الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بنت الباشا … ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2021 / 9 / 12
الادب والفن


بهيجة .. البنت البكر للباشا رفعت .. تخطو بتثاقل نحو عقدها الثاني .. أخذت عنه سمرته البرونزية الداكنة ، وملامحه الدسمة الفضفاضة التي قد تكون مناسبةً لرجل ، ولكنها لن تكون بالتأكيد مناسبةً لفتاة في باكورة العمر وميوعة الصِبا .. أصر الباشا على أن تحمل اسم أمه رغم قِدَمه ، وعدم تماشيه مع الاسماء الموسيقية الحديثة السائدة في المجتمع المخملي المتأنق آنذاك .. !
لم تأخذ من شكل أمها الذي يشع منه السحر والجمال شيئاً .. حتى من يراها يقطع جازماً بانها بنت الباشا للشبه العجيب بينهما ، وبالتأكيد لن يخطر على باله انها ابنة السيدة حرم الباشا لأن الشبه بين الإثنين مقطوع تماماً ، فأين الثرى من الثرية .. ؟! رغم ذلك لم تكن بهيجة بذاك القدر من السطحية والتفاهة والزيف الذي درج عليه افراد الوسط الارستقراطي المتعالي في ذلك الزمان ، وكل زمان .. !
لكن الخالق عوّضها بأن اعطاها قلباً طيباً .. فتاة سهلة الطباع لطيفة المعشر حلوة الكلام .. وكأية فتاة أخرى تلعب برأسها الأحلام والخيالات الوردية ، ويداعبها ذلك الاحساس الذي يجذب اثنين الى بعض .. يسمونه الحب .. تتوق إن لم نقل الى تجربة في الحب ، فزواج مبني على الحب .. فهي تدرك انها تفتقر الى السلاح الاكثر فعالية في هذه المنازلة إن فكرت يوماً في خوضها أو دفعتها الاقدار اليها دفعاً - الجمال - الذي لم يكن لها فيه نصيب يذكر … !
يبدو ان أبيها كان مدركاً لهذه الحقيقة هو الآخر .. لهذا اختار زوجةً حسناء من عامة الناس بعيداً عن الوسط الارستقراطي الذي ينحدر منه في محاولة منه لتحسين نسله أو على الاقل ترطيب وتخفيف حدة القبح الملازم لعائلته اباً عن جد .. وقد نجح هذا المسعى مع اشقائها وشقيقتها الصغرى سوزان ، فجاءوا الى الدنيا على أجمل ما تكون الصورة .. إلا هي - لسوء حظها - فقد كانت كالشاة السوداء في القطيع الابيض ، وكأن جينات والدها الغالبة العنيدة قد وجدت اليها منفذاً سهلاً ، فالتهمتها لقمةً سائغة ، وانزلت فيها كل ملامح وتقاطيع والدها العشوائية والبعيدة عن التناغم والانسجام .. ولم ينجو من مخالبها إلا طبعها ، فقد عصى ، وشذ عن هذه القاعدة ، ومال الى طبع امها الرقيق المهادن السمح .
تشعر احياناً بأنها مظلومة بين أشقائها من اناث وذكور عندما تتطلع الى أشكالهم الجميلة وطلتهم البهية ، وعندما ترى بأم عينيها كيف يتغامز الناس ، وتتلوى ألسنتهم هامسةً ، وهي بصحبة أمها ، وكيف تتنقل نظراتهم بين وجه الام الحسناء ، ووجه ابنتها .. يملأهم التساؤل والعجب .. كيف يمكن لهذا الجمال أن يخلّف مثل هذا القبح ؟! كانت ترد بحسرة وألم بأنها لم تَخلق نفسها ، ولو كان الامر بيدها لجعلت الجمال من أولى صفاتها .. لكنها سرعان ما تهز كتفيها علامة اللامبالاة والاستسلام للحقيقة ، وكما يقولون : إن الواقع الذي لا يمكن تغييره يجب التكيف معاه .. فاستسلمت لقدرها ونصيبها في الحياة ، ووطنت النفس على التكيف مع متلازمة القبح التي ابتُليت بها .. !
كثر حول شقيقتها الصغرى المعجبون والعشاق وطلاب الزواج لا لشئ خارق فيها ، وانما لأنهم كانوا مأخوذين بجمالها ، فكانت تمتلك خيارات عدة ترفض هذا وتقبل بذاك ، وتتشرط للزواج كغيرها من بنات الباشوات حتى استقر رأيها أخيرا وتزوجت ممن تريد وتهوى ، أما بهيجة .. تتلفت فترى صاحباتها ، وقد اصبحن زوجات وامهات ، وهي هي على حالها .. لم تكن بالطبع تنتظر معجبون ولا عشاق ، ولكن نفسها تتوق وتهفو الى زوج تحبه ويحبها لا اكثر .. كانت تسأل نفسها مراراً وتكرارا : هل الحب هذا حكراً على الجميلات من النساء ، والوسيمين من الرجال فقط أم هو أحساس مشاع للجميع كالهواء وأشعة الشمس ، يتمتع بهما الكل .. غني وفقير جميل وقبيح ذو نسب ووضيع .. لا فرق ؟
لم يدم زواج شقيقتها طويلاً ، فسرعان ما دبت المشاكل بين الاخت الدلوعة المشاكسة وزوجها .. فالفتاة قد افسدها الدلال والمغالاة فيه .. انفصلت عن زوجها ، ونبذته نبذ النواة ، وسرعان ما طردته من ذاكرتها ومحته من قلبها كأنه لم يكن .. لم تمر إلا ايام قليلة حتى تجمع العشاق والمعجبون من جديد كما يتجمع الذباب على قطعة السكر ، وتزوجت الاخت الصغرى ثانيةً ، وبهيجة لم يظهر لها فارس الاحلام بعد .
تتزحزح الايام ومثلها الشهور والسنين .. تتجاوز بهيجة الثلاثين ، ولم يأتي النصيب ، فباتت ترزح تحت ضغط عامل الزمن ، وبعبع العنوسة ، حتى أطبق عليها اليأس أو كاد .. وفي يوم ليس كغيره من الأيام جاءتها أمها متهللة مستبشرة تزف لها الخبر الموعود بأن العريس أخيراً قد طرق الباب ، وهو الان جالس مع الباشا بانتظار الموافقة .. أرمل ليس به ما يميزه .. اربعيني قد تجاوز مرحلة الشباب بخطوة .. لا ثروة ولا مركز ، وليس من أبناء المدن أُسوةً بأزواج صديقاتها ، وشقيقتها من أصحاب اللحوم الطرية الذين يعملون في الظل .. رجل كادح يعيش ويعمل في الريف تحت الشمس اللاهبة في مزرعة ورثها عن أبيه .. لكنه رجل والسلام ..
لا تعرف ان كان قريباً لأحد الاقطاعيين شديدي الصلة بأبيها أو اشتراه أبوها كما كان يشتري لعبها ، وفساتينها عندما كانت طفلة ، وكل همه أن يدخل البهجة والسرور على قلبها ، فهو يحبها ويفضلها على بقية أبنائه ، ربما لانها مطيعة وصادقة ، وربما لانها شبهه ونسخة منه ، او ربما شفقةً واحساساً بالذنب لانها تحملت وزر شكله وملامحه المنفرة .. لا تدري ولا تريد أن تدري .. !
أكثر ما كان يخيف بهيجة هذا البون الشاسع من الفوارق بين الإثنين .. هل يمكن له أن يُردم أو على الاقل يتناقص ؟! وفي أول لقاء لهما وقفا لفترة عاجزين عن الكلام .. لكنه كان البادئ فقال بلهجة ريفية متحررة من القيود ، بأن الظاهر لا يهمه بقدر ما يهمه جوهر الانسان وباطنه .. لم يبدو ان انتمائها الطبقي ولقب أبيها وثروته كانت تعني له شيئاً ، وبعد حديث مطول استعرض فيه سعة معرفته بالزراعة وأوقاتها ومواسمها .. كشف عن طموح بلا سقف ، وكأنه كان يهئ نفسه ليكون مشروع اقطاعي صغير .. ! ثم طلب منها أن تنسى الحياة المترفة التي كانت تحياها ، وتستعد لحياة أكثر بساطة إن أرادت الارتباط به ..
جذبتها صراحته وعفويته وطموحه ورجولته الواضحة على ملامحه ، وتصرفاته .. كلها محفزات تحولت الى قوة دافعة لها لتقنعها بأنها يجب ان لا تضيع الوقت بانتظار هبة من القدر قد تأتي وقد لا تأتي أبداً .. آملةً أن يأتي الحب بعد الزواج .. !
كان الباشا حائراً قلقاً راغباً في هذه الزيجة كارهاً لها .. كان في قرارة نفسه يتمنى لو ترفض ابنته هذا الزواج .. لكنه يتوقف قليلاً كأنه يداري خاطراً يقول : ومن يضمن أن يأتي خيراً منه .. هذا إن أتى ؟ كيف له أن يرمي ابنته هذه الرمية .. ما قيمة ثرائه وأطيانه والقابه ومناصبه المتعددة ، وابنته تعيش محرومة من نعمها .. ؟! لهذا عرض عليها أن يشتري لها شقة حديثة ويؤثثها ، ويستطيع الزوج أن يأتي اليها متى شاء .. لكن الإثنين رفضا هذا العرض ، فقالت بأنها تفضل أن تعيش معه كل تفاصيل حياته ، وتشاركه الحياة بحلوها ومرها وبأمكانياتهم .. رغم ادراكها بأن الامر ليس بالهين على فتاة مثلها اعتادت حياة الرفاه والبذخ ، فلم يجد الاب مفراً من الرضوخ لارادتها مجبراً !
يتم الزواج أخيراً .. وبعد أيام من العرس تحملها السيارة ، وتحمل معها حقائبها وأحلامها الى عالم آخر لا تعرفه .. لم تعد ترى من زجاج السيارة سوى أيدٍ تلوّح ، ووجوه تتطلع تملأها الدموع .. حتى الباشا نفسه خرج في وداعهم بملامحه الجامدة ، والخادم يظلل رأسه بالمظلة من حرارة الشمس .. بعد دقائق كانت السيارة تتلمس طريقها ببطء وهدوء ، ثم اخذت تنهب الارض الى دنياها الجديدة .. كانت مرحلة فاصلة في حياتها بين عهدين متناقضين بل متنافرين .. !
عندما دخلوا القرية ، ورأت أكواخها كم هي متلاصقة بطريقة غريبة لا تدع حتى للهواء مجالاً لأن ينفذ .. ينحشر فيها أُناس اجتمع عليهم الفقر والمرض والبؤس والحرمان .. هالها المنظر وأصابها الذُعر ، وقبل ان تواصل إفراغ بقية هواجسها ومخاوفها ، قال مبتسما ، وهو يخترق اعماقها بنظراته الثاقبة ، بأنه بنى بيتاً جديداً داخل المزرعة .. ليس كقصر أهلها المنيف بالطبع ، ولكنه يختلف على أي حال عن الصرائف وبيوت الطين البائسة التي كانت القرية تزخر بها .. استقبلت كلماته بارتياح ظهرت علاماته على قسمات وجهها .. ثم بدأت الهواجس بالانسحاب واختفت نهائيا .. عرفت بعد ذلك وبمرور الوقت ، وبطريقتها الخاصة كيف تنفث في بيتها الجديد من روحها الفياضة ، وذوقها الرفيع ، فحوّلته تدريجياً الى جنة صغيرة على قياس الزوج والزوجة ، والوافد الجديد الصغير رفعت الذي اسمته على اسم والدها الباشا .. !
خصص لها زوجها يوماً أخذها فيه الى المزرعة في جولة تعريفية .. بهرها المنظر ، فأخذت تلتهم بعينيها كل ما يقع عليه بصرها من ماء رقراق ، وزرع تنوعت الوانه .. بعضه نما وتسلق ، والبعض الاخر في طور النمو .. مشهد خلّاب يسر النظر ، ويفتح النفس .. يستقبلها بالسلام والترحاب فلاحون مطحونون توحي نظراتهم بالألم والسخرية والسخط .. تصحبهم نساءهم ، وهن يتبادلن الحسرات ، وفي اذيالهن أطفال متسخين .. مهلهلي الثياب يعلوهم الهزال ، وهم يطردون الذباب المتكالب على عيونهم المصاب أغلبها بالرمد .. تبقى ملتصقةً بزوجها تلوذ به ، وتسير بجانبه ، والفرحة تزغرد في قلبها ، والسعادة الغامرة تطفح من عينيها .. !
رغم انتمائهما الى عالمين مختلفين ، إلا أن التقارب بينهما تم أسرع مما كانت تتوقع ، وانغرست بذور التفاهم في معظم تفاصيل حياتهم .. مما زادها ثقة بنفسها ، وبالارض التي تقف عليها .. أحست ان ذلك الشعور بالنقص الذي كان يلازمها قد بدء يخف ، ويتلاشى بعد ان ملأه حب زوجها ، وحبها له مما رفعها من هوة اليأس التي كانت تتردى فيها .. تحسَّن شكلها فبدت متوردة ، وأكثر ملاحةً مما كانت عليه بكثير .. ربما بسبب جو الريف النقي النظيف ، أو ربما بسبب الراحة النفسية ، والتوقف عن القلق على مصيرها مع زوج تحبه ويحبها .. !
لم تكن تعتقد ان الاقدار ابتسمت لانسان ، وكافأته مثلما ابتسمت لها بهذا الزوج الطيب .. عزيز النفس لا ينحني ولا يطأطئ الرأس ، فقد رفض أي نوع من المساعدة من الباشا .. أما هي فقد كانت مثالاً للزوجة السعيدة القانعة بنصيبها !
لكن الايام ، وآه من الايام وعبوسها .. وبشكل مفاجئ يشعر الرجل بدوار في رأسه .. تدعوه لأن يرقد ليستريح ظناً منها أن ما به ليس إلا عارضاً سيزول أو علة طارئة سببها الاجهاد في العمل ، والتعرض لاشعة الشمس في المزرعة طوال النهار .. لكن المرض يشتد ، وتلح سطوته عليه ، ويستفحل الداء وتتفاقم العلة .. يبدو وجهه شاحباً يقطر عرقاً .. يلتقط انفاسه بصعوبة .. يتفطر قلب بهيجة ، وهي تغالب دموعها .. تدور به من طبيب الى آخر دون جدوى .. لا تدري ماذا تفعل .. توشك على الانهيار .. بدى وجهها منهكاً لا تستطيع حتى الوقوف على قدميها .. تقول مترفقةً ، وهي تشد على محابس دموعها :
— هل تريد أن نذهب الى البيت الكبير .. ؟ يهز رأسه رافضاً ..
وتندفع الأحداث في مجرياتها ، فتلجأ إلى الصلاة والادعية والنذور .. تشهق في بكاء حقيقي ، وتدعو الله ملاذها الاخير ، أن يحفظ لها زوجها ، فهو كل حياتها ، والهبة الوحيدة التي منحتها لها الحياة .. لكنها شاءت غير ما شاءت لها الاقدار ، وفي الهزيع الأخير من تلك الليلة غافله الموت .. تراخت أعضائه ، وهدأت ملامحه .. ثم فاضت روحه بسلام .. تاركاً خلفه قلباً محباً يتلوى حرقةً والماً عليه ، وكأن القدر قد استكثره عليها ، واستكثر السعادة التي كان يفيض بها عليها .. شهدت تلك السنين القليلة التي عاشتها معه أهنأ أيام حياتها وأسعدها .. !
عادت الى بيت أهلها ، وقد تغير مسار دنياها ، ومعها ولدها رفعت ذو الخمس سنوات .. الذكرى العطرة من ذلك الرجل الذي أحبت .. حزينة مهيضة الجناح ، والدموع تنهمر من عينيها انهاراً دون توقف .. تتسربل بالسواد ، وتنزوي في حجرتها القديمة مع ولدها تتجرع مرارة الوحدة ، ولوعة الافتقاد .. تُقرر أن تكرس ما تبقى لها من عمر لأبنها ، ولخدمة اشقائها ، وإدارت أملاك والدها الذي توفي قبل سنوات ، ولحقته الام بعامين .. مرت السنوات سريعا ، واليوم بهيجة قد شارفت على الخمسين .. يلتف حولها الجيل الثاني من الأولاد والبنات .. يطلقون عليها لقب ال ( بيبي ) .. وهي فخورة به وسعيدة أيما سعادة .. بقيت ترعى العائلة ، وتدير املاكها حتى سقوط العهد الملكي ، وانتهاء حقبة الباشوات والاقطاعيين الى الابد .. !!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با


.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية




.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-


.. المغربية نسرين الراضي:مهرجان مالمو إضافة للسينما العربية وفخ




.. بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