الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحساسيّة من ريش البط

زاهر رفاعية
كاتب وناقد

(Zaher Refai)

2021 / 9 / 9
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


لا أرى رأي من يقول أنّ الغزو الخارجي الذي تقوم به جيوش الدول الغربية من أجل سرقة ونهب وإفقار الشعوب الأخرى وتدمير أراضيهم ومجتمعاتهم إنما يصبو لدعم السكّان في دول الرفاه وتقديم حياة نخبويّة للمواطنين والقاطنين في البلاد الغربيّة، والتي أكتب لكم هذه الكلمات من قلب مجتمعها.
السياسيّون اليوم في الغرب أصبحوا موظفين عند الرأسماليّين وحماة لتركّز الثروة بيد الشركات العابرة للقارات ومنخرطون في مهمّة تنظيم عمليّة التطاحن في السوق الحرّ محليّاً وعالميّاً. حتّى وإن تحصّلت الدولة على شيء من هذا التطاحن فإنها سرعان ما تعيد الجزء الأكبر منه لشركات الأسلحة ولتوسيع الانفاق العسكري، وذلك كي تستمرّ عمليّة التطاحن وتستمرّ الدّولة بإدارة عمليّة التطاحن تلك ويحافظ السياسيّون بالتالي على ضرورة وجودهم من خلال تنظيم عملية التطاحن وهكذا دواليك.
لم تعد مهمّة الدّولة في الغرب تجنيد المجتمع للعمل على استقرار الفرد والأسرة، بل صارت مهمة الدّولة بالدرجة الأولى ضمان اتساع رقعة التنافس بين الشركات العابرة للقارات، دون إقامة أدنى اعتبار لانعكاسات هذا التنافس لا على البيئة ولا على الأفراد والكيانات الأوّلية سواء في المجتمع المحلّي أو في المجتمعات المستباحة من قبل جيوشهم في الدّول الأخرى. يتجلّى هذا على سبيل المثال لا الحصر في ميزانية وزارة الدفاع لألمانيا عام 2021 التي بلغت 46,93 مليار يورو. (1) وهي أعلى من ميزانيّة وزارة الأسرة بأكثر من ثلاث مرّات والتي بلغت بالمقارنة للعام ذاته 13,1 مليار يورو فقط. (2)
الغاية من الحروب الخارجيّة في النظام الرأسمالي بالدرجة الأولى هي تبرير زيادة الانفاق العسكري أمام المواطنين على حساب أي وجه إنفاق حكومي آخر، وبالتالي ضمان اليد الطولى لشركات التسليح على المال العام في الدولة. بحسب معهد واتسون للشؤون الدولية في جامعة براون، فالأموال التي أنفقتها الولايات المتحدة على حروبها في أفغانستان، العراق، سوريا، وباكستان بلغت على الأقل 6,4 تريليون دولار خلال العشرين عاماً الماضية. المصدر (3).
إنّ كذبة إعلاء الأمن القومي في فوق أي اعتبار التي يروّج لها السياسيّون في الغرب لا تشمل سوى جمع الضرائب من الطبقة المتوسّطة وإعادة توزيعها على شركات الخدمات العسكرية من تسليح وموارد بشرية وتقنيّة حتى على حساب الأسرة والصحة والتعليم، بينما لا يشمل مصطلح "الأمن القومي" أمن الأفراد والأسرة في المجتمع من براثن الفقر والجهل والمرض سوى بالحد الأدنى الذي لا يكفي سوى لسدّ الرمق وسدّ الأفواه عن الصراخ من ألم توحّش الفارق الطبقي الذي يزداد حدّة يوماً بعد يوم.
أمّا أدوات الرأسماليّة للسيطرة على حيوات النّاس ومقدّراتهم في مجتمعات الغرب داخليّاً فليست الحديد والنّار وتجويع الأمعاء كما هو الحال في مجتمعات الجنوب والشرق التي تغزوها جيوش الغرب لتنهب الحرث وتستعبد النّسل، بل تستند الرأسماليّة في مجتمعهم على تعليق جزرة في السماء وإيهام الجيل الجديد من أبناء الكادحين والطبقة المتوسطة أنّه ما عليهم سوى التطاول على رؤوس أصابع أقدامهم كي يطالوها.
هذه الجزرة إنما هي الدعاية المنفلتة من كل حس إنساني لنمط حياة الترف للمؤثرين والمؤثرات في وسائل التواصل الاجتماعي، الذين تموّلهم شركات الإنتاج الغربيّة العابرة للقارات من أجل الدّعاية لمنتوجاتهم التي يقومون بإنتاجها من عرق الشعوب المستعمرة وخامات أراضيهم, ومن تدمير النظام البيئي في هذا الكوكب.
في حين يزداد ثراء مهرّجو ومهرّجات الرأسماليّة الذين يعملون كواجهات عرض للمنتوج الرأسمالي الذي يفوق في تفاهة اقتناءه مفهوم ما بعد الكماليات بمراحل، ترتفع على التوازي المديونيّة (4) وذلك في سبيل توفير مظهر الانخراط في طبقة مهرّجي الرأسماليّة في وسائل التواصل تحت ضغط حاجة الإنسان الأصيلة للانتماء لجماعة التي تعتبر الركيزة الأساسيّة للموجود البشري.
تلعب الشركات الرأسماليّة على حاجة الانتماء للجماعة عند الفرد مع تحفيز التنافسيّة الاستهلاكيّة وذلك بعرض منتوجات الموضة والموديرن لايف فوق واجهات جذّابة مثل فتيات الانستغرام “المؤثرات" influencers اللواتي تسوّقن لترف المظهر المادي للمرء على أنّه أسمى قيمة يمكن أن يسعى لها الإنسان، وأقصد بهنّ أي الفتيات عميلات شركات الموضة العابرة للقارات، اللواتي يعرضن اللا-شيء ممزوجاً بمظهر سيليكوني ممشوق.
ثلاثمائة وسبعون ألفاً من الدولارت الأميركيّة في هذه الأيام هي تكلفة الإقامة الشهريّة في مركز إعادة تأهيل سويسري لنخبة الرأسماليّة، إذا ما وقع أحدهم فريسة إدمان المخدرات أو الكحول. منتجع Paracelsus in Switzerland (5) تشمل هذه الإقامة كل ما اشتمل عليه ميدان الطب وعلم النفس والعلم الزائف من وسائل الترفيه تحت غطاء طب الخلاص من الإدمان. هذا المكان في الأصل هو منتجع استجمام فاخر جدّاً يشرف عليه بعض الدّجالين الذين لا يستندون إلى المنهج العلمي في طرائقهم، بل إلى منهج فهم ذائقة الرأسماليين في الترف أو حتّى ذائقة الأثرياء من مهرّجي الرأسماليّة، حيث يقدّم لهم هذا المنتجع السكينة التي يريد هؤلاء الفرار إليها من ضوضاء الحفلات الصاخبة وفراغ المعنى بعد أن اتخمهم جشعهم اللامتناهي لامتلاك كل الماديّات والبشر في هذا العالم.
في الوثائقي الذي يعرض لهذا المنتجع الفخم اجتمعت فتاة الانستغرام بأحد الأثرياء من النزلاء السابقين الذي قضى ثلاثة أشهر في هذا المنتجع كي يهرب من إدمان الحفلات وضوضاء الصداقة المزيّفة ويجد السكينة الداخليّة في نفسه، ببساطة كما كنا نجدها أيام زمان بعد العصر كل يوم بدولارين في الجيب وكأس من الشاي على الطاولة وصوت أم كلثوم يطربنا.
حين سألت فتاة الانستغرام هذا الرأسمالي والنزيل السابق عن حجم ثروته أجاب أنه ببساطة يمكن أن يقضي بقيّة عمره في هذا المنتجع Paracelsus in Switzerland التي تبلغ كلفة الإقامة فيه حاليّاً كما قلنا 370 ألف دولار أميركي شهريّا.
لا يا سادة لا ذاك إدمان ولا هذا بعلاج، بل ذاك ملل وهذا استجمام. أي نعم وهذا ما قدّمته الرأسماليّة للمنتصرين في ميدانها. أمّا المهزومون في المجتمع من الطبقة الوسطى الذين خاب سعيهم وهم يحاولون التشبّه بالرأسمالي أو بمهرّجي الرأسماليّة والحذو حذوهم في المظهر وتعاطي الحفلات فقد انتهى بهم المطاف غالباً مفلسين غارقين في الديون حتى آخر يوم بعمر أحفادهم، أو ميّتين جرّاء إبرة مخدّر في زقاق مظلم خلف إحدى الحانات بعد ان انهارت أحلامهم في أن يكونوا "نجوماً فوق العادة" كما صوّره لهم المفهوم الأوحد عن النجاح في الفكر الرأسمالي اليوم في الغرب.
إنّ كلمة إدمان تنطبق حصراً على ضحايا عنف الرأسماليّة وصمت الدولة، الذين لا يجدون القوّة من أنفسهم لمواجهة الأزمات التي تخلقها لهم هيمنة الفكر الرأسمالي المطلق في الدّولة والمجتمع. وما تفعله الدولة في الغرب إزاء بوادر انهيار المجتمع تحت ضغط العنف الرأسمالي واتساع الفارق الطبقي غير تقنين المقامرة والبغاء، وغضّ الطرف عن الدعارة القسريّة، والزيادة المتصاعدة للإنفاق العسكري على حساب الانفاق المجتمعي والصحي، ورفع سن التقاعد باطراد، وتمويل الحملات العسكريّة الخارجيّة بهدف دعم شركات التسليح والبحث عن موارد جديدة لنهبها وشعوب ذات عمالة أرخص فأرخص لاستعبادهم وأكل ثمرة جهدهم مقابل حفنة أرز أو زجاجة ماء.
في الغرب كما في كل مكان حول العالم يترك الفقراء لمصيرهم أو لتكافلهم فيما بينهم، هكذا ودون اكتراث من حكومة مجتمعات السوق الحر. إن تكلفة إقامة ليلة واحدة في هذا المنتجع السويسري كي يروّح الرأسمالي عن نفسه من ضجيج الحفلات تكفي لعلاج أكثر من عشرين مدمناً على الكحول في أفضل مستشفيات ألمانيا لسحب السموم، والتي لا تستقبل المدمن ببطاقة التأمين الأساسي، بل حصراً ببطاقات شركات التأمين الخاصة، والتي بالطبع لا يطيق رسومها العامل من الطبقة المتوسطة فما بالك بمريض ادمان من الطبقة المعدمة. المصدر (6)
هذا في الوقت الذي لا تقدّم فيه الدول الغربيّة لمؤسسات الرعاية والتأهيل ولا حتى الوقاية سواء الحكوميّة منها أم التطوّعية أي شيء سوى مرتجعات الضريبة للمتبرعين لهذه المؤسسات، وكأن إنقاذ روح الإنسان وحياته وإنقاذ الأسرة والمجتمع صار عملاً خيريّاً وليس واجب الدّولة الأوّل! التأمين الصحي الإلزامي لا يلزم على الدّوام علاج الإدمان، وحتّى إن قام بتغطية التكاليف فإنه يغطّي التكاليف بأقل حدّ ممكن، فالأمر تقريباً متروك بالكامل لهيئات الرعاية الاجتماعية التطوعية التي غالباً ما تكون هي الأخرى واجهات غسيل أموال وأبواب تهرّب ضريبي.
احتل الفرنسي ارنولد برنارد Bernard Arnault & family صاحب ماركة الموضة Louis Vuitton المرتبة الأولى في قائمة أثرياء العالم للعام 2021 بثروة تقترب من المائتي مليار دولار أميركي (7)، أي بصافي ثروة تقترب من ميزانية سويسرا للعام 2017! (8) . ولإن سأل المرء نفسه على حساب من بالتحديد يجمع هؤلاء ثرواتهم لأجاب نفسه من خلال معاينة منتوج هذه الشركات، حيث أنّهم يسوّقون في المجتمع الغربي للاستهلاك المحموم لمنتجات عصر الانحطاط الرأسمالي من موضة ومظاهر ترف وحياة حفلات وغياب عن الوعي وسهو عن المطالبة بالحقوق وتنافس محموم لا ينتهي لاقتناء البضائع البرّاقة المصنوعة من جلود الفقراء والمستعبدين في جنوب الأرض وشرقها، ومن ثروات أرض هؤلاء المقهورين وأرض أجدادهم.
هذا العرض والتغنّي بالمظاهر الماديّة واللايف-ستايل يخلق شعور مزمن بالنقص عند الجيل الصاعد في الغرب فيهرع أبناء هذا الجيل إلى التنافس بدلاً من التكاتف وإلى البحث عن الشعور بالانتماء والقبول من عند بقيّة البشر جماعات وأفراد، وإنّ التنافس في ميدان السعي للاقتناء والمراء ليدمّر زهرة عقل المرء قبل أن تتفّتّح. لاسيّما حين يتحالف صنّاع موضة الحياة في الغرب مع المصرفيين والسياسيين لتسهيل طباعة النقود الوهميّة والإقراض المجنون بلا أي ركائز ولا أي ضمانات، سوى ضمان استمرار التدفق النقدي أطول فترة ممكنة من خلال الدعاية المحمومة للاستهلاك المجنون، وعلى حساب مستقبل الكوكب ومستقبل الإنسان وموقعه في الطبيعة والمجتمع.
في مقطع الفيديو التوثيقي المذكور في المصدر رقم (4) حول منتجع Paracelsus في سويسرا المتخصص في استشفاء أباطرة المال من ملل فراغ المعنى وغياب الضمير تقوم الطبيبة بإجراء اختبارات الحساسيّة على النزلاء كما تدّعي على الأقل, ومن جملة الاكتشافات الخطيرة التي قامت الطبيبة بالكشف عنها هو أنّ النزيلة تعاني "حساسيّة من ريش البط" واكارثتاه!

الخلاصة.
هل تريدون يا سادة معرفة أين تذهب ثروات بلادكم وتعب أولادكم ودمائهم جرّاء الغزوات المتوحّشة للعولمة الرأسماليّة لبلادكم، سواء الاقتصاديّة منها أم العسكريّة؟ إنها تذهب تماماً حيث تذهب نقود الطبقات المتوسطة والفقيرة في الغرب في نهاية المطاف، إلى حسابات الطغمة القليلة المنتفعة من وراء هذا المهرجان الوحشي في هذا الكوكب. وأقصد مهرجان السطو على مقدّرات الشعوب الأخرى وعرق جبينهم ودمائهم، وذلك لتمويل الحملات الدعائية للاستهلاك المحموم في الغرب، من أجل خلق حالة مزمنة دائمة من عدم الرضا والسعي المحموم للاقتناء والتشبّه بهذه الطغمة الرأسماليّة أو بالمهرّجين من واجهات العرض البشريّة في وسائل التواصل.
العتب مرفوع عن الحكومات الغربية فهي لم تعد سوى حكومة تصريف بضائع الرأسماليّين في الغرب وحكومات تمويل استعباد الشعوب في باقي المعمورة. لماذا العتب مرفوع؟ لأنّه الذي ما فيه خير لأهله، فما في منه خير للغريب. وهذه الحكومات لم تعد تجني منها شعوبها سوى دمار الإنسان والمجتمع والبيئة لحساب ملء جيوب وحسابات الرأسماليين بالمال اللازم لدفع تكاليف الكشف المبكّر عن حساسيّة ريش البط والبحث عن علاج للملل وخواء الضمير.
ألقاكم بخير.



