الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رحلة حزن وعذاب بحثاً عن الحرية// معايشة حقيقية شخصية لتداعيات الانتفاضة الشعبانية عام 1991// الحلقة الاولى

محمد رياض اسماعيل
باحث

(Mohammed Reyadh Ismail Sabir)

2021 / 9 / 15
القضية الكردية


اروي قصتي التي وثقتها يوما بيوم، كشخص واحد بين مليونين من سكان كوردستان التي اضطرت الى ترك كل مالديها، واللجوء الى الجبال والمصير المجهول ابان الانتفاضة الشعبانية عام 1991، ضد الحكم الدكتاتوري البغيض، الذي أدخل البلاد في حروب عبثية تركت العراق وكوردستان رماداً. ولن يوفى هذه المآسي حقها في الوصف، مالم يسردها مليونين من اللاجئين على جبال كوردستان. فلكل منا قصة تراجيدية تاريخية تستحق التوثيق... للأجيال اسرد حكايتي.
بتاريخ 26/3/1991 القصف لا ينقطع على كركوك، كنت أعد واحد، اثنان، ثلاثة لتسقط مجموعة من القذائف والقنابل وتشق أصواتها بعنف الصمت القاتل في منطقتنا النفطية، وتتخللها أصوات عيارات رشاشات الكلاشنكوف بكثافة، ما الذي يحصل؟ ماذا يحمل لنا طير البرق، بدأت الأسئلة تزحف كالسلاحف الى ميناء الفكر، هل يعقل ان نترك ارض المعركة! ارض كركوك! جفت الدموع في المآقي وبدأ الاضطراب والتوتر والنقاش، ماذا سنفعل؟ ولكنني أردت ان اصم آذاني عن سماع الشائعات المتناقضة! سيما لم يكد وان تنفسنا الحرية الا لعشرة ايام فقط، هل سنعود كي نُخنّق! وأدركت بان عصر الدموع في العراق سوف لن ينتهي وسيقسط النظام الحاكم الأوكسجين علينا مرة اخرى، نعم رحل البيشمركة عن كركوك وعدنا يتامى نفترش الارض بين حذاء السلطة وأرصفة الوطن. سنعود مرة اخرى اذلاء، لنسمع ولا نرد رغم انفنا، نكذب ونتظاهر من جديد ونمدح القائد المفدى ونقدّم له قرابين الولاء ونعود للبوليس الحزبي السري وعصي الأمن والاستخبارات واجهزة التنصت والاخباريات، نعود لندفع ضريبة الكلام الحر، وجزية الهوية، نعود لنخنق الكلمة في جوف البلعوم.. ومن جهة اخرى كنا نخشى ان نهرس تحت قنابل المدافع والراجمات والصواريخ، ونتمنى ان نحظى بموت آمن، موت بسلام.
كانت القنابل تسقط كل ثلاث ثوان ونستشهد ياالله انتهينا، نسينا أنفسنا ومعدتنا الخاوية منذ يومين، والملجأ ملئ بالماء الى ربعه. كان الموجودون معنا مصابون جميعاً بالإسهال الناشئ من برودة الجو، وقد جلبنا البطانيات من بيوتنا القريبة من الملجأ، ولبست حذاء السلامة الصناعية وجلسنا على مصاطب داخل الملجأ، وما ان اقتربت الساعة من التاسعة مساءاً حتى أمطرت علينا الصواريخ بمعدل قذيفة في كل ثانية. كانت شقيقتي (ر) تقرأ القران بصوت مرتجف، وزوجة أحد أصدقائي (س) في الملجأ تقرأ بردة الحسين، وترتفع اصواتهم كلما وقعت قذيفة قريبة لمنطقتنا، كنا نرجف خوفا، وكان ينتابني احساس بان جنائزنا محملة على الاكتاف تسير بنا وسط لعلعات الرصاص والنَّاس تقرا علينا القران، وتوقف كل أحاسيسي بالحاضر ولما اعلم لمن يعود جسدي، وأخر ما اتذكر هو ان زمني انتهى وضاع، وكاد قلبي ان ينتزع حزناً والماً واسىً على انسحاب البيشمركه من المنطقة. ومع سقوط كل قذيفة تتعالى الأصوات داخل الملجأ (يا الله)، وكنت أتمنى الهرب بعيداً لمكان لا يعيش عليها بشر او حيوان ولا اسمع فيه صوتاً فلقد كرهت حتى صوت الطيور وخرير المياه، كانت أذناي تترقب الصمت بلهفة، كان يوما طويلاً كعمر الأموات، أطول يوم في حياتي.. ارى الرعب والخوف يتجدد في فصول حياتنا مرة بعد الاخرى … ترى هل سننجو هذه المرة!
ما ان بزغ شمس النهار حتى جمعت قواي والقصف مستمر وأصبحت لا أبالي بالموت لكثرة ما عايشته ليلاً، وذهبت عند مولدة كهرباء الديزل المغذي لمنطقتنا النفطية، التي تبعد عشرة كيلومترات عن مركز مدينة كركوك، والتي كنت أشرف عليها، وأفرغت برميلين من زيت الغاز في خزانها تكفي ليومين او ثلاث وتجمع الجيران حولي والأطفال كانوا يرتعشون خوفاً، والكل تريد البقاء متشبثاً بالحياة، ويرجونني بإدامة تجهيز الكهرباء لهم، وكنت متألما جداً للأطفال حين كنت امعن النظر في اعينهم المرهبة وابدانهم المرتعشة من الخوف يرددون(عمو الله يخليك الملجأ ما بيه كهرباء!)، ولو طُلِب مني حمل جبل لما ترددت من المحاولة لإسعاد هؤلاء الأبرياء. جل ما كنت اتمناه هو تسلية الأطفال وابعاد شبح الموت عنهم، ليت بمقدوري ان امنحهم حياتاً!!
ما ان عدت الى البيت حتى عاد القصف الى الهدوء بمعدل قذيفة كل ثلاث ثوان. اصرت والدتي بترك المنطقة والتوجه الى السليمانية، وعاتبتني كثيراً لأنني لا أودّ ترك البيت بسبب الاثاث والمقتنيات وذكرياتي التي لم أكن أتمنى ان انسلخ عنها كانسلاخ الفروة عن الشاة بعد ذبحه. وبعد جدال واصرار الأهل جميعاً على الرحيل، خرجت لأرى جاري (ب)، وقلت له بأنني سأترك المنطقة بسبب اصرار الأهل، وان وقود المولدة تكفي لثلاثة ايام (الى يوم الجمعة) ويجب الاقتصاد بصرفيات الطاقة، ووجدت الجيران منقسمين الى من يريد الرحيل وأغلبهم من أهالي كركوك الاصلاء، واخرين قرروا البقاء وغالبيتهم من المحافظات العراقية الاخرى. وتوجهت لوالدتي وتوسلت بها للبقاء لحين اتمامي واجب تصليح المحطة الكهربائية الغازية الرئيسيّة للمنطقة النفطية غداً، الا انها غضبت واعدت حقيبتها وخرجت مشياً الى كركوك بشكل هستيري وقالت لي (نفسي أعز مما املك، وماذا يجبرنا على البقاء بعد ان غادرت البيشمركة المنطقة، ماذا بقي لنا هنا؟؟)، فاضطررت على أثرها بتهيئة سيارتي الخاصة وحملنا بها من اللوازم المعيشية وبعض الفرش مع تلفزيون صغير وجهاز فيديو كاسيت طلبها ابني بإصرار .... وصعدنا السيارة جميعا (ثمانية أشخاص)، الى مصير مجهول والاهل يصرون للتوجه الى السليمانية، ذهبنا في الظهيرة الى كركوك حيث دار الأهل ووجدنا الشبابيك متهشمه بفعل القصف والابواب مخلعة. جلبنا بعض الملابس وحاولنا اقفال الأبواب وتغطية الشبابيك بالبطانيات، ثم توجهنا الى السليمانية وسط صعود الدخان من هنا ومن هناك واستمرار القصف بالمروحيات، وكنت أقود السيارة في شوارع خاوية وسط تعالي صوت الدعاء وصيحات الله الله من الأهل مع كل دوي انفجار، وكنا نرتعش خوفاً ونحن نرى الجثث في الشوارع، واناس يحاولون رفعها على جرارات وعربات مختلفة ، ابتعدنا ووصلنا خارج حدود كركوك وخفت دوي الراجمات والدخان وحين وصلنا لسيطرة الپيشمرگة سألونا عن وجهتنا ولم يمانعوا من مغادرتنا ولم يفتشوننا ،كانت لغتنا الكوردية هويتنا، وهي امر عدم التعرض الذي يثق بها الپيشمرگة. كان مستوى الوقود قليلاً في السيارة وكنت أتمنى ان لا تنفذ في الطريق الى السليمانية، حيث كنّا ثمانية أشخاص وكنت أعاني من مشكلة فنية في سيارتي، وكانت بحاجة الى غيار …








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف يعيش اللاجئون السودانيون في تونس؟


.. اعتقالات في حرم جامعة كولومبيا خلال احتجاج طلابي مؤيد للفلسط




.. ردود فعل غاضبة للفلسطينيين تجاه الفيتو الأمريكي ضد العضوية ا


.. مخاوف إسرائيلية من مغبة صدور أوامر اعتقال من محكمة العدل الد




.. أهالي الأسرى الإسرائيليين لدى -حماس- يغلقون طريقاً سريعاً في