الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اشتعال -3-

نادية خلوف
(Nadia Khaloof)

2021 / 9 / 8
الادب والفن


تخجل أن تصرخ : آخ
تخفض رأسك
تعضّ على شفتيك
آخ !
لو تنتهي الرّحلة كيفما كان
لو أموت بهدوء وينتهي كل شيء
أخجل منّي لأنني مسنّة
يجب أن أتصرف أنّني مقبلة لى الموت ، لأنّ عمري يستحق
هو فعلاً يستحق
أذكر يوم قالت لي أمي : أتمنى الموت
اليوم أنا مثلها أتمناه .
هنا تنتظر دورك في العلاج
و يأتي دورك ، تدخل مذعناً ، بعد دقائق تشعر أنّك بين أيدي أمينة فتستقرّ ، وتبدأ الآلة في الزعيق، تدور حولك ، ترسل إشاراتها الخضراء ، و لا ألم. لا ألم و أنت بين فكيّ الآلة القاسية الرّحيمة. تحاول النزول عن الآلة وجسدك الطريّ ملتصق على جسدها الصلب، تشعر أن بعض عظامك قد تأذى، لكن لا بأس !
كيف جعلوا تلك الآلة تفهم ألمي ؟
أشعر بها تقبض على الورم بفمها ، يحاول الورم الإفلات، فتطارده.
لعبة الشرطة و الحرامية تكون في خاصرتي .
أصبحت أتعامل مع تلك الآلة كسلطة قويّة عليّ طاعتها.
أخرج من باب مركز العلاج منهكة، أحاول التقيؤ ولا أستطيع، أنتظر السّيارة كي تعيدني إلى الفندق، ومعي عشرات المرضى ينتظرون سياراتهم ، أراقبهم ، أغلبهم فقد عضلات رجليه، فأصبح الجزء العلوي لجسده أقوى من الجزء السّفلي.
لا شكّ أن أولئك البشر أولاد عائلات، و أصحاب عائلات مثلي، لكنّهم لا يشكون مثلي. متى شكوت؟ أشكو بصمت، أستسلم ، أتفاءل ، و أتشاءم حسب لغة جسدي في تلك اللحظة .
كيف يمكن أن أقضي اليوم في ذلك الفندق بعد العلاج؟
أعود من العلاج ، أشعر أنّ جسدي منهك ، وكل شيء لديّ مفتوح. الرحم، و المثانة و المستقيم. لا أستطيع ، أقرّر أنني أبالغ، أخرج من الفندق، أسير باتجاه الغابة ، وفي طريقي أشاهد الفتيان يلعبون كرة القدم .
في إحدى المرات، وبينما كنت أسير في ممرّ ضيق في الغابة رأيت أفعى تلتف على أفعى . إنه الخبّ. ابتسمت، ثم غيّرت طريقي ، فمن سوف يراني لو لدغتني أفعى و أنا وسط الأشجار؟
. . .
في الذهاب إلى مركز العلاج ، وفي الإياب تقلّني تاكسي خاصة بالمرضى ، أغلب السائقين ليسوا سويديين ، بل أغلبهم من السويدين ذوي الخلفية الأجنبية كالصوماليين و السوريين ، و المغاربة. في إحدى المرات كان السائق الذي يقلني إلى منزلي إيزيدي ، سمعته يتحدث الكردية، و باعتبار أني أفهم القليل من الكردية فهمت حديثه، لكنه يجيد العربية أيضاً . تعارفنا ، وفي الطريق سألني إن كان يستطيع أن يأخذ فنجان قهوة من مطعم أولاده، كما سألني ماذا أحبّ أن آكل. قلت له أن يجلب لي سندويشة فلافل ، وعندما عاد أتى بصندويشة فلافل وكولا، لكنه رفض أن يأخذ ثمنها . كنت جائعة جداً ، لم أتذوق الطعام منذ الأمس لأن الغثيان يمنعني ، لكنّني كنت ضعيفة أمام سندويشة الفلافل ، فقد كانت ملفوفة برغيف كردي سميك، وكبيرة إلى حد أنها تكفي أكثر من شخص ، أكلتها حتى آخر لقمة، شعرت بالسّعادة ، نسيت أنّني مريضة إلى أن حلّ المساء، وبدأت أمعائي تتقاتل . طبعاً لم أندم لأنّني أكلتها!
لكل سائق مزاجه، في مرّة كان السّائق لبنانياً فقال لي: لبنان أفضل من السويد، كنت أتقاضى راتب 3 لآف دولار ، ثم بدأ ينفخ بماضيه، و أنه لا زال يملك الأطيان. نظرت إلى سيارته القديمة وعرفت أن حديثه لا أساس له من الصّحة .
الرحلات في التاكسي أصبحت جزءاً من حياتي ، وفي مرحلة من العلاج وهن جسمي كثيراً، أصبحوا يطلبون لي تاكسي من نوع آخر. تاكسي تحتوي على سرير في الخلف، وكل مواد الإسعاف .
تشبه الرّحلة إلى المستشفى أحياناً رحلة إلى الموت ، عندما يشتدّ الألم ، و لا تستطيع ضبط حركة أمعاءك، و تخشى أن تفقد السيطرة على عالمك السفلي تتوتر ، و تتمنى أن تصل إلى مركز العلاج كي تعيش في التواليت ريثما يأتي دورك في العلاج .
السائق الصومالي ينصحني بسماع القرآن كدواء شاف لكل الأمراض، أقول له شكراً من باب الأدب، ثم أعاتب نفسي لماذا لم أتحدث له عن العلم. ما أ غباني! كيف يمكن لي أن أقنع أحداً بغير ما تربى عليه؟
تأتيني النصائح على الماسنجر : كلي الثوم. كلي المكسرات. اقرئي القرآن ، و بعضهم يرسل لي ترتيلات مرعبة، فالموت أقلّ وطأة من تلك الأصوات .
أدخل إلى الجلسة ، أشعر بالموت ، أصعد بهدوء لأستلقي تحت ذلك الجهاز الذكي ، لكنّني أشعر بالغثيان ، أحتمل حتى النهاية ، أقول للمعالجة أنّني أشعر بالتعب الشديد ، تقودني إلى الميزان متعاطفة معي. هي لا تستطيع أن تمنح طاقتها لكلّ الذين تعالجهم، لكنها تطبّق ما تلقته من علوم حول أهمية التعاطف. أقف على الميزان . تقول لي: نقص وزنك . انتظريني لحظة. تأتي بعد دقائق ، وبين يديها قناني المغذي، تطلب مني أن أتناول اثنتين منها في المساء ، ومثلهما في الصّباح.
نسيت بعض أوجاعي ، أسألها دون سؤال: هل سوف يطول بي الأمر
لماذا كل ذلك البذخ في العناية
رأيت الموت كثيراً
يسوي شربة ماء
لماذا يصرّون على شفائي؟
رجعت إلى ماض ليس فيه سوى المحال
لماذا تهتم بي تلك المرأة ، و قد أتيت من الخراب
لو سألت أمي عنّي
لو كان لي وطن يحمي كرامتي
لو عشت حياة مليئة بالاحترام
لما خجلت لأنّني أكرّم بالدّواء
تعطيني تلك المرأة مشروباً من الغذاء
لا تطلب ثمنه
و أنا الذي كنت أدفع ثمن الرغيف من عزتي
فقدت هناك كرامتي
هل يعيدها إلي مشروب الغذاء؟
ضعيفة من الداخل و الخارج، هزيلة الجسد، ترتجف يداي ، و تتعثر قدماي ، أصرخ بي: قفي! كفاك دلالاً ، الوقت حاسم ، ليس الآن وقت الدلال. أترنح ، أحسب حساب المهدئ الذي سوف أتناوله. هو اليوم أكسير الحياة بالنسبة لي، يشبه القائد الأوّل، المعلّم الأوّل ، يسيطر على حياتي.
كم أنا مخطئة بحق ذلك المهدّئ ! ليس من حقي أن أصفه بالدكتاتور، إنه بلسم الرّوح ، ها أنا الآن أشعر بألم أقل ، أذهب في جولتي المعتادة، أصور ذكراً و أنثى من الطيور ، أنظر إلى الغيوم الرطبة، يمتلئ صدري بهواء الرّبيع. إنّه المهدئ يعطي مفعوله. لا بأس أن أزيد المعدل. لا يذهب ذهنكم بعيداً ، فجسدي رفض المورفين ، فقط أستعمل " الألفادون". لدي علية مورفين على الرّف لا أستعملها .
. . .
الرّحلة تتكرّر، الأمل يتكرّر، الموت يتكرّر، الألم يتكرّر ، فقط السّائق يتغير .
أصبحت الرحلة إحدى عاداتي التي أرغمت عليها.
أضيع على الطرقات بعد أن حلمت عمراً ببيت يأويني، أحبه ، يحضنني.
أصبحت الرحلة إلى بيتي حلماً .
يقول لي الطبيب أنّ الأمر يستحق
هل يستحق؟
عندما أتيت عبر البحر غير خائفة من الموت ، لم أشعر بالصدمة الحضارية، بل كنت أسأل نفسي على الدّوام: هل الأمر يستحق تلك التضحية الكبيرة؟ ماذا سوف يجري لو لم أسلك طريق اللجوء ؟ رحلة لجوئي كانت صعبة، وفي خيمة اللجوء كان الوضع أصعب بالنسبة لي.
كانت رحلة ، قدّمت فيها حياتي للمجهول
سألتني مراراً لماذا أتيت هنا
أليس الأفضل لو متّ هناك؟
لم يكن الجواب مقبولاً، فاليوم أحصد تكريمي هنا، هم لم ينصبوا لي تمثالاً، ولم يفرشوا لي الدرب بالورود .
كانت رحلة اللجوء تستحق
كلّ الأشياء التي حصلت لي لم تكن تعنيني لولا المرض
الآن عرفت لماذا يكون اللجوء ، فلو كنت هناك لما استطعت حتى أن أذهب بالتاكسي ، لن يكون لدي المال، ولا الطبيب ؟
أنظر إلى نفسي، أشعر أنّني إنسان
حصلت على حق الإنسان في العيش و التكريم .
. . .
عن الحياة
الحياة ليست " مسرحاً" بل رحلة
رحلة تتدرّب فيها على الموت
على العودة من الموت
على الوجوه الغريبة
على لحظات ضعفك
أنت وحيد ، تهرب من عيون النّاس
متّهم لن تثبت براءتك
ينتظر الأحبّة أخبارك ، ساعة الحسم
تقول: أنا بخير !
لا أحد في انتظارك سوى السّائق
جمعت أشيائي ، وضعتها في حقيبتي ، سوف آخذها معي إلى مركز العلاج، وبعد الانتهاء سوف تقلني السيارة إلى بيتي ، وصلت إلى باب المركز، أبرزت بطاقتي الصفراء التي كتب عليها مواعيد العلاج .ناولني الموظف على الباب قناع حماية الفم و الأنف ، وغسلت يديّ بالمعقم، ثم حمل حقيبتي ، و أدخلها إلى غرفة الاستقبال . دخلت إلى غرفة العلاج ، وضعت الحقيبة جانباً . أتت السيارة قبل أن أنهي الجلسة فطلب منها المعالج أن تنتظر. كان السّائق في هذه المرّة عراقياً ، تحدث لي عن معاناة عرب العراق، وقال أن اسم عمر أصبح شبه ممنوع في منطقتهم، كان يسألني إن كنت أشعر بالألم، وهي مهمة السّائق الذي يتعاقد مع المستشفى ، مهمته هي العناية بالمريض خلال الرّحلة . سألني إن كنت لا أمانع أن ينزل لدقائق كي يجلب فنجان قهوة ، فالرحلة طويلة ، رأيته يجلب لي فنجان قهوة ، مع علبة كولا. كنت ممنونة لأنّني أحتاج أن يبرد جسمي بالكولا .
يتواصل معي ابني ، ثم ابنتي، يسألون إن كنت أشتهي طعاماً معيناً ، اختصرت الحديث، قلت لهم : أنا بخير، ولا أريد أن تحضّروا أي شيء . لم أكن باستطاعتي الحديث ، لم تساعدني شفتاي ، لكنّ لا أرغب أن أكون عبئاً حتى في مرضي.
تذكرت أشياء من الماضي ، وكيف يتذمّر الأبناء من رعاية الأمهات ، صعوبة الحياة جعلت الناس غير قادرين على الإنفاق .
في بلادي من أسوأ الأشياء أن تكون أماً
أن لا يكون لك منزلاً مستقلاً
أن لا يكون لك حداً أدنى للعيش
أن لا يكون لك رعاية طبية
أن تعيش تحت رحمة الأبن
أن يمشي خلفك الأحفاد يقلدون ضعفك بدلاً من أن يأتوا إليك في دارك، ويحتموا بك. تفقد هويتك، تتمنى الموت في كلّ لحظة .
في رحلتي اليوم لا أتمنى الموت ، بل لديّ أمل كبير بالحياة ، سوف أبدأ من جديد ، فأنا لم أبدأ بعد .
ما دمنا على قيد الحياة سوف نستمر في رحلاتنا ، و سوف نتمتّع ببعضها ، يؤلمنا بعضها، نندم على بعضها، لكن الرحلة مستمرّة ، و الحياة مستمرّة أيضاً.
سوف أبدأ اليوم في رمي ذاكرة الألم، في استبدالها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - هل تصدقيني؟؟
ماجدة منصور ( 2021 / 9 / 8 - 11:04 )
هل تصدقي لو قلت لك بأني أتمنى أن أُصاب بالزهايمر !! فقط كي أتخلص من ذكرياتي في سوريا0
آه لو تعلمي عن قسوة عيشي و أيامي ضمن ( قبيلة داعشية)0
قبيلتي داعشية رغم حمل معظهم أكبر الشهادات العلمية0
كل هذا العلم لم يستطع إقتلاع الدعوشة من نفوسهم0
كانت نظراتهم ( تفترس جسدي) بشبق لعين و كنت أحاول إخفاء كل سنتيمتر بجسدي كي لا أثير شبقهم الجنسي و لكنني لم أسلم من آذاهم0
و حين توفي زوجي و كان طبيبا مختصا تاركا لي طفلة عمرها 3 أربع سنوات قرر الدواعش بأخذ طفلتي فبعت كل ما أملك،،سرا// حتى أني لم أخبر أمي لأن بداخلها داعشية قديمة تٌمجد الدم0
بعت كل ما أملك من عقارات و مجوهرات و تركت أراضي خاصة بي و هربت في ليلة غاب عنها القمر 0
إنها قصة عذاب تلك التي عشعشت في دماغي بسوريا ( الأسد)0
قظ القرد
لقد هزلت
وكنت أظنها لا تهزل
إن ( الدعوشة) موجودة تحت جلد 99,99 من الشعب السوري !! و يتساءلون بغباء من أين أتى الدواعش!!0
قبيلتي قتلت خالتي و كان لديها 8 أطفال أكبرهم عمره 14 عاما لمجرد ( الإشتباه) بسلوكها0
خالتي هي الجرح المفتوح في قلبي
سأقول لك أشياء كثيرة و سأبدأ بنشرها على صفحتي بالحوار المتمدن غدا و هي لأجلك


2 - للأسف ليس الدواعش فقط
نادية خلوف ( 2021 / 9 / 8 - 16:46 )
نعم سيدة ماجدة يعيش في داخلنا داعشي ، أو علماني لا فرق . لدي شخصية اسمها حج محمد عندما تضيق الحياة على زوجة العلماني تصنع من خيالها شخصية تعانقها في الليل ، تؤمن احتياجاتها العاطفية ، وفي مرحلة ما تكتشف أنه كاذب فتقتله وتدفنه ثم تبكي عليه معتقدة أنه حقيقي . لا أرغب أن أكون ضحية فقد أعطيت على مدار عمري ، لكنني اليوم أسأل هل كان ذلك العطاء هو لأنني محبّة ، أو ربما لو لم أعط كنت سوف أجبر سواء في عائلتي الأولى أو الثانية، وهذا لم يمنعني من أكون امرأة توافق على زواج ابنتها من شخص لا يليق بها على سبيل المثال حتى لو كان لقبه دكتور .المجتمع تغلغل بدعشنته إلى دواخلنا . لو كان لديك فيس بوك أرسلي لي رابطه . أنا لدي واتس لا يعمل سوى رسائل . محبتي. سوف أقرأ ما تكتبين . كل الحبّ.


3 - نساء في مواجهة الموت
ماجدة منصور ( 2021 / 9 / 9 - 06:20 )
نشر الحوار المتمدن مشكورا مقال أهديه لك...( نساء في مواجهة الموت)0
في الحقيقة أنا لا أملك صفحة لي على الفيس بوك و لكن يمكنك التواصل معي على الواتس آب على الرقم التالي: 00614060554220
. سأسعد بالحديث معك أستاذة نادية و أتمنى منك التواصل إن لم يكن لديك مانع


4 - تحياتي
نادية خلوف ( 2021 / 9 / 14 - 21:48 )
ادخلت رقمك على التلفون ولم يدخل على الواتس . هذا رقمي إن كان بإمكانك إدخاله +46729486772

اخر الافلام

.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي


.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و




.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من


.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا




.. كل يوم - -الجول بمليون دولار- .. تفاصيل وقف القيد بالزمالك .