المصادر:
1. https://www.bmvg.de/de/themen/verteidigungshaushalt/verteidigungshaushalt-2021

2. https://www.bmfsfj.de/bmfsfj/mehr-geld-fuer-starke-familien-160678

3. https://watson.brown.edu/costsofwar/files/cow/imce/papers/2019/US%20Budgetary%20Costs%20of%20Wars%20November%202019.pdf?utm_source=Daily%20on%20Defense%20(2019%20TEMPLATE)_11/15/2019&utm_medium=email&utm_campaign=WEX_Daily%20on%20Defense&rid=84648

4. https://www.destatis.de/DE/Presse/Pressemitteilungen/2021/07/PD21_357_713.html

5. https://www.youtube.com/watch?v=_J3nVC0GoVg

6. https://dassuchtportal.de/private-entzugsklinik-wie-waehle-ich-die-richtige-privatklinik-aus/

7. https://www.visualcapitalist.com/richest-people-in-the-world-2021/

8. https://de.wikipedia.org/wiki/Liste_der_L%C3%A4nder_nach_Staatshaushalt








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أزمة القميص بين المغرب والجزائر


.. شمال غزة إلى واجهة الحرب مجددا مع بدء عمليات إخلاء جديدة




.. غضب في تل أبيب من تسريب واشنطن بأن إسرائيل تقف وراء ضربة أصف


.. نائب الأمين العام للجهاد الإسلامي: بعد 200 يوم إسرائيل فشلت




.. قوات الاحتلال تتعمد منع مرابطين من دخول الأقصى