الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غداء رومانسي … ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2021 / 9 / 14
الادب والفن


تُدمدم الزوجة مع نفسها مستاءةً :
— لم يحدث أن قال لي يوماً : كيف كان نهارِك .. ؟ يعانقني ، ويضمني بحنان ، ويقول لي احبك مع كلمة كلمتين غزل ، وقُبلة على الجبين .. ابداً .. اول ما يدخل يبادرني بدون تحية ولا حتى سلام :
شنو غدانا .. جوعان راح اموت من الجوع .. كأنه متسول لم يذق طعم الاكل منذ ايام ..
تسمع صوت المفتاح ، وهو يعالج الباب .. تقول ساخرة : جبنا سيرة القط ! يدخل الزوج مسرعاً ، والعرق يتفصد منه بغزارة ، وازرار قميصه تئن تحت وطأة كرشه المنتفخ .. وسيم الشكل .. وديع القسمات .. قصير القامة ، والسمنة المفرطة تزيده قصراً ، وفعلاً يكرر ما قالته تواً زوجته بالحرف :
— شنو غدانا .. ؟ جوعان .. راح اموت من الجوع .. !
— قل مساء الخير .. السلام عليكم .. ما تفكر الا بالاكل .. گلي هذا مطعم لو بيت له قواعده واصوله .. ؟!
كأنه لا يسمع أو يبالي بما تقول .. !
يهرع الى غرفة النوم مباشرةً .. يغير ملابسه بسرعة ثم يخطو نحو الحمام ليبرِّد جسده الضخم المترهل الذي يتصبب عرقاً رغم أجهزة التبريد الشغالة ، وهو يهتف من وراء الباب :
— اسرعي .. انا قادم ، انتهيت .. لا تنسين الزلاطة والرگي .. ها ( كأنه تذكر شيئاً ) واللبن .. اريده بارد !
يجلس أمامها على المائدة ، وهو يتثائب مللاً .. بانتظار الغداء بنفاذ صبر .. تهبط امامه الاطباق الواحد بعد الآخر ، والبخار يتصاعد منها ، وهو يتابعها بنظراته المتحفزة .. تخترق انفه الروائح الطيبة المنبعثة من مجموع الاصناف فيقول :
— الله .. اشگد الريحة طيبة !
يقلِّب نظره في اصناف الطعام ، وكأنه يحصيها خشية ان تكون زوجته قد نسيت شيئاً .. يرتبها حسب الأولوية .. ثم يبدء الغوص فيها دون مراعاة لسخونتها .. لا تسمع سوى همهمته ، وتلاحق انفاسه اللاهثة ، وهو يمضغ الطعام ، ويديه الاثنتين تتنقلان بين الاطباق ، وكأنهما قد ازدادا عدداً ، واصبحتا كأيدي الأخطبوط .. !
— على مهلك لا تختنق .. الاكل ما راح يطير .. !
يهمهم ويمطق ، ولا يبالي بملاحظتها .. كأنها تكلم الهواء !
— لذيذ .. الأكل لذيذ .. عاشت الأيادي .. !
تعود نبرة السخرية الى صوتها من جديد ، وهي تجيب :
— الف عافية على كرشك ، حبيبي .. !
اما هي فكانت تأكل على مهلها ، وقد وضعت طبقاً صغيراً أمامها من صنف واحد أو اثنين من الطعام الصحي الخفيف ، وأكثره خضار يتوافق مع الريجيم الذي تتبعه منذ اشهر حتى بدت نحيفة رشيقة .. أجمل مما كانت بكثير ، وأصغر من عمرها على الاقل بخمس سنوات .. يسألها مستغرباً :
— هل هذا يُشبعكِ .. ؟!
— جداً .. اشعر اني في خفة البالون ، ورشاقة الفراشة .. ثم تُكمل : املأ كرشك هذا اللي عمره ما امتلأ ..
تحاول أن تسأله شيئاً .. لكنه كان منشغلاً بافتراس دجاجة محمصة القت بها المقادير تحت مخالبه .. يهشمها ويقطعها الى اوصال ثم ينهمك في التهامها وطحنها بتلذذ .. بشحمها ، ولحمها وحتى عظامها ، ولا يترك منها شيئاً .. تستقر كلها مهروسة في احشائه التي لا قرار لها .. !
— خير .. ؟ كأنه ادرك أن شيئاً ما وراءها ..
— كرشك .. ؟!
يأخذ نفساً عميقاً كأنه كان غاطساً تحت الماء ..
— ( متفاجئ ) .. كرشي ؟! ماله كرشي .. يعود الى همهمته .. همهمهم
— لا ينفجر .. !
— لا تخافين ما ينفجر .. لا يزال به متسع لغداء آخر ، وربما لأثنين .. اطمئني .. !
تتمتم مستنكرة ، وهي لا تزال على تحفزها :
— اعوذ بالله منك اشگد اتحب الأكل .. !
— مو شغلچ .. ناقصچ شي .. ؟
— طبعاً .. ناقصني اشياء واشياء .. ناقصني الحب .. الاهتمام .. الرومانسية !
— هذا ليس وقت الرومانسية .. أجليها الى المساء بعد تناول بضعة كؤوس .. وقتها نتكلم بالرومانسية حتى تجزعي !
يعود الى مصمصة عظمة .. كانت قد فلتت بالصدفة ، وفرت ناجيةً بنفسها من مخالبه عندما كان يشرِّح صدر الدجاجة قبل لحظات .. رغم ذلك لم تنجو في مسعاها .. يلتهمها بسرعة لتلتحق ببقية اجزاء الدجاجة الأخرى .. !
— شنو هذا البخل .. خلي شوية للكلاب والقطط .. زبالتنا من دون الناس خالية من العظام أو من أي شيء يؤكل .. !
يركن ظهره الى الوراء .. يأخذ نفساً عميقاً ، وهو يملأ رئتيه بالهواء ، ويطلقه دفعة واحدة بارتياح .. كمن انتهى لتوه من مهمة شاقة .. يتجشأ ويقول الحمد للة .. يضرب على صدره ، ويتحسس كرشه الذي انتفخ ، واصبح مدوراً ، ثم ينهمك في تسليك أسنانه .. تستدير نحوه وتحدق فيه مباشرةً ، وهي تقول :
— قل لي .. لو عزمونا ناس .. هل ستأكل بهذه الوحشية .. ؟
— وما المانع .. لا حياء في الجوع .. !
— يقولون لا حياء في الدين ، وليس في الجوع ، ايها الفقيه الدجال !
— لا يهم كله واحد .. كلاهما يجب اسكاته .. ! ثم يُكمل :
— تذكري .. لا يعيب الرجل إلا جيبه .. !
تنظر اليه نظرة هجومية ، وتكمل عبارته ..
— وبدانته .. وكرشه .. وعجزه .. !
— آخ منچ .. ! يبسط كلتا يديه كأنه يريد خنقها ..
يسحب جسده الثقيل ذو المائة والعشرون كيلو غرام أو يزيد من الكرسي الذي انحشر فيه حشراً .. ينهض منصرفاً ، وهو يلهث ويتمايل كبطة سمينة ..
تواصل الزوجة البحلقة ، وهي تطلق زفرة حارة ، وعلامات الاستنكار واضحةً على محياها .. تنتظره حتى يتوارى خلف الباب .. ثم تعود الى مناجاة نفسها ثانيةً ، والحنق يكاد يخنقها :
— الى متى يبقى هذا الرجل يحمل هذه الكمية الهائلة من اللحوم والشحوم عديمة الفائدة .. حتى توقف جسده عن انتاج هرمون الذكورة الذي يحتاجه وقت العلاقة الحميمة .. كي يُغنيها عن مداعبات لا طائل وراءها .. باتت تتعبها وتستنفذ طاقتها .. سينام بعد قليل بجانبها ، وان اراد التقرب اليها ، فسيكون عسيراً عليها أن تحرك فيه شيئاً مهما حاولت ، ومهما قدمت من اغرائات .. يهتز فوقها يكاد يهرسها نعم .. لكن دون أي فعل ايجابي .. حتى اصبح كذكر النحل لا رجاء منه .. انها بلا شك تعاني كثيراً من ضعفه الجنسي ، ولا تدري متى سيشرّف الاطفال اذا كان هذا الخرتيت الأكول أبوهم ؟!
تعرف أن زوجها انسان ذو نفس طيبة وقلب جميل ، لم تسمعه يوماً يذم احداً او يكره احداً ، وهو ما يشفع له عندها ، ويدفعها الى انقاذه من هذا الوباء اللعين .. لذلك حاولت ، وكم حاولت ان تزرع فيه ثقافة النحافة والرشاقة التي تعج بها وسائل التواصل هذه الأيام حتى تحولت الى ثقافة عامة يتبناها معظم الناس .. انها تحبه رغم عيوبه ، وتحرص على صحته .. ليس نقصاً أو ضعفاً ان تحب المرأة زوجها وتخاف عليه .. لكنه يغيضها بعناده ومكابرته وتهربه منها ومن الحاحها ، ويتحمل شتى مشاكساتها اللاذعة ، ولا يتنازل ويلتحق مثلاً بأحد مراكز الجم .. يمارس الرياضة مع شئ من الحمية عله يفقد بعضاً من فائض الشحوم المكتنزة في انحاء جسده المشوه .. !
يعود قبل أن يأخذ قيلولته ، وكأنه مصر على مشاكستها .. يسألها بطريقة استفزازية ، وهو يبتسم في مكر وخبث :
شنو حضرتينا للعشاء ، كتكوتي ؟
لم تستطع أن تتمالك نفسها ، كأنما ركبها الف عفريت ، فتمسك بقشر رقي امامها وتحذفه به .. يتحاشاه ثم يهرول بروح مرحة الى غرفة النوم ، وهو لا يملك نفسه من الضحك ، فيطلقها ضحكة مثقلةً بالسعال ، ومليئةً بالمرح الطفولي .. !
لقد اعتاد على مشاكساتها الخفيفة الدم التي قد تبدو للبعض عبث اطفال ، أو حركات مراهقين لكنها كما يعتقد ، وتشاركه زوجته نفس الاعتقاد .. تفاصيل ضرورية .. كالملح والتوابل في الطعام .. تضيف جواً من المرح والسعادة على البيت ، وهو على أي حال يفضلها على أجواء الحزن والنكد والجدية المتكلفة التي تمتص من السعادة رحيقها .. عوّد نفسه أن يترك وقاره خارج البيت عندما يعود .. انه بالتأكيد يحب زوجته .. فهي سيدة امينة مخلصة وربة بيت ممتازه ، وفوق هذا وذاك طباخة ماهرة ، ولكن شهوته للطعام لا تقاوم .. مع هذا فقد اتفق مع مختص بالتغذية ، وآخر بالرياضة ليبدء برنامج تخسيس من الاسبوع القادم ، وسيعلنها مفاجأة سارة لها بمجرد ما يستيقظ من قيلولته هذا المساء .. هكذا كان يفكر ، ويتحدث مع نفسه هو الآخر .. ! يبدو انها باصرارها والحاحها قد هدهدت من عناده ، فانصاع لارادتها .. !
يستيقظ من قيلولته .. يحمل جسده الثقيل المنتفخ ، ويتوجه الى المطبخ .. تتقدمه نحنحة خفيفة ، فيجدها مشغولة في اعداد العشاء .. يحتضنها من ظهرها ، ويلثم مؤخرة رقبتها النحيلة ثم يعلن مفاجأته السارة .. لم تصدق !
— ما اصدق .. !
— ومتى عرفتيني كذاباً .. ؟ .. ثم
— هل هناك ثمة أمل حبيبتي بأن أنجح في الخلاص من هذه القناطير الزائدة من لحم وشحم ، أم احتاج الى معجزة من نوع ما .. ؟
تصمت لحظة تستجمع فيها شوارد أفكارها ، ثم ترد بحزم وثقة :
— لا يوجد مستحيل هذه الأيام ، حبيبي .. ! لا معجزة ولا بطيخ .. كثير من الارادة ، وقليل من الصبر .. وأياً كان الامر يجب ان تُبقي جذوة الامل مشتعلة دائماً .. !
تتقافز كطفلة من شدة الفرح ، وتعانقه عناقاً حميماً وهي تقول : هذا هو حبيبي الذي كنت اعرف ، وفي لحظة صفاء نادرة ، واحتفاءً بالخبر .. يغرقان في قبلة نارية طويلة .. !!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81