الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التكامل الفني في العروض الناقصة

فاضل خليل

2021 / 9 / 11
الادب والفن


إذا ما استثنينا في (المونودراما) الجمهور والخشبة _ أي مكان للعرض ولنا الحرية في اختياره _ اي في من يستقبل النتيجة في الفشل أو النجاح, وعليه فان مثلث المحنة في المونودراما انما تكمن في المكونات الثلاثة ( التأليف - الإخراج - التمثيل ) من المكونات الخمسة للعرض(*). ولعل وظيفة التأليف (النص) المهمة الأقل مشاكل او بمعنى آخر هي الأسهل بين الوظائف الثلاثة، لاسيما إذا كان المؤلف لاينتمي إلى المسرح أو لنقل وافد اليه من فنون ادبية أخرى, أي إذا كان وافداً اليه من فن آخر قريب أو مغاير فان الأمر لا يعدو اكثر من تدوين حادثة او مذكرات عادية, ولان الحكاية في المونودراما تشكل الطرف الأهم من أطراف المعادلة لكن البعض من المنظرين لا يعطيها الأهمية البالغة التي نعتقد. مثل ( بيتر بروك ) الذي يحدد الأهمية في ( المسرح - الممثل - المتفرج - أو أي مضمون بسيط يتفق عليه ) أو ( كروتوفسكي ) الذي يؤكد وجود ( مسرح - ممثل - جمهور ) .إذن فالنص لا يمثل الطرف الأهم في المسرح ( فالممثل والمتفرج هما العنصران الأساسيان للفن المسرحي , قد يغيب مؤلف النص, وقد تغيب خشبة المسرح [العلبة الإيطالية], لكن فضاء العرض متنوع يحتمل اكثر من اقتراح. ولكن لابد من وجود الشخص الذي يقوم بالعرض والشخص الذي يتلقاه ـ الممثل ـ [ بوتينتسيفا: ألف عام وعام على المسرح العربي , ص 33 ] يؤكد هذا الرأي ( ماكس راينهارت ) حين يقول ( المسرح يوجد عند توفر طرفين - ذلك الذي يمثل وذلك الذي يتفرج )(1). هذه المقدمة فقط لأني اريد أن اتحدث عن ممثلة بأهمية المسرح.
يبدأ العرض بالممثلة ( جليلة بكار )، تفتح الستارة السوداء في عمق المسرح لتخرج منها ولتقف طويلاً تنظر في وجوه المشاهدين في الصالة دون أن تفصح عما تريد , تقترب رويداً رويداً وهي تنظر بالوجوه دون أن تنبس ببنت شفة غير أنها تبحث في الوجوه عن شخص ما افتقدته بين حضور عروضها , نكتشف فيما بعد أن تبحث عن ( عايدة) إحدى المواظبات على عروض ( بكار ) وهي لم تفتقدها هنا لأول مرة بل تكرر فقدانها في العروض الأخيرة وفي اكثر من دولة قدمت فيها عروضها من هنا تبدأ ( بكار ) تسرد للحاضرين حكايتها مع ( عايدة ) المرأة الفلسطينية التي غابت من اجل القضية, إذن لم تكن تتحدث عن عايدة بل كانت تتحدث عن قضية وهي لم تفتقد عايدة بل افتقدت القضية الفلسطينية كاملة ,هذا مجمل بسيط للحكاية. والديكور الذي كان اكثر بساطة من الحكاية حيث توزع العرض على أماكن ثلاثة بسيطة, منصة تحكي فيها حكايتها أشبه بمنصة ( النوتة الموسيقية ) يلعب الضوء بالمكان من كل الجهات لاسيما الأضواء الخلفية التي انصبت عليها في لحظات الفعل الحزين ساعتها في خلق الجو المناسب للموضوع, كل شئ كان بسيطاً , لكنه كان عميقاً, ألم يقل ( الكسي بوبوف ): إن العمق في البساطة, ولكن أية بساطة عملاقة تلك التي تقودها (بكار ) . إن مقاييس النجاح كانت كلها حاضرة في هذا العرض, لكن الجمهور خرج من هذا العرض وهو يردد بحياء: انه عرض لا يليق ب ( بكار – والجعايبي ) الا أنني الذي استمتعت كثيراً بما قدماه كنت على العكس من تصوراتهم, لأنني وجدت ان ( بكار – الممثلة ) لم تكن تبحث عن ( عايدة ) حسب, إنها كانت تبحث عن القضية .. سحرتنا وهي تتجول بعيونها في دروب يافا وحيفا, من خلال وجهها وابتسامتها قالت الكثير, جسد الناحل نسق لنا فضاء المسرح سافرنا معها رغم قرب المسافات في محطاتها المسرحية القريبة , نقلتنا معها من تونس إلى بيروت إلى حيفا, إلى عمان, إلى القاهرة, تمكنا إن نشاهد في أعماقها كل المدن, لقد شكلت الحركة في صوتها , في الموسيقى التي تصدح حيناً وتنساب أحيانا أخرى برومانسية عالية مثل شعر الكلمات الباحثة عن ( عايدة ) مثل الموسيقى العذبة المذبوحة المنطلقة من صوت ( جليلة بكار), مثل ( القضية الفلسطينية ), كان الهم حاضراً في ذبح القضية الفلسطينية او تقسيمها.
سألتني بكار بحضور ( الجعايبي) وقبل أن أشاهد العرض للمرة الثانية في ( مهرجان الرباط في المغرب )
- كيف كان استقبال العرض في ( عمان – الأردن )
- قلت لها : لأنه كان عرضاً هادئاً استقبلوه بسكون هادئ يشوبه الحذر. لذا أعقبته ضجة بعد حوار طويل عن العرض، دام وقتاً ليس بالقصير, لقد أرادوا – بل منوا النفس – ان يكون عرضا لاهثا, واكثر بهرجة في مكوناته الأخرى, وفي الضوء – الذي كان لغة جبارة لا تقل أهمية عن بقية مفردات السينوغرافيا.
- أنت كيف وجدت العرض؟ ( سألتني جليلة بكار ثانية ).
- أنا رأيت العرض حيوياً, نشطاً لان الحديث في هذه القضية يجب أن يكون بهذا الجلال. ( وهنا تذكرت ما كتبه نقاد بيروت عن هذا العرض وهو الذي تم تدوينه في ( بروشور العرض ) مختصرات وافية أدت غرضها .. لقد قالوا:
- الممثلة نجحت في جعلها تعبر بخفة من دون أن تثقل أدائها الداخلي المتقن.
- رقة الممثلة وعذوبتها لم تخفيا حرقتها
- لم يكن العرض تمثيلا اقل من التوقعات في حضور بكار على الخشبة وخلاصة القول كان عرضاً ( مونودرامياً ) أدى أغراضه حين خلق من الجمهور ( الآخر) الذي يجب ان يقاسم الممثل الواحد، البطولة، وهو دائما غائب، كواحدة من اسباب قيام المونودراما. ليكون معهم الحديث في قضية حيوية.
يحدد ( نيميروفتش دانجينكو ) المسرح الاعتيادي بالقول ( يكفي أن يدخل الساحة ثلاثة ممثلين , ويفرشوا سجادة صغيرة على الأرض , ثم يشرعوا بالتمثيل, حتى يكون هناك مسرحاً, هذا هو جوهر العرض المسرحي ) ذلك لان المؤلف هو الذي يكتب وفق الشروط المألوفة في كتابة المسرحية من وجود ( حبكة, بداية, وسط, نهاية, شخوص..الخ ) وما يتبع ذلك من تشويق وإثارة وتتابع, وليس شرطاً أن يقترح المؤلف شروط المكان والزمان والهيئة, الفنان الكاتب هو ليس خالق الكلمة وحسب - كما هو متعارف على ذلك عربياً, وانما هو الذي يملك الرؤية والتصور التشكيلي والمعايشة للمشكلات التي يعالجها, رغم أن المخرج متمسك بالرأي في آن ذلك من أساسيات عمل المخرج الذي يصفه( تاييروف ) بـ( الذي يوجه وينظم الصراعات التي تتكون, مهوناً ومقوياً ,ومحطماً وخالقاً لها . هذا الشخص هو المخرج ) [ تاييروف: مذكرات مخرج, موسكو, 1970, ص 256] الذي بواسطتهِ يتكون الفعل المسرحي الناتج عن الصراع المحتدم نتيجة العلاقات والصدامات التي تجري بين أفراد وجماعات, ولكي لا تكون هذه الصدامات فجائية, أو لكي ينساب الفعل المسرحي بشكل منتظم وطبيعي, ووفقاً للأشكال المتغيرة والمتوازنة كان ولا يزال المخرج ضرورياً , لكن ( كيف السبيل إلى إقناع مؤلف بات معروفاً بأنه اقل دراية بصنعة الكتابة من المخرج؟) [ علي مزاحم عباس: أزمة النص المسرحي العراقي, مجلة آفاق عربية, السنة الثامنة, العدد 9, بغداد - آيار 1983 ] ولان مهمة الإخراج هي الأصعب في مجمل العملية المسرحية فان العرض (إخراجاً ) يعني التأليف والتمثيل ووسائل بث الحياة فيهما من خلال السينوغرافيا ( تشكيل العرض ) وما تتطلبه السينوغرافيا من مستلزمات, فالممثل هو المحرك الأهم لكل ما على الخشبة, وما يصاحبها من صوت وضوء, ولون وحركة وصمت وسكون ... وغيرها.
يقول كيث جونستون: ( بوسعك أن تشاهد ممثلاً رائعاً في الصف الخلفي لمسرح كبير, لا يمثل وجهه الا بقعة ضئيلة على الشبكية, فتتوهم انك رأيت كل تعبير دقيق, مثل هذا الممثل يمكنه أن يجعل القناع الخشبي يبتسم, وشفتيه المقوستين ترتعدان, وحاجبيه المرسومين يضيقان ). إذن هي الجاذبية وقوة الموهبة اللتان تحددان وصول هذا الممثل إلى الجمهور دون غيره, وكما في الشخصية ( الكاريزمية ) التي تحقق وجودها عن طريق إخضاع الكل لها. بحيث تصبح وظائف الأفراد تحت تصرفها في التلقي والاستقبال. وهكذا هي مهمةالممثل الواحد في عروض ( المونودراما ) في إذلال إشكالية ( الوحدانية ) في مهمته الصعبة. لأنها الإشكالية الأهم في تلك العروض, لما تتطلبه من إمكانات هائلة, وحضور لا يمل - فالقلة من ممثلي المسرح العربي قادرين على تولي مسؤولية التورط في محنة ( الوحدانية على المسرح , لأنه غالباً لا يمتلك من أدواته اكثر من موهبة ( السير والحوار والبكاء ) وهي أقصى غايات الإبداع لديه, وكلها قاصرة عن تقديم عرض فني متكامل, إذا ما عرفنا بان اغلب التعريفات الواردة في القواميس والمعاجم لمسرحيات ( المونودراما ) التي لخصها ( برشيد ) [ عبد الكريم برشيد : كاتب ومؤلف مسرحي وناقد من المغرب , له العديد من المسرحيات ] على أنها ( المسرح الذي يقوم بالأساس على ممثل واحد , وهذا الممثل الذي لا يملك الا خياله وعواطفه وذاكرته وجسمه ) [ عبد الكريم برشيد : المسرح المغربي في السبعينات ,مجلة الأقلام , كانون الثاني - شباط 1988 ص 85 ] . وفي عموم المسرحيات وليس في مسرحيات ( المونودراما ) وحدها يختلي فيها الممثل مع ذاته , بل أننا نجد ذلك في كل المسرحيات تقريباً , وعلى سبيل المثال مسرحيات ( شكسبير ) التي لا تخلو من ( المونولوج ) الطويل , كما في ( هاملت - مكبث - عُطيل - الملك لير -تيتيوس اندرونيكوس ) ...وغيرها , وكذلك في مسرحيات اغلب الكتاب عبر العصور وحتى الآن . في تلك ( المونولوجات ) استذكار لمعلومات ترتبط مباشرة بالإثارة الانفعالية أو ( الذاكرة الانفعالية - ستانسلافسكي) تلك الإثارة التي تمتاز بالعنف , وترتبط دائماً بـ ( الموت ) أو ( الجنون ) في ( إطلاق النار ) أو ( الخطف ) في ( الهجوم الجسماني ) الناجم عن الضرب أو الاعتداء , بأشكاله القاسية , فهي لا تخلو من تعذيب للذات في حالات القهر القصوى عندما تكون بديلاً عن ( الموت ) أو ( الجنون ). هذا التحديد يوضح لنا أن فن ( المونودراما ) هو فن سبر أغوار النفس البشرية والدخول في مناقشات عقلية لكثير من الهموم بالاستناد إلى تحديد نوع ( المثير arousal) الذي يحرك المشاعر . وكذلك نوع ( الحدث Errant ), وهو حدث انفعالي خاص , أم هو حيادي عام ؟؟ وهل يتطابق هذا الحدث مع خصوصية الممثل ؟ وهل كان الضحية , أم المتفرج ؟ وزمن ذلك الحدث هل هو بعيد , أم قريب يسهل تذكره ؟ يضاف إلى ذلك نوع المعلومات المتوفرة , هل هي هامشية أم مركزية ؟ كل ذلك لكي يبدأ الممثل الشروع في التجسيد والحركة على المسرح بشكل منطقي ذو تبرير وهادف .
ـــــــــــــــــ








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على


.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا




.. فوق السلطة 385 – ردّ إيران مسرحية أم بداية حرب؟


.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز




.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن