الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دروس أفغانستان... لمن يعتبر! (الجزء 1 من 3 )

آلان م نوري
(Alan M Noory)

2021 / 9 / 4
مواضيع وابحاث سياسية


حرب طويلة، مكلفة، و... مربحة!
بعد قرابة 20 عاما من بَدْء الاجتياح الأمريكي لأفغانستان، و إنهاء سلطة "أمارة أفعانستان الإسلامية" التي أنشأتها جماعة غامضة آنذاك، عرفت بـ "الطالبان"، عادت الحركة لتكتسح معظم جغرافيا البلد في أسابيع قليلة بعد بَدْء انسحاب القوات الأمريكية و حليفاتها. الانسحاب جاء ضمن اتفاق مسبق، توصل اليه رئيس الولايات المتحدة السابق دونالد ترامب مع حركة طالبان، في نهاية حِقْبَة ولايته.التزم بالاتفاق الرئيس الجديد، جوزيف بايدن، الذي أخّر الانسحاب ثلاثة أشهر دون أن يتمكن من تفادي نهاية مخزية لمؤسسة "الحكم" التي نصبتها الولايات المتحدة، و أنفقت عليها و على الحرب بجانبها (حسب تقرير جامعة براون الأمريكية) حوالي تريليون و خمسمئة مليار دولار، باﻹضافة إلى حوالي 825 مليار أنفقت لحد الآن على مصاريف رعاية محاربي هذه الحرب القدامى و فوائد الدين العام المترتبة عن مصاريف أفغانستان في الميزانية الاتحادية الأمريكية. وتقدّر الـ BBC أن بريطانيا و ألمانيا اللتين شاركتا بأكبر عدد من القوات بعد الولايات المتحدة، قد تكلّفتا لحد الآن حوالي 50 مليار دولار اضافية. أي أن معدل الكلفة السنوية للحرب في أفغانستان كانت حوالي 115 مليار دولار سنويا (و هي، على سبيل المقارنة، أكثر من الموازنة العامة في العراق لسنة 2019، أي قبل إجراءات التقشف). لو قسمنا هذه الكلفة على سكان أفغانستان (حوالي 39 مليون نسمة) لكان نصيب الفرد الواحد سنويا من هذا الإنفاق العسكري، أكثر، بنسبة 35% من متوسط الدخل السنوي للفرد الأفغاني، وَفْقاً لآخر إحصائية للبنك الدولي عام 2019! في حين أن مجموع ما انفق خلال هذه العشرين سنة على إعادة إعمار هذا البلد المستنزف لم يتجاوز معدل إنفاق سنة واحدة على المجهود الحربي و التدميري الذي لم يتوقف طوال العشرين سنة الماضية. و اغلب أموال إعادة الإعمار ابتلعها أُخْطُبوط الفساد الذي قل أن وجد له نظير في التاريخ المعاصر، و لا ينافسه، حسب دراسات المؤسسات الدولية المعنية بمراقبة الفساد، سوى البلد الثاني الذي احتلته الولايات المتحدة و نصبت فيه مؤسسات حكم مشابهة لما نصبت في أفغانستان؛ و هو العراق!
اضف إلى هذه الصورة المهينة، مشاهد العذاب الإنساني التي نُقلت يوميا عبر شاشات التلفزيون لعشرات الآلاف من الأفغان الذين تكدسوا عند بوابات مطار كابول يوميا، أملا في اللحاق بآخر الطائرات المغادرة للهرب إلى منافي العالم خوفا من بطش طالبان و أملا بحياة افضل مما ينتظرهم بعد انسحاب القوات الدولية التام و رحيلها، الذي اكتمل نهاية الشهر.
حسب التقارير الرسمية الأمريكية، فأن كلفة هذه الحرب بالأرواح البشرية خلال هذه العشرين سنة، (بضمنها ضحايا التفجير الانتحاري الأخير عند إحدى بوابات مطار كابول) كانت كالآتي:
الضحايا المدنيين:47415، قتلى المؤسسات العسكرية و الأمنية الأفغان: 66000 قتلى طالبان و الفصائل المقاتلة الأخرى: 51190، قتلى عاملي الإغاثة: 444، قتلى الصحفيين: 72، قتلى الجنود الأمريكان: 2461، قتلى قوات الناتو الأخرى: 1144، قتلى متعاقدي الشركات الأمريكية العاملة في المجال الأمني و العسكري: 3846.
أي، أن معدل عدد القتلى السنوي كان 8626 قتيلا من كل الأطراف (الغالبية الساحقة منهم أفغان و أكثر من 40% من هؤلاء مدنيون عزل).

"طالبان": الأطفال المسحورون
حركة طالبان دخلت معترك الصراع المسلح في أفغانستان، قبل حوالي 30 عاما، كجماعة مسلحة منضبطة من طلاب المدارس الدينية في مخيمات اللاجئين المتجانسين عرقيا و قبليا في بلدة بيشاور الحدودية الباكستانية. أغلب هولاء كان انضمامهم، و هم أطفال صغار، إلى المدارس الدينية، وسيله اعاشة لهم و لعائلاتهم التي كانت إما فقدت معيلها في الحرب، أو تخلف عن اللحاق بها الأب مقاتلا في حرب عبثية بين أمراء الحرب الذين انهوا حكم الشيوعيين الأفغان عام 1992 ليتفرغوا لقتال بعضهم.
و كان الطفل الذي يلتحق بهذه المدارس يتم التكفل به و بعائلته من أموال السُّعُودية و غيرها من الدول الداعمة للـ "جهاد ضد الشيوعية" طوال فترة نهاية السبعينات و الثمانينات. فنتج عن ذلك أن اطفالا من قبائل تربطها روابط دم من إثنية البختون حصرا، صاروا في سن صغيرة جدا يعيلون عائلاتهم التي خلت في معظم الأحيان من أب. و النساء في بيوتهم كن عرضة للعيون المتصيّدة التي تحاول استغلال الفقر و العازة و قلة الحيلة للاعتداء عليهن، في مدينة تتحكم بها عصابات تجارة المخدرات.
أنتجت هذه المعاناة اليومية فصيلا مقاتلا متجانسا، إثنيا و قبليا، لم يجد معظم مقاتليه من يعتبره أبا سوى المسؤول التنظيمي الذي فرض الطاعة العمياء. نشأ على تحقير التنوع و الاختلاف (في بلد التنوع العرقي و الإثني و القبلي و الثقافي) و ساوى بين التنوع و أمراء الحرب الجشعين. تعلم الدين في مدارس ترسخ القسوة و تمزج الأعراف القبلية بالعقائد الدينية. نموذجها عن المرأة الأم و الأخت و الزوجة، هي اللاجئة مكسورة الجناح، التي لا حول لها و لا قوة و المعرضة للاعتداء لحظة خروجها من البيت، فأصبح سجنها في البيت و إخفائها عن الأعين من لوازم العقيدة الدينية عنده.
قدم انضباط طالبان العسكري و قسوتهم في فرض "النظام" حتى على مقاتليهم، نموذجا مختلفا عن أمراء الحرب الأفغان الذين اشتهروا بالفساد و انتقائية "نظم" أحكامهم الجزائية و تجارتهم بالمخدرات و العبودية الجنسي…الخ. فأنبهر العالم بقدرة طالبان على حسم المعارك مع أمراء الحرب البختون واحدا بعد الآخر، حتى باتوا خلال سنوات قليلة على أعتاب السيطرة على كامل أفغانستان. و لم تتعثر ماكنتهم العسكرية (قبل الاجتياح الأمريكي) إلا بعد دخولهم إلى المدن الكبيرة و المناطق الجغرافية التي لا يشكل البختون فيها أغلبية سكانية.

طالبان و وهم عداء أمريكا
بعد سيطرة حركة طالبان على مساحات واسعة من شمال أفغانستان، منذ عام 1998، باتوا، واقعيا، حكام أفغانستان. بدأوا بمحاولة تجاوز المخابرات الباكستانية سعيا للارتباط المباشر بالحكومة الأمريكية، التي كان يرأسها آنذاك بيل كلينتون، في نهاية ولايته الثانية. اتصل الطالبان بشركة هاليبرتون التي كان ديك تشيني، الشخصية القوية في محافل الحزب الجمهوري في هيئة إدارتها، و الذي سوف يصبح لاحقا نائب الرئيس الجديد بعد فوز الجمهوريين بقيادة جورج بوش الابن بالرئاسة الأمريكية عام 2000. وظف الطالبان، في أثناء الحملة الانتخابية الأمريكية، خِدْمَات كوندليزا رايس (التي ستصبح من قيادات الأمن القومي الأمريكي و وزيرة الخارجية في إدارة بوش الجمهورية لاحقا) لعرض خدماتهم في تأمين خط أنبوب نفط استراتيجي مقترح، يربط الجمهوريات السوفيتية السابقة المنتجة للنفط بالسواحل الباكستانية عبر أفغانستان، لقطع الروابط الاقتصادية بين تلك الجمهوريات و روسيا الاتحادية. طالبان التي باتت تنظر بجدية إلى أعباء حكم أفغانستان، كانت تحتاج أن تثبت لأمريكا قدرتها على السيطرة الكاملة على البلد قبل أن تعامل معاملة دولة.

طالبان الممزقة بين هويتين
قبل أن يتسنى لنسخة طالبان 0.1 أن تسيطر بالكامل على أفغانستان و تختبر قدرتها على بناء و إدامة علاقات دولية، بنت هُوِيَّة لها في داخل أفغانستان كبطل للقومية البختونية و تقاليدها القبلية و الريفية قبال الهيمنة الثقافية للتاجيك المتكلمين بالـ (دارية) - اللغة الرسمية للدولة الأفغانية الممتدة هيمنتها إلى قرون سابقة، وكذلك قبال الثقافة و اللغة الأوزبكية التي كانت أيضا لغة رسمية موازية في إمبراطوريات ما بعد الاجتياح المغولي للمنطقة.
مشكلة تبني الهُوِيَّة القومية البختونية، هي أن البختون ينقسمون كمجموعة أثنية ضخمة بين أفغانستان و باكستان. و تُلاقي باكستان صعوبات كبرى في السيطرة على مناطق القبائل البختونية و تعدُّ النزعة القومية البختونية الطامحة في كيان سياسي موحد للبختون في وسط آسيا، تهديدا لوحدة باكستان و سيادة الدولة الباكستانية عليها.
تحولت الحرب الداخلية في أفغانستان منذ 1994، و خصوصا بعد سيطرة طالبان على العاصمة كابول، إلى حرب إثنية بين طالبان البختونية و تحالف الشمال المكون من أحزاب شمالية للتاجيك و الأوزبك و الشيعة الهزاره و هم تاجيك بهوية ثقافية شيعية مميزة.
بروز الطالبان بهوية قومية بختونية أدى إلى فتور علاقاتها بالمخابرات الباكستانية و انقطاع الدعم المالي و العسكري الباكستاني. فدخل على الخط ملياردير سعودي من قدامى المحاربين ضد السوفيت،اسمه بن لادن، مع فصيله المسلح المعروف بالقاعدة! ليملأ الفراغ المالي و اللوجستي الذي تركته المخابرات الباكستانية في المجهود الحربي لطالبان.
لكن بن لادن كان قد دخل لتوّه في صراع مفتوح مع الولايات المتحدة بعد تفجيرات استهدفت المصالح الأمريكية في عدة بلدان في العالم، توّجها تنظيم القاعدة بهجوم انتحاري بطائرات مدنية، بركابها، استولى عليها الانتحاريون، ليضربوا بها مدينتي نيويورك و واشنطون. طالب بعدها الرئيس الأمريكي المنتخب لتوه طالبان بتسليم زعيم تنظيم القاعدة ...والا!

دروس مما سبق ذكره...
الدرس الأول: حرب العشرين عاما الأفغانية ما كان لها أن تستمر كل هذه المدة لولا انخفاض الكلفة البشرية التي تكبدتها قوات التحالف الدولي و الوفرة المالية الهائلة التي رافقت إنفاق هذه القوات و غذّت توظيف أكثر من 300 ألف أفغاني (اغلبهم فضائيون، والعبارة مستعارة من التندّر الشعبي العراقي لوصف من يتلقى اجرا لقاء عمل وهمي) في الجيش و القِوَى الأمنية، و عقود كبرى لشركات القطاع الخاص الأجنبي اللوجستية و الأمنية في أفغانستان و الشركات المصنعة للأسلحة و المُعِدَّات في المجمع الصناعي العسكري الأمريكي و الأوروبي.

الدرس الثاني: التشدد و القسوة و "العدالة" في توزيع الظلم، و مزج التعصب القبلي و العرقي و الجنسي بالتدين، رغم كونه شرا اهون من أمراء الحرب المتقاتلين قبل سيطرة طالبان، فإنه في جوهره كان و لا يزال اعتداء سافرا على المجتمع و الدين معا، لا يشفع له الطفولة المعذبة لمرتكبيه.
الدرس الثالث: أن عداء طالبان لأمريكا على أسس عقائدية، هو وهم يحمّل الواقع ما لا يحتمل. طالبان كغيرها من حركات بلدان العالم الثالث المتشبهة بالفاشية، و العنيفة منهجا لا اضطرارا، يحرك بوصلتها العقائدية و السياسة التعطش للسلطة لا غير.
الدرس الرابع: طالبان المتشبهة بالفاشية و العنيفة منهجا، بدت قبل عشرين عاما، شريكا تجاريا مقبولا لقوى متنفذة في الولايات المتحدة، شريطة إثباتها القدرة في السيطرة على البلاد… و يبدو أن هذا بالضبط هو عنوان التوجه الأمريكي مستقبلا أيضا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما التصريحات الجديدة في إسرائيل على الانفجارات في إيران؟


.. رد إسرائيلي على الهجوم الإيراني.. لحفظ ماء الوجه فقط؟




.. ومضات في سماء أصفهان بالقرب من الموقع الذي ضربت فيه إسرائيل


.. بوتين يتحدى الناتو فوق سقف العالم | #وثائقيات_سكاي




.. بلينكن يؤكد أن الولايات المتحدة لم تشارك في أي عملية هجومية