغم باشمئزاز بكلمات غامضة لا انفعال فيها .. ثم تهز كتفيها استهانة واستسلاماً ، وتمط شفتيها .. متشبثةً بسكوتها ، ومنشغلةً بأصلاح ما افسدته الدموع من وجهها وعينيها .. !
يكفيها أنها اختلست من وراء ظهر الزمن سويعات من المتعة المحرمة انقلب المستحيل فيها الى حقيقة ، وأصبحت حاملاً بعد أن خيم عليها اليأس أو كاد .. فكيف لهؤلاء المعاتيه أن يستكثروا عليها ما كانت تراه حقاً لها في الحياة ؟! ثم غادرت المكان ، وهي تهتز وتترجرج كبطة سمينة ، وتخطو متفاخرةً بحملها النفيس بخطى ثقيلة .. متحسسةً بطنها المنتفخة ، وتدب عليها بحنان مستفز مقصود !
أما الزوج المخدوع فقد كان وقع الفضيحة عليه مهولاً .. بدا مهزوماً مطعون الكرامة والكبرياء ، وقد حاصرته نظرات الاشمئزاز والاحتقار من كل جانب ، فأخذ يبتعد عن الناس ويتحاشاهم ، ولا يلقي السلام على احد .. يشعر بلسعة الخزي الحادة ، وهو يسمع فحيح همهماتهم وغمزاتهم .. يجلجله الخجل كأنه يسير عارياً بينهم .. حتى عمله في المنجرة اصبح يتجرعه مرغماً .. اشتعلت نار الغيرة المتأخرة في قلبه لتلتهمه ، وتنسكب كالزيت المغلي فوق رأسه لمساسها وتراً حساساً ، وطعناً صريحاً في رجولته المنحورة ، ولم يكن بحاجة الى كثير ذكاء ليدرك أبعاد الحقيقة المرة ، ولم يعد هناك مجالاً للشك بأنه أصبح بنظر الناس ، وحتى أمام نفسه .. الزوج الذي تُضبط امرأته متلبسةً بخيانته !
عم الخلاف في البيت وكثرت المشاكل بين الزوجين كأن بومة مشؤومة قد نعقت في فناءه .. سرعان ما تحول الى عراك وصراخ ، وتبادلٍ للشتائم ذات الألفاظ الداعرة المبتذلة .. تقطع زكية بين الفينة والفينة حديثها بضحكة استهزاء مليئة بالمجون ، وهي تعيّره غامزةً بصمت أعضائه وبرودها ، وعدم أهليتها وجدواها .. حتى تحولت حياتهما الى وتيرة متصلة من العذاب ، وامتلأ المكان بروح الكراهية ، وعندما أشتد بهم النقاش والخلاف ، وفي لحظة جنون اندفع الزوج الى غرفة معيوف التي افردتها زكية له في ركن من البيت ، وأضرم النار فيها ، فأتت على كل ما فيها من أشياء متهالكة . أجل .. راودته نفسه في تلك اللحظة ان يقتل هذا المسخ ، لكن طبعه المهادن المسالم قد غلبه ، ففضل طرده من البيت ، وكفى الله المؤمنين شر القتال .. !
فوجئ معيوف ودُهش بقرار الطرد ، وحاول جاهداً التخفيف من ثائرة الزوج الغاضب ، وهو يمسح رذاذ كلامه بأطراف سترته التي حال لونها ، وتناثرت في ارجاءها الثقوب ، وأصبحت كالمغسولة بعرقه ورذاذه ، ثم اندفع الى الخارج هارباً .. ناجياً بنفسه بعد أن لم يعد يطيق سهام تلك النظرات الممتلئة بغضاً واحتقاراً ، وعواقبها !
انفرد الزوج المكلوم بنفسه طويلاً ، ملبد الوجه زائغ العينين ، يعلو تعابير وجهه الحزن والأسى ، وفي داخله تتلاطم شتى الانفعالات .. انطلق ذهنه يقلب المواجع ، ويعيد ترتيب كل ما حدث بروية وتأني ، ويتذكر كم كان أحمقاً حين قبل بهذا المعتوه في بيته ، وحين استسلم لمبررات زوجته الخائنة التي سقته الألم والعار في نهلة واحدة ، وكيف أنطلت عليه هذه الخدعة الرخيصة .
لقد حاول سنين عمره معها ان يقدم لها ما يسرها ويسعدها ، فوفر لها كل ما يستطيع في حدود أمكانياته .. الا الانجاب ، وهو أمر لا يد له فيه ! عمره ما عاد الى بيته الا ويده مشغولة تحمل شيئاً ما حتى ولو كان بسيطاً .. نعم احبها .. بل شغُف بها حباً ، وجعل منها أمله الاخير في الحياة لكن .. تخونه .. ؟! ومع من ؟!
ثم ماذا عن هذه المشكلة الراقدة في أحشاءها ، والتي ستبقى شاهداً تُذكِّره بضعفه وعجزه .. زفر في نفاذ صبر وأجاب في حسم :
— يجب أن ينتهي كل هذا العذاب .. يجب أن أنأى بنفسي عن هذا العالم الفاجر البغيض .. انه لم يكن ، ولن يكون يوماً عالمي !
طالت به ساعات التفكير حتى سقط قرص الشمس في الافق ، وزحفت عليه الظلمة ، ولم يكن صعباً أو مستحيلاً أن يتوصل الى قرار حاسم ، فعقد العزم على تطليق زكية ، وتركها لهذه الورطة التي أوقعت نفسها فيها بملء ارادتها ، ولخيارها الغريب الذي لم تحسن الفصل فيه ! وكمثل تاجر يشهر افلاسه ، ويصفي تجارته ويغادر السوق .. طلّق الرجل زوجته ودفع مؤخر صداقها ، وأجزل العطاء .. ثم باع البيت ، وابتلع آلامه ، وأختفى في أرض الله الواسعة !
بعد ان ترك معيوف البيت مطروداً كانت زكية تقول لنفسها ان هي الا عوارض لن تدوم ، وأن كل شيء سيضمر مع الزمن ، ويذوي مع الايام ، ولم تكن تتصور للحظة أن معيوف برحيله سيترك فراغاً من نوع ما في حياتها ، لكنها بدأت تشعر شعوراً غريباً بأن البيت أصبح صامتاً كئيباً لا حياة فيه كأنه بيت قديم مهجور .. يطالعها وجهه أينما تولي شطرها ، وتلسع سمعها تهتهاته ، وحفيف خطواته الطفولية المتعثرة ! حتى باتت تحن الى هذره ورذاذه المتطاير ، وهو يقذف ببضعة كلمات غير مفهومة .. هل باتت تحب هذا المعتوه فعلاً ، أم هو حكم العادة ، أم هي حاجتها للاشباع الجسدي الذي كان يفيضه عليها قد عمّقت من مشاعرها نحوه ؟ كيف يمكن أن يتحول ذلك الجوع الجنسي العابث الى حالة من العشق والهيام ؟ هذا شئ لا يستسيغه عقل ؟ ربما يمكن مع رجل سوي طبيعي .. أما مع معيوف ؟! غريبة ! حقاً إن المرأة هذا المخلوق العجيب ، واللغز المحير الذي بحاجة الى من يفهمه ، ويفكك رموزه وطلاسمه !
عاد المسكين معيوف الى الشارع من حيث أتى ، وهام على وجهه في الطرقات والحواري .. انساناً جديداً أو وحشاً منزوع القيد مُطلق السراح ، تغيرت نظرته التي كانت يوماً طفولية بريئة كما تغيرت نظرة الناس اليه ، كانت قلوبهم معه ، واليوم اصبحت ضده .. بدءوا يتوجسون منه خيفةً ، ومن نظراته توجساً ، وكأنهم قد شيعوا فيه الجانب الطفولي الذي اعتادوه في تكوينه الناقص الى مثواه الاخير ، ولم يعودوا يرون أمامهم الا ذلك الرجل الكامل المنتفض والمتحفز دوماً ، وحرصاً على زوجاتهم وبناتهم من نظراته النهمة حرّموا عليه أن يقترب من أي بيت .. فالويل له ان تخطى عتبة دار أحد !
اصبح كآدم عندما طُرد من الجنة بعد أن ذاق طعم الفاكهة المحرمة ! أين يذهب ، وبمن يلوذ ؟ فكان يتظلل من وهج الشمس الحارقة بشجرة عجوز ، ويجهش في بكاء حار أشبه بالأنين .. دافناً وجهه في راحتيه .. نادباً أيامه في احضان زكية الدافئة الحنون .. حتى بلغ به الشوق لها ، ولأيامها ولياليها المليئة بالنشوة والشهوة أقصى مداه ، وكان كالمستغرق في حلم لذيذ ، فتذكر لمسة الحب الاولى في حياته ، وكيف كان أنين رغبتها الجامحة يتصاعد مع تردد انفاسه المتلاحقة المتلاطمة . لقد أخذ من رائحة جسدها ، وملمس لحمها ، ودفء انفاسها اقصى ما استطاع من ذكريات لتكون زاده ايام الوحدة الباردة ، وما أكثرها .. كل ذلك قد تلاشى ، وأصبح نفخة في رماد !
كان المساء قد اقترب .. وخفت الحركة الا من كلاب ضالة ، وصفٍ من الأطفال الصغار المتسخين ، وهم منهمكون في نبش القمامة ببطء بعد أن أخذ التعب منهم كل مأخذ .. يلتقط معيوف من القمامة ما يسد به جوعه .. عندما لمح صبية من جامعي القمامة في طور التفتح والنضج ، فاستيقظ ذلك الوحش الباحث دوماً عن قنص .. في جسده الذي اعتاد النشوة ، وانتفضت عروقه بالدماء ، وعصفت بنفسه نيران الرغبة ، فأخذ يحدق فيها وفي جسدها .. متفحصا ثناياه بعيني خبير مجرب ، ويتابعها بنظره كحيوان بري يتربص بفريسته ، ويوجه لها سهام نظراته الجائعة .. راسماً ابتسامة ذئب على شفتيه .. بدا وجهه شاحباً منفعلاً مغموراً بالعرق .. عاجزاً عن التحكم بنفسه ، وان الامور يمكن ان تنفلت في أية لحظة .. يبدو وكأنه قد بيّتَ شيئاً في ذهنه ، ثم تحفَّز وابتسامة بلهاء أشبه بالتكشيرة مرسومة على محياه !
وذات صباح صيفي حار ، وفي هدوء تام اعتاد الحي ان يرقد بسلام في قاعه ، استيقظ سكان الحي .. أخذوا يتلفتون فلم يجدوا لمعيوف من أثر ، وبعد أيام من البحث عثروا عليه مخنوقاً ، وقد أسلم الروح ، وملقى في أحد المزابل خارج حدود الحي ، وعلى وجهه ظل ابتسامة مبتورة غامضة عجز حتى الموت بجبروته عن اطفائها .
كان يوماً عاصفاً مزدحماً ومتخماً بالأحداث ، لكن مقتل معيوف كان الحدث الابرز والأكثر أهمية .. جاءت الشرطة متثاقلة يسبقها صوت سرينة سيارة النجدة لأجراء التحقيق الشكلي .. في يقينهم لم يكن معيوف سوى زيادةً لحمية هامشية لا قيمة لها ، فوجوده من عدمه لا يؤخر ولا يضيف .. لكن الواجب يقتضي التحقيق للوصول بالمجتمع الى ما يطلقون عليه بالعدل .. تلك القاعدة الاساسية البعيدة المنال دوماً لأناس وجدوا على هامش الحياة خطأً في الزمان والمكان كمعيوف .
لم تُنسب تهمة القتل لشخص معين ، فالزوج وقد ترك الحي قبل الحادث بأسابيع ، فتحول مسار التحقيق الى بعض الصبية من جامعي القمامة الذين أنكروا علاقتهم بالامر ، فقد شوهد معيوف هناك بشكل يومي تقريباً لالتقاط ما يسد به رمقه من بقايا طعام تعافه النفس بعد أن ضاق عليه المصير ، وتخلى عنه الجميع ، وأنكروه بما فيهم أهله الذين نسيهم أو نسوه ، وانتهى التحقيق الى تقييد القضية بأسم مجهول ، وهكذا .. بلغت مأساة الطفل أو الرجل نهايتها المؤلمة ، وذهب ضحيةً لنزق امرأة عبدة مملوكة لشهواتها الحيوانية .. !!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا