الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


200 جنيه … تتلصَّصُ على المجتمع!

فاطمة ناعوت

2021 / 9 / 15
الادب والفن




كأنكَ تتلصَّصُ على بيوت بعض أُسر المجتمع وأسرارِها، عبر عيني ورقة مالية من فئة الـ 200 جنيه، تلك التي راحت تسافرُ من يدٍ فقيرة، إلى يد عابثة لصّة، إلى يدٍ كادحة، إلى يدٍ فنانة، إلى يدٍ مقهورة، إلى يدٍ ثرية، إلى يدٍ مستغلِّة، إلى يدٍ كريمة، إلى يدٍ لاهية، إلى يدٍ مُعوزة، إلى يدٍ حاسدة، إلى يدٍ طامعة، إلى يدٍ عاجزة، إلى يدٍ شريفة، إلى يدٍ أرملَ، إلى يدٍ مريضة، إلى يدٍ خائنة، حتى تعود بلعنتِها إلى اليدِ العابثة التي سرقتها، ثمّ تُتِّمَ تعويذتَها وتسقط من جديد في يد صاحبتها الأولى: الأمّ الفقيرة التي صارت ثكلى؛ بعدما أطلقت لعنتَها القاتلة على صاحب اليد اللصّة؛ وهي لا تدري أنه ابنُها الأوحد. فيتصدَّعُ قلبُها المفجوعُ وتتساقط أشلاؤه مع تهاوي الورقة المالية الملعونة المختومة باسمها على أسفلت الطريق.
فلاشاتٌ وامضةٌ من مَشاهدَ خاطفةٍ غيرِ مشبَّعة، لا تحكي إلا ما يكفي أن نعرفَه عن أحوال نماذجَ من الناس، لكي نتعرَّفَ عليهم ونكون شهودًا على مآسيهم وأحلامهم. أبطالُ تلك المشاهد نجومٌ كبارٌ على الشاشة، بسطاءُ مهمَّشون مهشَّمون على أرض الواقع ذي الأطياف المتعددة. لكن اكتمالَ تلك المشاهد المبتسرة، في نُقصانها وعدم تشبّعها. ففي النقصِ اكتمالٌ. لأن عقل المُشاهد سوف يُكملُ ما نَقُصَ من خبراتِه الخاصة.
فيلم "200 جنيه" تأليف "أحمد عبد الله"، وإخراج "محمد أمين” وبطولة عدد هائل من نجوم الصفِّ الأول، يمثِّل كلٌّ منهم بطلَ حكاية قصيرة موجعة بالاشتراك مع البطلة الرئيسية التي تمثِّلُ القاسمَ المشترك في جميع الحكايا: "ورقة ال 200 جنيه"، التي كانت بمثابة "ظرف زمان" يتجوَّلُ بين ربوع الأمكنة في البيوت والشوارع والأزقّة والحواري والمؤسسات الحكومية وجيوب الأثرياء وأسمال الفقراء، حتى ترتسم لنا تابلوهاتٌ ناقصةٌ من حيوات بشر كثيرين تنقلت الورقة بين أياديهم لتقصَّ علينا ما تيسَّرَ من أوجاعهم وأحلامهم المُجهضة على نحو مقتضب وغير كامل، على أن نُكمِل نحن المشاهدين ما نقُصَ عمدًا في فلسفةٍ فنية مبتكرة وناجزة.
الخُطّةُ الإخراجية التي وضعها "محمد أمين" تقومُ على تعشيق فلاشات موزاييك بشرية حيّة من مَشاهدَ إنسانية في أوج لحظات ضعفها وانكسارِها؛ أبطالُها بشرٌ من البسطاء والأثرياء لا يعرفون بعضهم البعض، ولا تتقاطعُ حيواتُهم إلا من خلال ورقة مالية صغيرة، تعرفُهم ولا يعرفونها. ورقةٌ مالية صارت باليةً من فرط ما تناقلتها الأيادي ورشقتها العيون، فقررت هي أن ترشقَ عينَها الفاحصةَ داخلَ بيوتهم وأرواحهم لكي تتلصّص على أسرارهم وتحكيها لنا، بينما هم لا يرون فيها إلا عددَ مائتين من الجنيهات، وما بوسع قوتها الشرائية أن تسدَّ لهم من حاجة.
النجمة المثقفة والإعلامية الاستثنائية "إسعاد يونس" تفتتحُ لنا الفيلم كسيدة أُميّة فقيرة تبيتُ ليلتَها في الشارع حتى تفتحَ مؤسسةُ المعاشات شبابيكَها، فتضمنُ أن كيسَ نقودِها الظامئَ سوف "يبلّ ريقه" بحفنة من النقود بالكاد تكفي الخبزَ الذي يسدُّ الرمق، وبعض قطع حلوى لأطفال الحارة المحرومين. لكن القدر لن يكتفي بفقرها وعوزها، فقرر أن يضيف إليهما وجعَ الثكل فتفقد ابنَها الوحيد بعدما دعت عليه بالموت، وهي لا تدري أنه محطُّ دعوتها. تفتحُ لنا "إسعاد يونس" قوسَ الفيلم كامرأة فقيرة مبتهجة بالأمل، وتغلقُ لنا القوسَ الآخر كأمٍّ مفجوعة صارت قاتلةً لابنها العابث. وبين القوسين حكايا كثيرة قدّمها لنا نجومٌ كبار بوسع كلّ منهم أن يحملَ عملا مستقلا، لكنهم آثروا أن يقدّموا لنا سماءً مرصّعةً بالنجوم في هذا العمل الجميل. “ليلى علوي" الزوجة الجميلة المخلصة التي ترعى زوجها في مرضه، حتى تدفنه وتدفن معه حياتَها. “أحمد السقا" السائقُ الشهم الذي يجودُ بما لديه لكي يمسحَ دموعَ سيدة مفجوعة. “أحمد آدم" الطامعُ الذي لا يشبعُ من استغلال المعوزين. “غادة عادل" الراقصةُ التي تكره عرض جسدها للناهشين وتحلمُ بما يُنجيها من عوزها. “خالد الصاوي" الثريُّ الذي يحسد الخادمة الفقيرة على راحة البال وقلّة المَطالب، والخادمةُ التي تردُّ له الحسدَ حسدًا. “هاني رمزي" العاملُ الفقير الذي يقهره احتياجُ طفلته لارتداء فستان جديد في حفل المدرسة. “صابرين" الفنانة التي ترصدُ تحوّل سيدةٍ من تحت الأضواء إلى بائعة متجولة يقهرها المتنمرون. “أحمد السعدني" الذي يفتتح الفيلم كشابٍّ عابث يسرقُ أمَّه، وينتهي به الحال ممزقًّا على أسفلت الطريق بسبب لعنة السرقة الأولى. وغيرهم العديدُ من النجوم الذين غزلوا لنا نولَ خيوط هذا الفيلم الجميل، الذي يقدّم لنا بانوراما الطبقية والوجع في كل مجتمع.
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع