الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الزاوية والمقدس : المجتمع المحلي في تونس

محمد الهادي حاجي
باحث متحصل على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع

(Hajy Mohamed Hedi)

2021 / 9 / 8
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الزاوية والمقدس في المجتمع المحلي في تونس:
تحتل الزاوية على الصعيد العقائدي قدسية كبيرة في المجتمع المحلي، فهي معبد للسكان ومكان الضيافة والاجتماعات والمكان الذي حافظ على اللحمة العائلية للأهالي، ومركز الحياة اليومية وفيها يجتمع الرجال وفيها يجد المتسولون والمعتوهون ملجأ. وفيها يقع استقبال الشيخ والعدل والممرض وغيرهم، والأشخاص المسنون يقومون بأداء الصلاة والحضرة. ويتواصل الاعتقاد في قدرة الأولياء الخارقة على المداواة وإيتاء المعجزات. وتأسست الزاوية لأغراض الزهد والجهاد على طلب الحلال ومثلت لتكاثرها في بلاد المغرب العربي، وهي محطات لإيواء أبناء السبيل وهي توفر المسكن والملبس، فكانت قبلة لإغاثة المحتاجين ويعتبرها كمال عمران مناخا طبيعيا يجد فيه المسافر إطارا أخويا وروحيا لا يبعث على الضجر أو الكلل، حيث يجد الزائر ضالته دونما شعور بالتكلف أو الحرج ( ). مادام في حضرة الولي الذي هو الرجل التقي المواظب على الطاعات والمؤمن والمتقيد بأوامر الله ونواهيه، وفي هذا السياق أصبح الاعتقاد في الأولياء في المجتمع العربي الإسلامي ويعبر عن مستوى من العلاقة بين الدين الشعبي والدين الرسمي، وينتشر هذا الاعتقاد في مجتمعنا التونسي في أوساط اجتماعية عديدة خصوصا بين قبائل الجنوب التونسي والوسط، "حتى امتلأت هذه الأرض بقبابهم وأضرحتهم وزواياهم، إذ لكل قرية أو قبيلة جد صالح يزار ويمنح البركة للزوار وينتصب شيخ من أحفاد ذلك الولي يقبل النذور التي تهدى إلى ذلك الولي من كل مكان"( ). وقد ساد هذا الاعتقاد خاصة في صفوف النساء اللاتي يقع استقطابهن من الزاوية، كدور تقليدي لها ويقول الهادي التيمومي أنه "إذا مرض أحد أفراد الدوار لا يلجؤون إلى الطبيب في أول الأمر بل إلى المداواة بوصفات تتناقلها النساء"( ). فهي المكان المفضل لإقامة الحفلات ومناسبات الزواج والختان والزردة والحضرة، وهي فضاء يختلف عن المسجد باعتبارها مكان لممارسة الدين الشعبي، أما هذا الأخير فهو لممارسة الدين الرسمي. وكثيرا ما تتعارض قيم الإسلام وهي فضاءلإعادة إنتاج العقائد والمحافظة على استمرارها عبر الأجيال، لذلك فهي أحد أدوات التربية والتنشئة والاجتماعية( ). ويصل اعتقاد الناس في الولي الصالح حد التقديس والاعتقاد بأنه يسلط العقاب (يدﭫ) وتقول إحدى النساء عندما سألتها لماذا تقسمين بالولي الصالح سيدي علي بن عون؟ أجابت بأنه"يدﭫ على البلاصة وما يكرديش" على كل من يشتمه أو يسبه أو يمس حُرمته بسوء، وهذا أسلوب للترهيب تعتمده الزاوية ضد كل غير متواصل معها ومعارض لطريقتها وسوئ الظن بها وبالولي. مما يجعل الناس في تبعية لصاحب القوة لإدراكهم لحاجتهم له، فهو يقدر على فعل ما لا يستطيعونه، ويعتمدون عليه في تحقيق ما يريدون، فهو ذو قوة غير عادية وله نفوذ إذ يستطيع أن يحل الهلاك في كل لحظة ولذلك تجد الكل يتقرب إليه ويتجنب ما لا يرضى، فهو له من الخبرة ما يعطيه المنزلة الخاصة، في الحياة ومن التجارب القاسية التي مروا بها ويسميها البعض "بفترة تربص" في اختبارات عسيرة لدى أولياء آخرين، ثم عندما ينجحون ويصلون إلى مرحلة النضج والمعرفة والتجربة في الحياة الاجتماعية يستقلون ويعتمدون على أنفسهم، فالولي يتتلمذ على يد ولي آخر، فيصبح يجيد اللغة الرمزية ومعرفة أحوال الناس المحيطين به ليأخذ بضعفهم وينوّرهم وينصحهم ويداويهم.
و يمثل الاتصال بالزاوية أهمية قصوى لتجاوز الإحباط والقلق الذي يعاني منه الإنسان في حياته والقلق، وذلك في الوقت الذي نجد فيه الفئات المتعلمة والمحظوظة اقتصاديا والمثقفة والفقيرة والمهمشة، وهي فئات اجتماعية متنوعة ومتعددة تعتقد في قدسية الزاوية وقدرة الولي الذي يتخذ كوسيط لتحقيق الرغبات الدنيوية( )، فيأتي المقبل على الزواج والمقدم على الامتحان مهما كان نوعه والتاجر والمسافر والمظلوم والبطال... ليحقق لهم ما يرونه مستحيلا وصعب المنال بفضل رأسماله الديني كما يقول بيار بورديو. فزيارة الزاوية تحقق التوازن النفسي وتبعث الطمأنينة حسب الزائرين الذين يحملون الشموع والبخور والحلوة والأضحية... خاصة ليلة الجمعة بسيدي علي بن عون ويقومون بتقبيل الجدران وقراءة الفاتحة والشكوى والبكاء والتظلم، وكثيرا ما يأتي من لهم إشكاليات في الحياة الاجتماعية والعاجزون عن حل مشاكلهم وتخطيها، فتصبح الزاوية بهذا المعنى مصدرا للطمأنينة في الحياة اليومية والمستقبل فالموظف الذي وقع تعيينه لا يبدأ العمل إلا بعد ذهابه للولي بحثا عن البركة وتقديما للشكر. فهي ليست فضاء لممارسة الشعائر والطقوس بل هي مكان تتكامل فيه الوظائف وتتعدد، ولقضاء الوقت خاصة بالنسبة للنساء( ).
لعبت الزاوية دورا مهما في الحياة الاجتماعية والثقافية، في المجتمع التونسي، وخصوصا في الريف، "فقد مثلت الزواية عبر التاريخ السوسيو ثقافي أحد أهم التنظيمات المؤثرة في المجتمع المحلي"( ) فهي تؤكد على قيم الجماعة ومعاييرها، فهي تمارس وظائف اجتماعية وثقافية متنوعة، من خلال استقطاب الناس من كل الأرياف وحتى المدن، وهو ما يعكس قيمة الولي وقدسيته( )، فالعيش ضمن مؤسسات الدولة من معاهد ومدارس وإدارات ومحاكم، لا يحقق إشباع الحاجيات خاصة أمام الطابع المتعالي الذي يميز هذه المؤسسات، مما يجعل الإنسان يعيش نوعا من الحرمان وهو ما يجعله يتوجه للزاوية بحثا عن علاقته بالدولة والتنمية. مما يجعل مقام الولي يؤدي دورا سيكولوجيا اجتماعيا له تأثير كبير على الانسجام والتوازن والتضامن داخل المجتمع المحلي الذي كثيرا ما يشهد خلافات عائلية وعروشية( ) عديدة أمام لا مبالاة الدولة بذلك. وتعتبر الزاوية إحدى الأدوات التي تشكل مهربا لجملة الصعوبات والتحديات التي تعترض السكان المحليين في علاقتهم ببعضهم وفي علاقتهم بالدولة، فهي مؤسسة بدون جهاز بيروقراطي معقد ولا تنظيم ولا هيكل صعب الفهم ولا نصوص متنوعة، ونصها الأساسي هو نوع من العقد الروحي والأخلاقي( ). إلى جانب دورها الديني لعبت الزاوية أدوارا ذات صبغة اقتصادية واجتماعية وسياسية( ).
فقد لعبت وظيفة اجتماعية مهمة كفضاء للتبادل واللقاء والتعارف والاتصال والزواج، وتبادل الأفكار والرؤى( ) وفضاء للاحتفال والعلاج المجاني، والفن الشعبي، والتعليم الديني، وتقديم المساعدة لكل الأشخاص الذين يحتاجونها من طرف أعضاء الزاوية الذي يعملون في مهن معينة وفي نفس الوقت أعضاء مهمتهم تقديم العون والمساعدة (زاوية سيدي علي بن عون)، فهي مؤسسة اقتصادية (البيع والشراء) ومؤسسة تحكيمية (فض النزاعات)، وسياسية (مقاومة الاستعمار)( ).
كما تقوم الزاوية بوظيفة اتصالية تتجسد من خلال ما يمنحه هذا الفضاء من إتاحته الفرصة للتكامل بين السكان في التقاليد والطموحات والتفكير الدنيوي والديني، "يقوم على أساس آراء وأفكار مترابطة ذات أثر كبير، فالاتصال يؤدي إلى التكامل المؤدي إلى بناء رؤية مشتركة للكون مشتركة بين السكان"( ). ويعبر عن تبادل للأفكار والمعاني ضمن العلاقات الأولية، وتحركه قيم وتصورات راسخة في المجتمع المحلي تتميز بدرجة كبيرة من العمق والأصالة والتماسك( ).
فالزاوية هي إحدى الأماكن التي يمكن للمرأة دخولها، وهو يعوض للمرأة إحساسها بالعجز والضعف والنقص أمام سلطة الرجل والمحرم الديني الذي تعيشه المرأة في الريف، خاصة وأن المرأة الريفية "مكبلة" بالعادات والتقاليد التي تؤدي إلى عدم إحساسها بالوجود والقيمة الذاتية والثقة في النفس، وتتيح الزاوية للمرأة إمكانية الالتقاء ببقية النساء، وتناول المسائل الاجتماعية كالزواج والسحر والمرض والإنجاب والبحث عن الشريك...
ويمكن القول في هذا السياق أن العلاقة بين المرأة والزواية ، هي علاقة وطيدة ومهمة، يجسدها التفاعل القائم والحاجة بينهما، فهما متكاملتان من خلال اندماج المرأة بهذا الفضاء،
و خلال الاتصال بين الزائر والولي "يلعب كل منهما دوره وعادة ما يلتزم الولي الصمت فلا يحاول التدخل وإنما يكتفي بالإيماء برأسه، في الوقت الذي يأخذ فيه الزائر مبادرة في هذا الاتصال، فينطلق في الحديث والبوح واصفا حاله وظروفه النفسية ومخاوفه ونوع التوترات التي يعانيها وأحلامه وما ينتظر من الولي أن يساعده فيه ( )، فهو يريد أن يتجاوز عجزه ويتجاوز كذلك التزمت والانغلاق الذي يتميز به النص الديني الرسمي"( ). لذلك فالزائر لا يخفي أسراره عن الولي كوسيلة للتخفيف من آلامه وهو التجاء بغاية الشكوى ومحاولة للانسجام مع الأوضاع القائمة مهما كانت مجحفة( ) فالبحث عن الإشباع للرغبات المقموعة، هوالذي يجعل المرء يلتجأ للزاوية.
ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى أن الزاوية قد قامت بعديد الوظائف الأخرى كالدور الأمني و"يتمثل في القيام بمهام التحكيم والوساطة بين المجموعات القبلية المتصارعة"( ) خاصة عندما يكون وضع الدولة ومؤسساتها يتميز بالهشاشة والضعف، يلعب شيوخ الزوايا دورا وظيفيا في فض النزاعات بين أطراف الخصام. وهو دور يذكرنا بوظيفة "صلحاء الأطلس" بالمغرب الأقصى. ويعتبر التسامح اليوم على أرض الولي الصالح بين المتخاصمين تجسيدا للقدسية في المكان والفضاء تمنحها الزاوية في إطار مناخ يتميز بالود والرحمة والكرم، وهو ما يعطي القيمة الرمزية للصلحاء ذوي الدور النزيه، الذي يضمن استمرارية هذه القيم الاجتماعية الإيجابية.
و يرى "أرنست قالنار" أهمية الولي الصالح من خلال ضمان الانتخابات، من خلال حرمة الزاوية وحرمته هو نفسه، فهو يؤدي دور التحكيم بهدف ضمان النسق السياسي وذلك في دراسته حول صلحاء الأطلس في المغرب الأقصى( ) فالولي هو ممثل الإسلام، وهو حجر الزاوية لنظام الأعراف ويتدخل لضمان العمل بالعرف القبلي حتى يسود الاستقرار والسلم، هذا بالإضافة إلى فض النزاعات بين القبائل وتسهيل المبادلات التجارية (سوق الزاوية).
رغم التغيرات الاجتماعية والثقافية في تونس إلا أن نسبة الزائرات للولي الصالح في صفوف النساء المستجوبات تفوق اللاتي يفضلن الولي عن الطبيب في عملية العلاج وهي نسبة مرتفعة إذا نظرنا لطبيعة التحولات والتغيرات الاجتماعية الحاصلة. ويقول أحمد خواجة في هذا السياق: "إن ظاهرة الأولياء الصالحين والزوايا والمعتقدات السحرية والأسطورية كظاهرة ثقافية اجتماعية تملأ الفراغ الإيديولوجي" الذي تركته فئة العلماء في تأطير الناس فظاهرة الاعتقاد في الطرق الدينية والأولياء الصالحين مثلت بالنسبة للريف خاصة ملجأ اقتصاديا أو مرجعا يحافظ على قيم الخصوبة والاستمرارية( )"، ولئن اتخذت مجالات الاعتقاد عديد المواضيع والمستويات (البركة، الترفيه، التداوي، الاحتفال، حل الإشكاليات،) فإنها تخفي عديد القضايا الأخرى كالجنس والخصوبة والعقم والزواج والطالع والسحر... ويرجع مثلا الريفيون تأخر سن الزواج للبنت إلى سوء الحظ أو الطالع أو العمل السحري( ) وحتى في حالة الزواج، فإن المرأة مدعوة للزاوية وحضرة الولي الصالح لتحصين نفسها من العقم والخيانة وإنجاب الذكر وتسهيل الولادة، وهو ما يجعلها تتقرب للولي وتتفرغ له رغم تعارض هذه الممارسات مع الشريعة الإسلامية، لذلك "تضع كل قبيلة أو مجموعة من القبائل زواياها فوق كل سلطة، ذلك ما يفسر كون الشيخ يعتبر قطبا، لأن ما من شيخ إلا وهو قطب منطقته"( ).
و الفرق بينه ورئيس القبيلة كونه لا يقع انتخابه مثل الرئيس، فهو مصطفى من الله ويحكم طيلة حياته، وبالوراثة، عكس شيخ القبيلة الذي ينتخب مرة كل عام ونسبه شريف وشرعيته إلهية، وهو مسالم بالضرورة، وله دور إدماجي للمجتمع البربري في المجتمع الإسلامي الشامل، وهو كذلك الرابط بين المجتمع القبلي والإسلام، وهو تجسيد لقداسة قريبة من الناس ويعتبر وجوده تجسيمي وتدخله سريع، ويقطع النظر عن الانتقادات التي وجهها عبد الله الحمودي ( ) لقالنار "فإن هذا المثال على درجة بالغة من الأهمية تدلل على صفة القدسية للولي، مما يجعله مؤثرا فاعلا في الحياة الاجتماعية للمجتمع المحلي، ويمكن القول في هذا السياق أن ظاهرة القداسة جديرة بالاهتمام السوسيولوجي والأنثروبولوجي نظرا لما تحمله من دلالات، "فظاهرة الزوايا... الوجه المؤسسي لظواهر القداسة، رغم أن القداسة سابقة تاريخيا لكل مؤسسة احتضنتها فيما بعد، فلقد امتزجت بها لتكونا وجهين لنفس الظاهرة، ولهذا لا يمكن أن نعتبر القداسة والزاوية والشرف والبركة إلا كأبعاد مختلفة للظاهرة، لذلك يمكن القول بأن البنى التقليدية واحدة، ألا وهي الديني بمعناه الأنثروبولوجي الواسع"( ).
و يمكن في هذا السياق الإشارة إلى الدور السياسي الذي تلعبه الزاوية في الجهات خاصة في فترة ما قبل الاستعمار فقد مثل الأولياء السلطة المركزية في مناطقهم وقد توسطوا بين السكان وممثلي السلطة، أما في مرحلة الاستعمار فقد كانت الزوايا منقسمة بين من يدعم الاستعمار ومن يقاومه ضمن النضال الوطني( ) أما في الفترة الحديثة فقد انتشرت الطرق الدينية في الريف وتمكنت من تجييش أعداد هامة من السكان في صفوفها أمام غياب التنظيمات السياسية وهياكل المجتمع الأهلي أو المدني، خاصة بعد القضاء على الهياكل التقليدية القبلية( ).
يقول البعض بأنه "إذا كانت بلاد المشرق هي بلاد الرسل والأنبياء فإن بلاد الغرب هي أرض الصالحين والأولياء"، هذه المقولة لها مبرراتها ومعطياتها الواقعية، المتمثلة أساسا في أركولوجيا الزوايا والأضرحة التي تؤرخ لأولياء الله الصالحين في المغرب العربي، وهي بذلك صارت مدخلا للحفر عن الماضي بكل عناصره ومكوناته نظرا لتجذرها في المجتمع فلا يمكن فهم الماضي دون استحضار هذا الموضوع الذي ظل مصدرا لعديد الحقول المعرفية، ويعتبر البحث في موضوع الزوايا حلقة من حلقات جغرافية المقدس، كظاهرة تاريخية( ).
وقد كانت للزوايا أدوارٌ كثيرة في المجتمعات المغاربية، كتفقيه الناس في أمور دينهم، من خلال دروس الوعظ والإرشاد وتلقينهم مفاهيم الطريقة من حيث الأذكار وتقديم الدروس في الآداب والحكمة، أما المناطق التي بها تمثيل ضعيف للسلطة المركزية، فإن الزوايا كانت تقوم فيها بأدوار تحكيمية في النزاعات والخلافات بين القبائل، وبالرجوع إلى الدراسات الأنثروبولوجية( )، نلاحظ أن وظيفة التحكيم كانت إحدى القضايا التي استوقفت نظرهم في وظائف الزاوية، مما جعلهم يعملون على تشخيصها وضبط آلياتها إلى حد اعتبارها الوظيفة الأكثر فاعلية في أدوار الزاوية( )، فقد كانت هذه الأخيرة تملأ الفراغ السياسي الذي يخلفه غياب السلطة المركزية وخاصة في المناطق الحدودية النائية، ولها حضور في تحديد مجالات الرعي والإنتاج وتوزيع المياه، وبذلك تم الاعتراف بها كمكان مقدس، له حرمة لا يمكن انتهاكها بأي حال من الأحوال، فظلت قبلة للملهوفين، وملجأ آمنا للهاربين والفارين من السلط والعقوبات المفروضة عليهم، وشكلت الزاوية في هذا السياق أفقا تنفسيا عن ظروف الحرمان والفراغ، وقد كانت الزاوية في تونس من الفضاءات النادرة التي كانت السلطة تسمح باحشاد أعداد هائلة من الناس فيها، ونشير في هذا السياق إلى أن القاعدة البشرية لأتباع الإسلام الشعبي أو التصوف الشعبي لم تكن بتشكل من الفئات المهمشة ذات المستويات التعليمية الدنيا أو الأميين، وفق تلك الصورة الرائجة عن الزوايا، وإنما هناك مجموعات قد حازت نصيباً متوسطاً وحتى عالياً من التعليم، فنجد الموظف وجل الأعمال والمهندس، وبذلك لم يعد الدين الشعبي( ) حقلا مغلقا وإنما هو مرجعية خاضعة للتعديل والتغيير، ضمن تفاعل الفرد والمحيط الخارجي، وسعيهم نحو بناء المعنى المشترك، وهي خاصية جوهرية في الثقافة باعتبارها تجمع بين الفعل والتفكير، فاللجوء إلى العرافين والمعالجين التقليديين وإحياء الرموز والاحتفال بالزردة والحضرة والمداواة من السحر والحماية من الأذى( )، كلها ظواهر تدلل عن عمق الذاكرة والتركيبة الذهنية الفردية والجمعية، ليصبح الدّين بوصفه نسقا ثقافيا باستخدام "غيرتز" للدين، لا يشتغل في قطيعة عن الأنساق الثقافية الأخرى وإنما يتفاعل معها، من خلال إعادة تشكيل المخيال الديني في إطار تغيير العلاقة بين المقدس والدنيوي والخيالي والعقلاني، إذ أنه بقدر ما تفكك حقل التصوف الشعبي نبويا ووظيفيا ثبت كثقافة تمتن صلاتها بالمقدس.
إن التصوف الشعبي، هذا الإسلام "الصامت" كما وصفه أركون قد ظل طويلا بعيدا عن الطرح والنقاش في علم الاجتماع، رغم ما يمثله كأي نموذج ثقافي كموضوع للمفاوضة والتعديل والاستراتيجيا في إطار المواجهة المستمرة بين عوامل أو عناصر التغير والثبات.
و يمكن في هذا السياق الاشارة إلى أهمية الاعتقاد في بركات الولي ، أين يعطي الأفراد المعقولية على سلوكهم الفردي والجماعي، وهم يخرجون من دائرة الحياة الموضوعية إلى دائرة العالم السحري الخرافي فيتحصنون من السحر وأذى الجن بحمل قطعة قماش خضراء، بشرط أن يأخذها الزائر من مقام الشيخ لأن بها بركة تحميه من السوء، وكذلك يعمد البعض إلى التمسح على قبر الولي وتقديم النذور لإرضائه، فالسحر الشعبي التونسي من خلال بعض أمثلة التبرك بالولي الصالح يعبر عن ازدواجية في الإرث الثقافي الديني الأول وثني والثاني عربي-إسلامي( )، فنفس الطقوس التي تمارس في مقام الولي الصالح هي الوثنية الجاهلية في حلة جديدة، مزدوجة ببعض الممارسات المستمدة من الإسلام، ولو عبر الفهم المخصوص، وقد بين "دوتيه" الأصول البربرية والماقبل إسلامية للسحر في شمال افريقيا بما فيها تونس( ). وتساهم الزوايا في تفشي الممارسات السحرية، فمجرد التقرب إلى الولي الصالح بالقرابين أو ما يسمى في سيدي بوزيد "بالوعدة" أو الهدية والزردة على حدّ تعبير "دوتيه"( )، إنما لهدف نفعي ومصلحي، يحدده الزائر مسبقا، ومن خلال بعض الطقوس نذكر ظاهرة التمسح على القبر والتهجد بالبكاء والدعاء للولي اعتقادا في أن البركات ستلبي طلبه، وهذه الرابطة الروحية تربط صلة خفية لا مرئية من نوع الروحانيات تجعل الفرد في علاقة رمزية، تعكس تماهياً وتماثلاً بين الداعي والولي الصالح، وإن كان ميتا، ويقول "كلودلفيستراوس" في هذا السياق: «تبدو العملية السحرية بمثابة زيارة (شيء ما) أو إضافة إلى نظام الكون الموضوعي، فهي تخضع في نظر من يقوم بها لنفس الضرورة التي تحكم ترابط العلل الطبيعية، فهو يعتقد أن دوره يقتصر على إضافة بعض الحلقات إلى سلسلة العلل الموضوعية يبدو له هو أنه يعاينها من خارج كما لو أنها لا تصدر عنه»( ).
ومن تجليات أو مظاهر التدين الشعبي –التي يمكن ملاحظتها من خلال لغة الرموز وتصورات أهالي سيدي علي بن عون، والزوار الوافدين على المقام بكل مكوناته الرمزية والقدسية والدور الوظيفي للولي – تقديم المال لهذه الخدمة المزمع تحقيقها أو الأماني والطموحات المراد الوصول إليها، من خلال وضع النقود في الصندوق، وهو من الحجم الكبير، ويعبِّر بعض أهل الجهة على ذلك بالمقولة «كتاب من دون أجرة كأنه معلق في حجرة»، وهذا إشباع روحي لا يكون إلا من خلال الولي الصالح بفضل ما يملكه من نسب سلالتي وروحي، وهو ما لا يوجد لدى الفقهاء والعلماء في الحواضر( )، فالفقير الذي يعاني الفقر والخصاصة والمسافر وعابر السبيل، يأتون للزاوية، فهي تحول استقطاب المحتاجين إلى جاذبية الشيخ ومقره، وحصل هذا بهاجس التبرك والزيارة وما يفترضانه من طقوس وعطاءات مادية، إلى جانب وظيفة المأمن المقدس. فقد مارست الزوايا على الدوام هذه الوظيفة المهمّة حتى صارت في العتاد الشعبي رمزا للأمن والأمان، حيث ظلت مجالا أو حقلا حرما وملاذا لكل فار أو هارب( )، مهما كانت دواعي التجائه واعتصامه وإن كان جانيا أو مجنيا عليه( ).
"فهي تحمي الزائر من خطر الاعتداء"( ).
ويقول عماد صولة في هذا السياق أنه "إلى غاية عقد الثمانينات من القرن المنقضي، انكفأ التصوف الشعبي خلف جدران ما تبقى له من زوايا ومزارات أغلبها آيل للسقوط بسبب الإهمال ولأن فئات كثيرة ارتبط مصيرها به، فقد أحسّت بأنه سلب حقها في ممارسة شعائرها وبتمثلاتها الحميمة للمقدس بما ولد الشعور بالحرمان حتى غذا التصوف الشعبي ضربا من المكبوت الجماعي لا يكف عن التسلسل ليظهر في ثنايا عديد الممارسات كلما وجد هوامش وفراغات وخفت الضغوطات"( )، فارتبطت العودة إلى الروحانيات بالتفاوت الكبير بين الطموحات والواقع، هذا إضافة إلى الارتياح إلى الطرق والزوايا لعدم الحصول على السكينة المرجوة في الإسلام الرسمي، نظرا لأن الإسلام الشعبي قابل للتطبيق أكثر من إسلام الفقهاء والعلماء( )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عقوبات أوروبية جديدة على إيران.. ما مدى فاعليتها؟| المسائية


.. اختيار أعضاء هيئة المحلفين الـ12 في محاكمة ترامب الجنائية في




.. قبل ساعات من هجوم أصفهان.. ماذا قال وزير خارجية إيران عن تصع


.. شد وجذب بين أميركا وإسرائيل بسبب ملف اجتياح رفح




.. معضلة #رفح وكيف ستخرج #إسرائيل منها؟ #وثائقيات_سكاي