الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حجرة الراهبات

ماهر عزيز بدروس
(Maher Aziz)

2021 / 9 / 10
كتابات ساخرة


استعصت الفرصة للتحدث إليها بكل سبيل، ولما هَدَّنى البؤس والحنين اتجهت رأساً إلى مكتب الأستاذ العميد، أطلب إليه أن يمنحنى نصف حجرة الطالبات لأقيم فيها معرضى الفنى، لعلها تدخل تتفقد اللوحات، فتتخلق أمامى فرصة طبيعية لأقترب منها وأتحدث إليها.

كان ذلك ما هدانى إليه طموحى وانهيارى، بعد انتظار طال من بدء العام الدراسى حتى إجازة نصف السنة، دون تمكنى من الاقتراب منها والحديث إليها..

هكذا جاءنى الوعى بحضور المرأة فى العالم وفى وجودى أشبه بزلزال..

كان زلزالاً تقوضت له روحى، وتكسرت به نفسى، واهتز له جهازى العصبى، حتى بقيت بعد انتهائه لمدة ستة شهور كاملة لا أستطيع أن أضم أصابع كفى اليمنى على القلم لأكتب، من فرط الإجهاد الداخلى رغم تماسك الصورة الخارجية.

حدث هذا الزلزال كالكشف الصوفى أو الخبرة الروحية التى لا تترك صاحبها إلا أشلاء، يظل يجمعها زمناً وهو ذاهل عن الوجود كله..

أما كيف حدث هذا الزلزال فجذوره تعود إلى الطفولة والصبا وشرخ الشباب، حيث تكونت لدى صورة ذهنية سامية للمرأة على نحو فادح الثراء..

لقد تفتحت عيناى منذ نَيِّف وثلثى قرن على أمى تصحو فى الفجرية تعجن لنا الدقيق لِتُصَيِّرهُ بعد ذلك خبزاً، وتعتنى بنا حتى نذهب إلى مدارسنا ويخرج أبى إلى عمله، فإذا اطمأنت لذلك تخرج إلى السوق لتبتاع الطعام وأشياء البيت، ثم تعود فتحترق كشمعة تذوب لتتوهج، وتتوهج فتملأ حياتنا والبيت ضياءً لا يخبو ونوراً لا ينقطع..

كنت أرى أمى الجميلة يكسوها التعب، فلا أميز فيها الجمال من الجلال.. وأظل أسأل نفسى: هل هى جميلة فيتألق جلالها؟
أم هى جليلة فتزهو بالجمال؟..

لكننى انتهيت إلى حقيقة غالبة ارتبط فيها جمال المرأة فى عينى بجلال سابغ، ثم راح هذا الجلال يسحق شعورى فيما بعد بالمرأة موطناً للإعجاب والروعة.

ومن نبع أمى فى هذه السن المبكرة صرت أدرك المرأة مناطاً للجمال والجلال معاً.. فاقترن وعيى بالمرأة منذ اللحظة الأولى بجلال الجمال وسحره، ورحت لا أتمعن التكوين الأنثوى الخالد إلا بوصفه موضعاً مشتركاً للجمال والجلال معاً.. فيأخذنى الجمال فى المرأة دائماً ليحول نظرى نحوها إلى نوع من الاستغراق الصوفى.

وفى مدرستى الابتدائية تفجر فى طفولتى شغفان، تلقفهما أساتذتى العظام بالرعاية والتنمية، وكان سبيلى إليهما معاً هو الشعور بالجمال، فأحببت الإلقاء مغموراً بجمال التعبير، وولعت بالرسم مفتوناً بجمال الصورة.

وفى الثالثة الابتدائية بمدرسة الإنجيلية النزهة بشبرا كان الأستاذ/ فاضل مدرس اللغة العربية يكتب لى بنفسه الخطب الرنانة، لأقف فى طابور المدرسة ألقى الخطب أمام زملائى، وكان الأستاذ/ فريد يترك معى مفتاح حجرة الرسم بالمدرسة، التى تمتلئ بالألوان واللوحات الخام المعدة للرسم، والأدوات كلها، لأذهب لأرسم كلما واتتنى الفرصة، حتى امتلأت جدران المدرسة بلوحاتى المكبرة لرسوم صاروخان وصلاح جاهين وغيرهم ممن زخرت صحف ذلك الزمان برسومهم الجميلة؛ ولقد فجّر ولعى بالرسم سلسلة طرزان المرسومة فى جريدة الأهرام، التى كان أبى مواظباً عليها، وكنت حريصاً على قراءتها بعده، وعلى أن أعكف على تقليد رسوم مسلسل طرازان تقليداً متقناً، شجعنى أبى عليه، فمدنى بأدوات وكراسات الرسم اللازمة؛ على أن قراءتى للأهرام فى الثالثة الابتدائية جعلتنى أفوز لمدرستى بكأس أوائل الطلاب، رغم كونى أصغر أفراد فريق مدرستى، لغزارة المعلومات العامة التى أمدتنى بها الأهرام فى هذه السن الصغيرة.

أقول إننى فى هذه السن الباكرة - حوالى ثمانى سنوات من العمر - أحببت الإلقاء مغموراً بجمال التعبير.. وولعت بالرسم مفتوناً بجمال الصورة، فكان الجمال والامتلاء به هو مفتاح تكوينى وتنشئتى.

على أن الامتلاء بالجمال والاستغراق فيه راح يتعمق أكثر وأكثر فى مدرسة الترعة البولاقية الإعدادية للبنين، حيث أحرزت فى السنة الأولى 1961 / 1962 المركز الأول، وكان الأستاذ/ الصاوى تهامى سعد ناظر المدرسة، الذى لم يناظره أحد البتَّة فى كل من توالوا عليا من النُّظَّار، كان يسلمنى ميدالية التفوق بعد امتحانات كل شهر من شهور السنة علناً فى طابور المدرسة الصباحى، وشجعنى أن أملأ المدرسة بأنشطة الخطابة والرسم والفوز فى مسابقات البحوث..

لكن نشاطاً جديداً برز على الساحة متقدماً ومسيطراً، كان دافعه الأكبر فى تلك السنة الأستاذ/ سليم فام، المشرف على المكتبة، التى كانت من كبريات مكتبات المدارس فى ذلك الوقت، بذخيرة تربو على الأربعين ألف كتاب فى كل أبواب المعرفة.

فتح لى الأستاذ/ سليم فام أبواب المكتبة على مصراعيها، ومنحنى ثقته، فأعطانى مفتاح المكتبة، وجعلنى رئيساً لجماعة المكتبة، ولم يخف تشجيعه وذهوله وهو يرانى أنتهى فى الأجازة الصيفية بين السنتين الأولى والثانية من دولابين حافلين بكتب القصة فى المكتبة، حيث قرأت يومياً أربعة أجزاء من سلاسل كاملة ملأت الدولابين معاً، تحتوى كل سلسلة منها على حوالى عشرين جزءاً، يبلغ حجم الجزء الواحد منها مائة إلى مائة وخمسين صفحة، غطت أحداثاً شيقة، وأساليب عربية بديعة، فى حياة "الأميرة ذات الهمة"، و"عنترة بن شداد"، و"فارس بنى عبس" وغيرهم وغيرهم، حتى ما انتهت الأجازة إلا وتلميذ الإثنى عشر ربيعاً قد أتى على أكثر من أربعمائة كتاب فى الدولابين المخصصين للقصة بمكتبة المدرسة..

وراح الشغف الهائل بالجمال يتعمق خلال السنتين التاليتين، ويتشعب فى فروع المعرفة كافة، بفضل المكتبة الرائعة التى جعلها بيتى وقبلتى الأستاذ العظيم/ سليم فام، وكانت التوفيقية الثانوية بعد ذلك صورة طبق الأصل من تفوقات وأنشطة المدرسة الإعدادية، لكن إضافات حاسمة للقراءة – فى هذه المرحلة الحرجة – بمكتبة التوفيقية الثانوية راحت تشكل على نحو قاطع الصورة الجمالية المكتملة للمرأة فى خيالى وأحلامى..

كان لقائى بالأسطورة الإغريقية فى كتب المكتبة كلقاء القدر..
وكان لقائى بكتب الفن فى العصر الإغريقى وعصر النهضة جزءاً من لقاء القدر..

راحت الأسطورة والفن العظيم ينحتان فى وعيى هيكلاً مثالياً لفتاة الأحلام، التى بدت لى بعيدة عصية المنال، ما صنع حاجزاً صفيقاً بينى وبين الواقع حولى، وجعل من فتاة الأحلام أملاً لا يتحقق أبداً فى الأمد القريب.

وحين التحقت بهندسة القاهرة عام 1967، كان نصف الدفعة الذى أنتمى إليه يضم سبعين فتاة من عيون فتيات جيلى ذكاءً وجمالاً وأصلاً، وفى السنة الأولى كان الذين كان اختاروا قسم الكهرباء حوالى ثلاثين فتاة، لكننى كنت عزوفاً عن أية علاقات خاصة، وكنت أتعامل مع الجميع بزمالة محايدة، وفى الأوقات التى يتأخر فيها الأستاذ عن المحاضرة كنت أخرج إلى السبورة العريضة بالمدرج فأرسم بالطباشير لوحات يستقبلها زملائى وزميلاتى بترحاب شديد.. كما تقدمت بطلب لأقيم معرضاً فنياً بقسم الكهرباء اشتمل على حوالى عشرين لوحة، وافتتحه عام 1969 صلاح هدايت وزير التعليم بحكومة حرب الاستنزاف، فصرت مشهوراً بدفعتى والدفعات الأخرى، وحظيت بحفاوة بالغة من كل بنات الدفعة، حتى لقد كن عندما يتجمعن على باب المدرج فى الفاصل بين المحاضرات، ويحدث أن أدخل المدرج، تصطففن فى لطف بالغ على جانبى الباب، وتبتدرنى إحداهن بدعابة جميلة: "شايف يا سيدى بقى إحنا واقفين لك حرس شرف أهه"، وعندما رشحت نفسى لعضوية اتحاد الطلاب عن اللجنة الفنية للسنة الأولى، ذهبن جميعهن لمنحى أصواتهن، وأمام باب غرفة رعاية الشباب التى كانت مكاناً للانتخاب، خَرَجَتْ إحداهن عن الصَّفّ وأنا أتفقد سير عملية التصويت، لتسلم علىّ وتقول لى: "كلنا جايين مخصوص علشان نختارك".. فكنت محظوظاً جداً بحب واحترام وصداقة الجميع، لكننى ما خطر ببالى أبداً أن أكون على علاقة خاصة بأى زميلة، رغم توافر الفرصة أمامى على نحو مذهل.

والحق أن هذه الحُظوَة فى المكانة والحفاوة لدى الجنس الآخر لم تكن جديدة بالنسبة لى، فمع مستهل العام الدراسى فى الثانية الثانوية عام 1964، بدأ تشكيل منظمة الشباب الاشتراكى العربى باختيار أوائل الفصول فى المدارس الثانوية، وكنت الأول وسعيد حسانين الثانى، فتم اختيارنا معاً للمنظمة، وحضرنا أول معسكر للشباب بحلوان حظيت فيه بلقاء الرئيس عبد الناصر، ثم تلاه معسكر آخر فى أبى قير بالأسكندرية..

ضم معسكر الشباب بأبى قير عيون شباب وشابات مصر، وفى هذا المعسكر كانت تدور النقاشات السياسية - فى الاشتراكية والرأسمالية والتطبيق الوطنى- فى خيام أقيمت بعد تقسيم المجموع الكلى للشباب إلى مجموعات فرعية، وسرعان ما ذاع صيتى بين المجموعات بالمعسكر لأننى كنت أحفظ عشرة أبواب الميثاق الوطنى عن ظهر قلب، وكنت أستخدمه ببراعة فى المناقشات، كذلك اخترت فى المعسكر نشاط مجلة الحائط، فأْصدرت مجلة مشهودة تصميماً ورسماً ومحتوىً، وكنت أسهر الليل أرسمها وأكتبها ليقرأها الجميع فى الصباح، وفى إحدى الليالى كان المشرف يتمم على خيام المناقشة، ووجد رأسى ساقطاً فى الثالثة صباحاً على لوحة المجلة التى انكببت عليها لأخرجها، وقد غرقت فى النوم عليها من فرط الإجهاد، فاختارنى على الفور عضواً بوفد منظمة الشباب على ضيافة الرئيس مكاريوس، رئيس قبرص وصديق عبد الناصر فى ذلك الوقت..

ولقد كان هذا التفانى فى العمل والشهرة فى النقاش مدعاة لمجئ الكثيرات من البنات الممتازات بالمعسكر للتَّعَرُّف علىّ والاقتراب منى، حتى أن إحداهن - وكانت شديدة التَمَيُّز - جاءت إلى جوارى تتحدث معى طوال رحلة العودة بالقطار من
"أبو قير" إلى القاهرة، وأخذت عنوانى، وزارتنى فى البيت لتتعرف على أمى وأخوتى، وتنشئ صداقة حميمة على المستوى الأسرى..

وليس ذلك فحسب.. فلقد انضممت إلى كورال منظمة الشباب الاشتراكى العربى بعدما وقع الاختيار عَلَىَّ لأؤدى الاختبار بمركز شباب الجزيرة، وكانت الممتحنة هى الفنانة الكبيرة آنذاك فايدة كامل، التى عزفت مقطوعة طويلة على البيانو وطلبت منى أن أكررها بفمى، فلما أديتها تركت البيانو وصفقت تصفيقاً حاداً إيذاناً بالقبول، ثم رحنا بعد ذلك نتدرب بمنتهى الجد فى جلسات متعددة لنؤدى نشيد الثورة فى عيد الثورة أمام الرئيس عبد الناصر.

وفى هذه الجلسات للتدريب كانت تقترب منى فى كل مرة إحدى الفتيات فى الفريق، لتمشى معى طريق العودة، وتحاول أن تبنى معى علاقة.. وأنا أتعجب لعدم ملاءمة الظروف مطلقاً.. وذلك فضلاً عن فتيات عديدات مبهرات فى محيط الأسرة، وأُسَرّ أصدقاء أبى وأمى، والخادمات بالكنيسة التى كنت أخدم فيها، وصديقات شقيقتى التى تكبرنى بسنة واحدة.

ومن بين هؤلاء طالبة طب عين شمس المتألقة، التى اكتسبت داخل أسرتى لقب "الدكتورة سهير"، التى واظبت على زيارتنا فى البيت بصفة يومية فى طريق عودتها من كلية الطب بالدمرداش، لتجد فرصة تقترب منى طوال فترة دراستها..

والخادمة المتفوقة بالكنيسة، إبنة رجل الأعمال التى أهدتنى قلماً من ذهب وهى تقول بدعابة جميلة: "علشان كل ما تكتب بيه تفتكرنى".. وكان ذلك حين أوفدنى أستاذى الدكتور/ أحمد على العريان عميد هندسة القاهرة إلى تدريب صيفى بمصفاة البترول بالزرقاء بالأردن، من خلال برنامج للتبادل الطلابى بين نقابتى المهندسين فى مصر والأردن؛ وغيرهن الكثيرات من عيون البنات الجميلات، المتفوقات فى دائرتى والدوائر التى أتصل بها.. اللاتى لم تكن آخرهن إبنة صديق أبى، فتاة الفنون الجميلة المبدعة، التى ابتدرتنى مَرَّةً وأنا أعدد عقبات الارتباط التى لا تزال أمامى من التخرج، والخدمة فى الجيش، وعملى بعد الجيش، وتكوين مستقبلى.. ابتدرتنى بقولها الذى أذهلنى: "أنا على استعداد أن أنتظرك عشر سنين".

وفى كل هذه المعارف والفرص كنت أتلقى الاهتمام والشغف ممن يطلبون وُدِّى، لكننى لم تواتنى أبداً جرأة أن ً أتقدم للتعرف بفتاة، رغم جسارتى فى الخطابة والحديث والمواجهة والمبادرة فى كل الأنشطة التى انخرطت فيها، فلقد كنت شديد الخجل فى الإقدام للتحدث لأى فتاة..

ولقد تعظم هذا الخجل، وانعدام الجرأة على الاقتراب من أى فتاة، بوازع من تلك التربية الدينية التى غرست فى فكرى ووجدانى أن الابتعاد عن الفتيات هو قمة الأدب والفضيلة، حتى لقد كنت إذا خرجت مع شقيقتى التى تكبرنى بعام واحد فقط أمشى على رصيف الشارع، وتمشى هى على الرصيف المقابل، لآخذ بالى منها من بعيد!!!

تعظم هذا الخجل بثقافة انسحابية غبية، كانت تفصل بقدر المستطاع بين الفتيان والفتيات، خاصة داخل الكنيسة.. ثقافة دأبت على استلهام الأدب الرهبانى الذى تجذر فى الكنيسة بادعاء أنه أقوال القديسين، بينما هم ليسوا بقديسين، وكل ما خَلَّفُوه لا يعدو أن يكون تراثاً حافلاً بالعقد والتجنى والتخلف والمرض النفسى، يصور المرأة قطب الايقاع بالشر، ويصور الجسد موضع الخطية والإثم، ويمجد قمع الطبيعة الإنسانية البريئة الفاضلة، ويعظم من تحقير الجسد وإذلاله، وينسب إلى الروح الخوف والحذر وغواية الشيطان، مستنداً فى ذلك إلى فهم قسرى مغلوط لآيات الإنجيل، ولى عمدى لذراع المفاهيم المقدسة، وهو التراث الذى استفقت - بعد الزلزال الروحى الذى مررت به - على الثورة الشاملة عليه، محطماً فساده المتمكن، وهادماً صروحه المنافقة المريضة، حتى وضعت كتابى الثائر "بيريسترويكا كنسية" ليكون هو وثيقة هذه الثورة.

وفى كل هذا الإقبال الذى خبرته وحظيت به من فتيات جيلى كنت موصد العقل والقلب كأنما بأقفال لا تُفْتَح، وكان المثل الأعلى للمرأة الذى نحته الفن والثقافة فى وعيى وخيالى حاجزاً مانعاً لقدرتى على التجاوب، فضلاً عن القيم الدينية المغلوطة التى كبلت روحى حينها كأنما بقيود من حديد!!!

وعندما حَلَّ العام 1970، وكانت السنة الثانية لى بهندسة القاهرة قسم الكهرباء، خرجت فى اليوم الأول للعام الدراسى سائراً على قدمىَّ من بيتى إلى محطة أتوبيس 124، التى تحتل موقعها أمام كشك الجرائد فى تقاطع شارعى خلوصى والترعة البولاقية، ووقفت على المحطة أنتظر قدوم الأوتوبيس وأنا أتصفح بعض المجلات الثقافية على منضدة أمام كشك الجرائد، وحين رفعت عينى لاستقيم فى وقفتى منتظراً، مادت الأرض تحت قدمَىَّ، وكأنما زلزال قد أطاح بتوازنى من هول الصدمة، وأنا أراها أمامى دخلت محطة الأوتوبيس بجمال باهر يفوق الجمال الإغريقى النموذجى لإلهة الجمال.. جمال باهر ظالم الحسن حقاً لا شعراً.. شهى الكبرياء..

أخذنى الذهول وأنا غير مصدق أن نموذجى المثالى يتحقق هكذا سريعاً، وقد حسبته عصى المنال لزمان أطول، واسترحت تماماً إلى هذا الظن، ملتفتاً بجملتى إلى دراستى وكل أنشطتى التى أنا منخرط فيها..

وإذا بالانبهار الذى سيطر عَلَىَّ يَغْشَىَ عَيْنَىَّ واقعياً وحقيقياً بما يشبه هالة الضياء حولها.. فلم أستطع أن أتبين أى تفصيل لأى ملامح بوجهها..

وكانت المفاجأة حين وصل أتوبيس 124 المحطة أنها قد ركبت مع الراكبين، وركبت أنا أيضاً عن بُعدٍ منها وأنا أتحاشى النظر إليها، حتى توقف الأتوبيس أمام كلية الهندسة بالجيزة، فإذا بى أراها تنزل مع النازلين، وتتجه مع الذين اتجهوا منهم إلى كلية الهندسة، وتواصل سيرها إلى قسم الهندسة المدنية، بينما أشق طريقى أنا إلى قسم الكهرباء.

وعلى مدى النصف الأول من العام الدراسى كله، كنت أقف مشدوهاً على محطة أتوبيس 124، مأخوذاً بهالة الضياء المحيطة بها منذ لحظة دخولها المحطة، كَمَلَك نورانى متسامى عن عالم البشر، وحتى لحظة ركوبها الأتوبيس.. وباءت بالفشل محاولاتى كلها لأستجمع شتات روحى، وأقترب منها لأتكلم معها.. وهى قد لاحظت من فرط وقوفى الذاهل من بعيد أتطلع إليها أننى قد غرمت بها غراماً قدرياً لا استطاعة لى مطلقاً على التحكم فيه أو الفكاك منه..

وكان مشهد التطلع الذاهل يتكرر لو تصادف أننى رأيتها على محطة الأتوبيس عائدة من الكلية، كما ظل يتكرر طوال الشهور الثلاثة على محطة أتوبيس "خلوصى" كل يوم صباحاً، وكانت هنالك محطة وسيطة أمام الجامعة الأمريكية بميدان التحرير، يتم تبادل الأوتوبيس عندها فى حالات كثيرة، فكان مشهد التطلع الذاهل يتكرر عندها أيضاً دون جدوى..

كنت كمن يعانى انفصاماً مروعاً فى شخصه.. وكنت أتعجب لذلك فى نفسى تعجباً هائلاً.. ذلك أننى فى الوقت الذى تَهَدَّمَتْ فيه روحى هكذا من فرط الذهول وعدم القدرة على الاقتراب منها والبوح بالغرام الفاجع الذى يعذبنى.. كنت أقوم بعمل عملاق وانتهى من تأليف كتاب "المدخل إلى الهندسة" للأستاذ الدكتور/ أحمد على العريان، بعدما أبليت فيه بَلاءً مبهراً، راح استاذى العظيم يمطرنى كل يوم لأجله بثناء فادح.. لكن الأستاذ بفراسته وذكائه أدرك محنتى الروحية، وكان وهو لا يعرف سببها يحاول أن يشددنى بكلمات التمجيد المتواصل وبث الثقة..

ولما هَدَّنِى الوَجْدُ وأرقنى الحنين تفتق عذابى عن استخدام موهبتى الكامنة فى بلوغ الفرصة المستعصية للتحدث إليها، فدخلت إلى مكتب عميد كلية الهندسة أطلب مقابلته قبل إجازة نصف العام، لأطلب منه أن يمنحنى نصف حجرة الطالبات الأمامى الملاصق لباب الدخول - نظراً لموقعها الاستراتيجى الذى يتوسط الكلية - لأقيم معرضاً فنياً لمدة أسبوع، أعرض فيه لوحاتى فى حدث وفاة الرئيس جمال عبد الناصر فى 28 سبتمبر 1970.

وإذ وافق الأستاذ العميد أمضيت أجازة نصف العام كلها أرسم خمساً وأربعين لوحة لإقامة المعرض بحجرة الطالبات بعد الإجازة مباشرة.

أقمت المعرض تتوسطه لوحة ضخمة لوجه عبد الناصر بالحجم الطبيعى فى أجمل البوزات المشهورة عنه.. ومشحوناً بمشاعر الولع التاريخى بالزعيم الراحل جاءت اللوحة متقنة إلى حَدِّ فائق لا يمكن وصفه، حتى إننى فى يوم الافتتاح استوقفتنى إحدى زميلاتى فى الدفعة بفناء الكلية، بالقرب من حجرة الطالبات، وقالت بانفعال مذهل تصف وجه عبد الناصر فى اللوحة: "هاينطق.. هاينطق.. هاينطق".. ثم عرجت فجأة بالقول فى قمة الانفعال: "باحبك.. باحبك.. باحبك" فغشينى ذهول لحظى من قوة البوح وصدقه، واحمر وجهى خجلاً، ولم أجد من الكلمات ما أرد به سوى: "متشكر جداً.. متشكر جداً"..

لكننى انصرفت مبهوراً بقدرتها على البوح، وأكبرتها لشجاعتها وصدقها وقوة شعورها، ورحت أتأمل ما حدث وأنا أُطَوِّبُهَا فى داخلى على تلقائيتها التى كسرت بها التَّهَيُّب والتردد..

فازت لوحة عبد الناصر لروعتها الاستثنائية بجائزة جامعة القاهرة، متقدماً بها على اثنتى عشرة كلية بما فيها الفنون الجميلة والفنون التطبيقية، لكننى وصلت إلى اليوم الأخير فى المعرض دون أن أستطيع أن أوقف فتاتى لأتحدث إليها على نحو طبيعى غير مفتعل، فامتلأت تصميماً أن أتشجع واستوقفها.. وبالفعل انتظرت مرورها على باب الحجرة، وقلت لها بصوت خاطف وهى تمرق من الباب إلى الداخل كدأبها طوال أيام المعرض دون أن تتوقف: "من فضلك.. أرجو أن تلقى نظرة على المعرض"، فتراجعت بخطوتها نحو المعرض وابتسامة متحفظة على وجهها.. لكن المذهل أن قلبى راح يخفق خفقاناً مضطرباً، وجفَّ حلقى جفافاً كاملاً، ووجدتنى غير قادر على الكلام مطلقاً، فأعطيتها جانبى وأنا أمر مسرعاً على اللوحات أحاول جاهداً التعليق عليها، وإذا بالثوانى التى انتظرتها طويلاً، وخططت لها كثيراً، وشقيت لأجلها وأنا أرسم فى وقت خرافى خمساً وأربعين لوحة.. إذا بها قد تبخرت سريعاً من بين أصابعى دون أن أقول كلمة واحدة محبوسة فى صدرى، تؤرق روحى أرقاً لا نهائياً منذ اختلج قلبى لها اختلاجته الكبرى..

لكننى كنت قد أعددت لها كتاباً قمت برسم لوحاته الداخلية، كتبه زميلنا رشيق رفعت عن القضية الفلسطينية، وكانت لوحاتى بالكتاب قد بلغت قدرة تعبيرية نالت حظاً وافراً من المديح، وتجرأت فكتبت على صفحته الأولى إهداء بكلمات قليلة مفعمة بالشاعرية، لكننى بعد ذلك لاحظت عليها اضطراباً شديداً يغمرها إذا ما رأتنى صدفة، فحرصت ألا أظهر فى مجالها البتَّة حتى آخر العام الدراسى، لأمنحها أمناً واطمئناناً.. بينما روحى تعتصر.

لكن المقادير كانت لا تزال لم تغلق القصَّة الحزينة بعد، ففى اليوم الأخير إطلاقاً من العام الدراسى بعد الانتهاء من كل الامتحانات، استقليت الأتوبيس من أمام الكلية حتى ميدان التحرير، وانتظرت فى المحطة الوسيطة أمام الجامعة الأمريكية وصول أتوبيس 124 ليقلنى إلى خلوصى بشبرا..

وعلى حين فجأة – كأن الأرض انشقت عنها - وجدتها واقفة على المحطة على بُعْد خطوات منى وهى تبتسم لى، ثم اقتربت منى حتى لم يعد بينى وبينها سوى خطوة واحدة، وألقت عَلَىَّ السلام بمنتهى العذوبة والرضى، وبدا أنها تريد أن تفتح معى حديثاً ونحن فى انتظار الأتوبيس على المحطة..

لكننى لم أصدق عَيْنَىَّ البتَّة.. وران عَلَيَّا فى وقفتى شلل لحظى، وجف حلقى جفافاً عجيباً فنزع عنى أى قدرة على الكلام، ولم استطع سوى أن أبتسم لها ابتسامة رائعة خرجت من أعماق روحى.. ثم طأطأت برأسى إلى الأرض فاقداً القدرة تماماً على الحركة أو النطق.. أما هى فلقد تفهمت الأزمة التى احتوتنى، وراحت تبتعد قليلاً لتنتظر وصول الأتوبيس تحت التندة..

وبعد وقت قصير جاء الأتوبيس شبه خالٍ إلا من نفرِ قليل، فصعدت إليه واتخذت مكانى فى كرسى مزدوج خالٍ، وإذا بها تصعد إلى الأتوبيس خلفى وتجلس إلى جوارى، وفى إشفاق بالغ وعذوبة متناهية تفتح حديثاً معى تحاول أن تخفف فيه عنى، وتنتشلنى من مُرَكَّب الذهول والارتباك والحنين والتلعثم والتهدم الروحى الذى صار واضحاً جداً لا يمكن إخفاؤه..

كانت هى فى السنة الرابعة قسم الهندسة المدنية على عتبات التخرج بعد الانتهاء من مشروع التخرج، وكنت أنا أنهى السنة الثانية بقسم الهندسة الكهربية، وكانت تلك لحظة وداعية رائعة صنعتها هى بشخصيتها الثرية العذبة، كأنما وَجَدَتْ أن وَلَعِى الصامت المعذب بها يستحق على أقل تقدير هذا الشكر والثناء الإنسانى الرفيع.

عَرَفْتُ أن اسمها "نجوى".. فصارت لى "نجوى" للروح سنوات بلغت الست عشرة سنة حتى أنعم اللـه عَلَىَّ بلحظة العمر الخالدة حين اهتديت فعلاً إلى نصفى الحقيقى الآخر.

لكن روحى تهدمت فى نهاية السنة تهدماً كاملاً ترك جهازى العصبى منهاراً من فرط حرصى أن أبدوا متماسكاً أمام الجميع من خارج، بينما أنا محطم تماماً فى الداخل، ما أُثَّرَ تأثيراً بالغاً على بِنْيَتِى الداخلية، حتى لقد بَقِيِتُ قرابة الستة أشهر
لا أستطيع أن أضم أصابع يدى اليمنى على القلم لأكتب.

بَيْدَ أن هذه التجربة الروحية العميقة سرعان ما استحالت إلى تجربة معرفية صرف..

فلقد راح يُلِحُّ عَلِىَّ سؤال خطير أردت أن أجد له حلاً شافياً نهائياً: "ما الذى حدث لى؟ وكيف تهدمت روحى إلى هذا الحد؟
وما حقيقة الشعور الذى سيطر علىَّ على هذا النحو العجيب؟".

وفى غمرة بحثى عن الجواب لم أترك كتاباً عن الحب إلا قرأته، لكننى بعدما طويت مائة كتاب فى الحب دون
العثور على جواب شاف، كان الكتاب الواحد بعد المائة أشبه بالكنز الذى انفتح أمامى ليعطينى الجواب، فلقد وقعت على كتاب الدكتور/ زكريا إبراهيم: "مشكلة الحب".. الذى صارت كل عبارة من عباراته بلسماً شافياً لجرح من جروح روحى..

عندئذ انكشف لى أن ما حدث كان تجربة الوعى بحضور المرأة فى العالم وفى وجودى، وهذه التجربة كانت من الغنى كالكشف الصوفى الذى تزلزلت له روحى، فنقل وعيى بالمرأة من العالم الخيالى إلى العالم الحقيقى، لكن الوعى الذى خَلَّفته قد أنضجنى فى عام واحد عشرين عاماً على الأقل من عمر الزمان، وأدركت الحاجة الشديدة لنقل هذا الوعى إلى الآخرين، فحوَّلتُ كتاب "مشكلة الحب" إلى سلسلة محاضرات، كانت لها صدى عميق لدى كل الشباب الذين استمعوا إليها فى الاجتماعات التى حاضرت أو خدمت فيها.

وكان من أهم التابوهات التى تهاوت فى هذه التجربة الخطيرة ذلك التعليم الفاسد الذى لقنوه لنا فى مدارس التربية الكنسية عن المرأة والجسد، لأننى كنت أشعر شعوراً عميقاً أن وَلَعِى بها حين سيطر على روحى وقلبى ووجدانى قد حَلّق بى إلى سماوات الطهر والنقاء والنور والضياء، على عكس كل الهرطقات والتُّرَّهات التى حاولوا أن يفسدوا بها براءتنا الأولى.

وفى ملء زمانى.. فى السادسة والثلاثين من عمرى.. كنت قد أكتمل وعيى بالعالم والوجود، فاخترت الفتاة الفريدة التى ملأت حياتى جمالاً وجلالاً، وتجاوزت معى الثنائية الظاهرة إلى الإنصهار الذى مَرَدُّهُ الوحدة.. التى بلغت الملء.. الذى كنت أصبو إليه بكل جوارحى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في


.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/




.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي