الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مجتمع -العطية-... نحو نموذج تفسيري جديد

زكرياء مزواري

2021 / 9 / 7
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لا ينفي عاقلٌ حجم الإبداع الذي بلوره الكائن الإنساني وهو يسعى إلى تدبير شأنه العام، ذلك أن طبيعته الميّالة إلى الاجتماع، ما كان لها أن تضمن البقاء لولا الآليات التي أنشأها هذا الكائن. فالسياسة كنشاط وفعالية مارسها الإنسان منذ القدم، ومورست بأشكال مختلفة لدى كلّ المجتمعات. لكن، أرقى أشكال هذا التدبير هو النظام الديمقراطي في صيغته الحديثة، كنظام ينظر للدولة كمجموعة من المؤسسات التي عبرها تمارس السلطة، وهذه الأخيرة مؤطرة بترسانة قانونية قوية. هذا النظام الذي يؤمن بتداول السلطة، عبر العملية الانتخابية، مكّن المجتمعات من تحقيق الحق وإقرار العدل.
سياق ولادة هذه الدولة معروف ومرتبط بعصر جديد هو عصر الحداثة السياسية، كنمط تبلور في المجتمعات الغربية، وأخذ حيزاً زمنياً مهماً في تجذير الوعي به اجتماعياً. لكن، عندما انتقل هذا الشّكل إلى المجتمعات الثالثية -عبر الآلة الاستعمارية- وقع شرخٌ في جسم هذه الأخيرة، فهي وإن تبنت بنية الدولة الحديثة –مؤسسات قوانين وضعية...- فإنها ظلت مجرد "بنية سطحية"، وما كان يعتمل في جوف هذه الدولة هي "البنية العميقة" القائمة على "الولاءات" و"الإكراميات" و"الهبات"...لذلك، تبقى العملية الديمقراطية شعاراً تلُوكه الألسن كلّما اقتربت مواعد الانتخابات.
لفهم "الكرنفال الانتخابي" المغربي جيداً، ينبغي أن نقف مليّاً عنده، ونتأمل في جانب من جوانبه المشتغلة في الخفاء، قصد إماطة اللّثام، وكشف المستور، وتعرية اللاّمفكر فيه. وفي هذا الصدد، سأسلط الضوء على مثالٍ واحدٍ، ويحق للقارئ النّسج على منواله بأمثلة أخرى، ما دمنا نرى فيه تجسيداً "للحظة النماذجية". هذا الدّال هو ما نطلق عليه ب"نموذج العطايا"، لكن ماذا نقصد به؟
أولاً، ينبغي تحديد هذا الدّال لغويا، فهو لفظٌ مشتقُّ من فعل "عطا" بمعنى منح، وجمعها "العطية" أي ما يعطى دون مقابل. لكن، هذه الدلالة اللغوية لا تسعف في فهم "نموذج العطايا" الذي نروم تعقب روحه المبثوثة في النسيج الاجتماعي، ومن ثمة، نحتاج إلى بناء مدلوله، فنقول: إن "العطية" أو "العطايا" ليست دائماً الأشياء الممنوحة دون مقابل، وليست هذه الأشياء المتبادلة تتخذ دائماً صبغة مادية، بل تحمل أيضاً أشكالاً رمزيةً. وبهذا نعني ب "نموذج/نسق العطايا" الآتي: "هو كل شكل من أشكال التبادل يقع بين الفاعلين الاجتماعيين، ولا يقتصر على تبادل الخيرات المادية فقط، بل يتعداه إلى الخيرات الرمزية، ويخضع لضوابط وعلاقات محددة ومبنية اجتماعيا".
لبسط مقدرة هذا التعريف الإجرائية، ورصد قوته التفسيرية، سأحتاج إلى الوقوف عند تمثلات هذا اللفظ المشترك الذي يحيل على أكثر من حقل، وأفضل هنا الانطلاق من الحقل "الجنسي" لسبب ذاتي لا أقل ولا أكثر، وهو أن ذاكرتي منذ الصّبا ربطت بشكل ميكانيكي بين الدال ومدلوله؛ فكنّا نطلق لفظ "العطاي أو العطايا" على كل فرد مفعولٍ به جنسياً، وقد يأخذ على ذلك مقابلاً مادياً وقد لا يأخذ. ثم بعد ذلك بدأ إدراكنا يتسع، وبتنا نستعمل اجتماعيا اللفظ في سياقات أخرى، فعندما تقع مشاجرة بين الأفراد سواء بالكلام أو بالضرب وينتصر طرف في هذه المعركة، نقول: "والله إيلا عطاه/عطاتها علامن يدور/تدور". أو في مجال االزواج، إذ غالباً ما يوظف اللفظ لوصف المصاهرة التي تحدث بين أسرتين، خاصة من جهة الأنثى، فيقال: "راه عطات بنتها لولاد فلان". كما نجد للدال أيضاً حضوراً في المجال الاقتصادي، ففي المفاوضات الشرائية مثلا نستعمل العبارة الآتية:"شحال عطاوك فيها" أو "شحال تعطيني فيها" أو عطاوني فيها كذا" إلى غير ذلك. ويمكن أن نجد اللفظ في المجال المعرفي، فعندما نقرأ مقالا ذا طبيعة سجالية، ونرى صاحبه يفحم خصمه بحجج قوية، نقول: "مسخوط، والله إيلا عطاه العصير"، وهكذا.
عوداً على بدءٍ، أقول إن مناط هذه المقالة هو الوقوف بشكل نقدي على المسمى بالعملية الانتخابية، ورصد طريقة اشتغال "نموذج/نسق العطية" في هذه الحملة، ويكون من اليسير فعل ذلك متى أرخى الواحد السمع للتقاسيم الدقيقة التي تعتمل في جوف العملية. لننظر مليّاً لهذا النشاط وطريقة الدعاية لحزب من الأحزاب السياسية الموجودة في الساحة، غالباً ما نجد الفاعل السياسي مُحنكاً ("من هنا كاملين عندهم لحنوك") على مستوى الترويج والتسويق لبرنامجه الانتخابي، إذ يستثمر كل الآليات التي تخول له النفاذ إلى أذهان الأفراد قصد إقناعهم بالتصويت لصالحه، وقد تكون هذه الأدوات تقليدية كما تكون حداثية، ما دامت الغاية واحدة. هبْ أن شخصاً مترشّحاً وثريّاً في جماعة أو مدينة ما، يريد الظفر بأكبر قدر ممكن من الأصوات، سيكون مخططه واضحاً وبسيطاً وهو منح المعطى له قدراً مالياً معيناً أو تقديم خدمة ما، في مقابل ذلك يحتاج هذا الأخير أن يرد على الهبة المعطاة له، وكأنها صارت نظاماً إلزامياً، فتجد القيمة المناسبة في هذا المقام هي الصوت الانتخابي. وقد يسلك مترشح آخر سبيلاً غير المال/الخدمة، إذ يستثمر الموروث القبلي ويستنجد بالعصبية حتّى تقوى شوكتها بين القبائل، ويكون الظفر بالغنيمة مبتغاها، وهذا ما يفسر التوجه صوب المعارف والأقارب لجني أكبر نسبة من الأصوات. وقد يحصل مع مترشح آخر ذا نفسٍ هيجيلي (نسبة إلى هيجل وجدليته الشهيرة: الأطروحة/النقيض/التركيب)، فيجمع بين المعطيين المادي والرمزي في حملته، وهكذا.
في جميع الحالات، نجد الفاعل السياسي مِعْطَاءً؛ قد يُعطي وعوداً، مالاً، وهماً، أملاً، خلاصاً..، ونجد المستهدف ملزماً بشكل غير مباشر على قبول العطاء، بل والرد عليه. وهكذا، نعيد إنتاج ذهنية العطايا/العطية باستمرار، ونكون بذلك شعباً "عطّاياً" بامتياز، منطبقاً علينا القول الشعبي المأثور: "حاكْمة غي للعطايا فهاد لبلاد".
والله أعلم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شاهد كيف تحولت رحلة فلسطينيين لشمال غزة إلى كابوس


.. قتلوها وهي نائمة.. غضب في العراق بعد مقتل التيكتوكر -فيروز أ




.. دخول أول دفعة من المساعدات الإنسانية إلى خانيونس جنوبي قطاع


.. على وقع التصعيد مع إسرائيل .. طهران تراجع عقيدتها النووية |#




.. هل تتخلى حركة حماس عن سلاحها والتبعية لطهران وتلتحق بمعسكر ا