الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فيلم - السيد جونز - يكشف معاناة الصحفي من أجل تقديم الحقيقة الكاملة

علي المسعود
(Ali Al- Masoud)

2021 / 9 / 16
الادب والفن


رغم ما تواجهه الصحافة من هجمات واتهامات بالكذب والتضليل إلا أنها تبقى ركيزة أساسية للديمقراطية وسيبقى الصحافيون هدفا للسياسيين طالما أنهم يسعون وراء الحقيقة التي يحاول السياسيون جاهدين إخفاءها منذ عهد ستالين حتى عصر بوتين وبايدن اليوم . ولم تكن يوما مسيرة الصحافي مفروشة بالورود ولا بالسجادة الحمراء خلال عمله على أكثر التقارير أهمية في تاريخ الشعوب ، وإذا كان الصحافيون قد قدموا خدمات إعلامية لعبت دورا مفصليا في كشف الحقائق وفضح أعتى طغاة السياسة والحكم إلا أن التهم بالكذب والتزوير لاحقتهم وستظل كذلك طالما أن عملهم ذو تأثير . وفي أزمنة الحروب وتحت سطوة الدكتاتوريات يلمع نجم الصحافة ، وهي الرقعة التي يلعب فيها أبناء المهنة الحقيقيين ، ومن خلال المجازر والحقائق والإنتهاكات التي يسعون لاكتشافها. في أوكرانيا السوفياتية التي كانت تحت سطوة الحزب الواحد وفي زمن حكم جوزيف ستالين . هنا يحلّ السيد "غاريث جونز" الرجل بطلٌ في مهنته ، ويقالُ إنّ الروائي الإنجليزي جورج أورويل استوحى روايته "مزرعة الحيوان" من أحد أعمال هذا الصحفي، وهي قصة خيالية عن حيوانات تثور على مالك مزرعتها الجشِع والظالم (سمّاه "السيد جونز" في الرواية تيمّنا به) ثمّ تفشل ثورتها، في استعارةٍ فهمها الجميع عن الثورة الروسية ومآلاتها مع حكم ستالين . وفي خمسينيات القرن الماضي إستخدمت وكالة المخابرات المركزية “مزرعة الحيوانات” كأداة للدعاية المعادية للسوفيات ووزعت أعدادًا ضخمة من النسخ . وبطبيعة الحال، حُظرت الرواية في الاتحاد السوفيتي ، وما تزال محظورة حتى اليوم في العديد من الدول القمعية . الفيلم (السيد جونز) من إخراج البولنديّة " أجينزكا هولاند " وسيناريو الأوكرانيّة " أندريا تشالوبا" ، يقدّم الممثل البريطاني "جيمس نورتون " مرتدياً نظارته ومترنماً كل الوقت بأغنية من التراث الويلزي القديم ـــ واحداً من أهم أدواره ومجسّداً شخصيّة "غاريث جونز " الذي اخترق الستار الحديدي ونقل للعالم (الحقيقة) بشأن المجاعة الفظيعة التي حدثت في أوكرانيا والتي راح ضحيتها الملايين . صاحب النظرة الفضولية والذي يبلغ من العمر 28 عاما. من هنا انطلقت المخرجة البولندية المخضرمة " أجينزكا هولاند "-( ولدت في 28 نوفمبر 1948) وهي مخرجة سينمائية وتلفزيونية وكاتبة سيناريو ، اشتهرت بإسهاماتها السياسية في السينما البولندية. بدأت حياتها المهنية كمساعدة للمخرجين كرزيستوف زانوسي وأندريه وايدا ، وهاجرت إلى فرنسا قبل فترة وجيزة من فرض الأحكام العرفية عام 1981 في بولندا ، وشهدت هولاند ربيع براغ عام 1968 أثناء وجودها في تشيكوسلوفاكيا ، واعتقلت لدعمها الحركة المنشقة للإصلاحات الحكومية والتحرير السياسي . في فيلمها "السيد جونز " تكشف لنا جانب من السيرة الذاتية للصحفي البريطاني "غاريث جونز" الذي ذاع صيته بعد المقابلة التي أجراها مع هتلر، رغم عمره الفتيّ في المهنة، عندما وجد نفسه مصادفة مع الزعيم النازي في الطائرة نفسها فإننا نتعرّف إليه في أوج انطلاقته وفي فترة وجيزة، وبات أوّل صحفي أجنبي يقابل أدولف هتلر، الذي كان يومها زعيم حزب ألماني ذي طموحات توسعية كبيرة. أصبح جونز من أوائل الصحفيين الأجانب الذين سافروا مع هتلر حيث رافق هتلر وجوزيف جوبلز إلى فرانكفورت وعلى متن ريتشثوفن "أسرع وأقوى طائرة بثلاث محركات في ألمانيا"، نراقبه قلقاً وهو يعي ما يخبئه المستقبل من دمار وخراب وسياسات هتلر ستؤدي إلى حرب عالمية". وللتعرف على سيرة حياة ( السيد جونز ) الذي قدمته لنا المخرجة البولندية الخلاقة هولاند، هو "غاريث ريتشارد فوغان جونز " ولد في باري ، جلامورجان ، كان والده الرائد إدغار جونز عملت والدته "آني جوين جونز " في روسيا كمدرسة أطفال ، تخرج جونز من كلية ويلز الجامعية عام 1926 بدرجة الشرف من الدرجة الأولى في اللغة الفرنسية . كما درس في جامعة ستراسبورغ وفي كلية ترينيتي في كامبريدج وتخرج منها في عام 1929 . في كامبريدج كان ناشطًا في اتحاد عصبة الأمم بجامعة كامبريدج حيث عمل كسكرتير مساعد لها . وبعد التخرج قام جونز بتدريس اللغات لفترة وجيزة في كامبريدج ، في عام 1929 ، أصبح جونز مراسلًا محترفًا يعمل بالقطعة ، في يناير 1930 ، تم تعيينه كمستشار للشؤون الخارجية لعضو البرلمان البريطاني ورئيس الوزراء السابق" ديفيد لويد جورج " ، فضح جونز دون الكشف عن هويته في صحيفة التايمز في عام 1932 المجاعة في أوكرانيا السوفيتية وجنوب روسيا ، وبعد زيارته الثالثة إلى الاتحاد السوفيتي ، أصدر بيانًا صحفيًا في برلين في 29 مارس 1933 يصف انتشار المجاعة على نطاق واسع . وكانت تقارير "مالكولم موغيريدج " وهو الاسم الذي أختاره جونز للأختباء خلفه في نشر التقارير التي كتبها عام 1933 كمراسل مجهول والتي ظهرت بشكل متزامن في صحيفة"مانشستر جارديان" . وكذالك نشر الشاب العشريني نصوصا في صحيفتي "الغارديان" و"الواشنطن بوست"، سافر الى برلين ونشر مذكراته عن المجاعة وفيه وصف حالة الناس في أوكرانيا ويكشف فيها أهوال ما شاهده وعن رحلته المليئة بالتفاصيل ، يقول في كتابه " مشيت عبر القرى و واثنتي عشرة مزرعة جماعية، كان هناك بكاء "لا يوجد خبز، نحن نموت".. صرخة من كل جزء من روسيا ، ذهبت إلى منطقة الأرض السوداء لأنها ذات يوم كانت أغنى أرض زراعية في روسيا، والآن منع المراسلون من الذهاب ليروا بأنفسهم ما يحدث ، في القطار، قال لي دليلي الشيوعي إنه ليست هناك من مجاعة.. رميتُ قطعة خبز صغيرة كنت آكلها فاصطادها أحدهم وأكلها بشراهة ـ رميت قشرة برتقال في حاوية الازبال وأخذها الفلاح مرة أخرى وأكلها. حذروني من السفر ليلاً لأن هناك الكثير من الرجال الجائعين البائسين.. كان الفلاحون يأكلون علف الماشية "نحن ننتظر الموت" كانوا يرحبون بي بهذه الجملة وفعلاً الناس ماتوا ". تعرض" جونز" الى التنديد بعد نشر تلك المذكرات من قبل العديد من الصحفيين والكتاب الأمريكيين المقيمين في موسكو مثل "والتر دورانتي" و "يوجين ليون "اللذان عملا في التعتيم على الحقيقة من أجل إرضاء النظام السوفياتي . في 31 مارس ، ووصف دورانتي تقرير جونز بأنه "قصة مخيفة كبيرة". وكتب المؤرخ تيموثي سنايدر أن "ادعاء دورانتي بأنه لم يكن هناك" جوع فعلي "ولكن فقط" وفيات منتشرة بسبب الأمراض بسبب سوء التغذية " . بعد منعه من دخول الاتحاد السوفيتي مرة أخرى ، تم اختطاف جونز وقتل في عام 1935 أثناء التحقيق في منغوليا المحتلة من قبل اليابان. قتله على الأرجح من قبل الشرطة السرية السوفيتية . تحولت قصة الصحافي الإنكليزي "غاريث جونز " الذي كشف فظائع المجاعة التي أحدثها الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين إلى فيلم سينمائي بعنوان “مستر جونز” أخرجته البولندية " أجينزكا هولاند ". يبدأ الفيلم بصورة لمؤلف ( جورج أورويل ) وهو ينوي كتابة قصة اقتبسها من حيوانات المزرعة بحيث تكون بسيطة للغاية لدرجة أنه حتى الأطفال يمكنهم فهمها. ينتقل الفيلم إلى مكان آخر ونرى شابًا يُدعى "جاريث جونز" ويعمل مستشار الشؤون الخارجية لرئيس وزراء المملكة المتحدة آنذاك (ليويد جورج 1933) ، والذي يتحدث إلى رجال رئيس الوزراء عن الأفكار المدمرة لأدولف هتلر . من مقابلته مع جوبلز وهتلر على متن الطائرة ، ويحكي الفيلم قصة المجاعة "هولودومور" لستالين في أوكرانيا في 1932-1933 ، والتي تسببت في الموت المؤلم لملايين الأشخاص ، ويحكي قصة اللامبالاة العالمية لمثل هذه الجرائم والتي لا تزال تتكرر . يتجه جونز إلى موسكو بزعم السعي لإجراء مقابلة مع جوزيف ستالين أسوة بما فعله مع هتلر، لكنه في الحقيقة يسير وراء حاسته الصحفية ويتسلل إلى أوكرانيا التي يُحظر على الصحفيين دخولها. وفي وقت لاحق، يدور في ذهن الصحفي ( السيد جونز) سؤال واحد: من أين يأتي ستالين بالأموال للمشاريع الصناعية الكبيرة التي يعلنها؟ ويأتيه الجواب بأن قمح أوكرانيا هو ذهب ستالين، ما سبّب يما عُرفت بالمجاعة والتي التي تعني بالأوكرانية "الهولودومور" وترجمتها "القتل بالجوع"، والتي راح ضحيتها ملايين البشر والتي تتراوح التقديرات بشأنها من خمسة ملايين إلى عشرة ملايين ضحية . لقد عقد الرجل العزم على السفر إلى موسكو ومقابلة ستالين ، بعد ان فقد وظيفته في الحكومة بسبب الركود. يسافر إلى موسكو لإثبات نظريته وكيف يدفع الاتحاد السوفيتي المفلس مقابل طموحاته الصناعية. قبل مغادرته ، طلب صديقه بول كليبنيكوف من مراسله في موسكو ترتيب مقابلة مع ستالين ، تمكن من الحصول على إذن لمغادرة موسكو والذهاب إلى أوكرانيا من مفوض الشؤون الخارجية مكسيم ليتفينوف ، وهرب من حارسه الشخصي في قطار ودخل سيارة ركاب عادية ، يتجرأ الرجل على مواجهة النظام، فيزوّر أوراقاً ثبوتية ليصل إلى موسكو. وفي خضمّ وضع تاريخي وسياسي واجتماعي حرج ، يكتشف ما لم يتوقّعه ، وهو القادم متأملاً بعظمة النظام الستاليني، سيكتشف شيئاً أكبر بكثير ، عينٌ صحفية ثاقبة وجرأة عاملان دفعاه وراء ملاحقة شائعة سرت عن مجاعة في أوكرانيا، تسلل إلى هناك بشكل غير قانوني ليشهد على هياكل ملايين البشر الهزيلة، هؤلاء الذين تُرِكوا للجوع، بسبب سياسات زراعية صارمة قضت بتصدير كل القمح إلى الخارج ، كان مندهش من الجوع الذي يعصف بالفلاحين ومندهشًا لأنه تمكن من استبدال معطف سميك بقطعة خبز ، وفي محطة القطار على الأراضي الأوكرانية ، رأى العديد من الجثث متناثرة في الشوارع ، وسرعان ما أدرك أن المسؤولين المحليين يجمعون الحبوب من المزارعين ومن صورة قديمة ، تمكن من العثور على المكان الذي عملت فيه والدته وعاشت فيه ، يسمع قصيدة مؤلمة تصف محنة شعب أوكرانيا وجرائم ستالين من عدة أطفال . هو ضيف في منزل صبي وأخواته الثلاثة الصغار ، وهو مستاء من أكلهم لحم أخيهم الأكبر من شدة الجوع وقلة الزاد . تم القبض عليه من قبل عملاء وسجن في موسكو. إنه يعرف الآن جيدًا أن تقارير الصحفي الامريكي ديورانتي عن أوكرانيا ومحنتها كانت خاطئة ، وأن ستالين قتل الملايين من خلال بيع حبوب الفلاحين لتمويل أسلحته وطموحاته ، أفرج مفوض الشؤون الخارجية عن الصحفي " جونز" ، وهدد بقتل ستة مهندسين بريطانيين مسجونين في موسكو بتهمة التجسس إذا كشف أي شيء عن المجاعة في أوكرانيا. عاد إلى إنجلترا والقرية الساحلية مسقط رأسه في ويلز. تحدث في خطاب عن نيته فضح جرائم ستالين وتقارير ديورانتي الكاذبة. ينزعج رئيس وزراء المملكة المتحدة ويدين جونز بشدة ويأمره بسحب بيانه. من ناحية أخرى ، يعمل ديورانتي في موسكو على تشويه سمعة جونز و التشكيك بتقاريره. أطلق السوفييت سراح ستة سجناء بريطانيين ، في نهاية الفيلم ، وبعد أن شعر الصحفي "غاريث جونز" بالإحباط وتذوق مرارة السياسة باعتباره كاذبا لروايته عما شاهده في رحلته الى الاتحاد السوفيتي . لكنه لم يستسلم ، وعندما جاء ويليام هيرست ، أحد أشهر الناشرين والمحررين الأمريكيين وصاحب عدة صحف إلى ويلز ، قابله وأقنعه بنشر مقالته وملاحظاته عن أوكرانيا والاتحاد السوفيتي . إنه الآن سعيد وفخور لأن العديد من الناس حول العالم يمكنهم التعرف على ملاحظاته الصادمة المحزنة. تمكنت" إيدا بروكس" التي تعمل في مكتب ديورانتي من الخروج من موسكو والعثور على وظيفة في إحدى الصحف في برلين ، على الرغم من تهديد ديورانتي لها ، وكانت مسرورة لأن جونز استطاع كشف الحقيقة . في الفيلم نرى أطفالا يتضورون جوعا، يتغذون على لحم الموتى، بينما يتم إلقاء جثث الأمهات اللواتي يحتضنّ أطفالهنّ في الشارع على مرأى من الجميع . المخرجة "هولاند" نقلت في فيلمها هذه التفاصيل، كل مشهد صارخ في الرعب وحادٌّ في تبيان الظلم ، فالمخرجة لا تترك للمشاهد مجالاً للشكّ بصفّ من سيقف. يرصد الفيلم نموذجين متناقضين للصحافي، أحدهما والتر دورانتي مدير تحرير مكتب “نيويورك تايمز” في موسكو وهو صحافي نال جائزة بوليتزر عن مجموعة من المقالات نفى فيها عمليات التجويع الحاصلة . ويؤدي الممثل "بيتر سارسغارد "دور الصحفي دورانتي الذي اتهم بتلفيق شهادة شهود العيان، رغم أن الكثيرين يشيرون إلى أن دورانتي نفسه كان يعرف حجم هذه المجاعة، لكنه كان مقربا من النظام السوفييتي ويرجح آخرون أنه قد تعرض لضغوط ، والنموذج الآخر الصحافي غاريث جونز الذي توجه إلى موسكو، بحجة إجراء مقابلة مع جوزيف ستالين كما فعل مع الزعيم النازي أدولف هتلر سابقا، لكنه في حقيقة الأمر كان يهدف إلى التسلل إلى أوكرانيا التي يُحظر على الصحافيين دخولها . نوعان من الصحفيين النموذج الاول"سيّد جونز"النزيه الذي يسعى من أجل نشر الحقيقة، والنموذج الثاني هوالمرتزق الخاضع للإملاءات والمصالح ، صحافة من أجل الحقيقة وأخرى مضادة لها ، ومنهم أكبر المعارضين كان الصحفي والتر دورانتي الذي كتب عدّة مقالات أنكر فيها صحة ما جاء به جونز وفاز بجائزة "بوليتزر" على ما كتبه . المخرجة هولاند بعد عرض الفيلم دافعت عن ربطها الصحافة بالبطولة "أريد أن أهنئ الصحفيين الشجعان.. أعتقد أنه من المهم حقاً تحويلهم إلى أبطال.. بغض النظر عن الألم الذي يكشفونه لنا" . تصف هولاند قصة "السيد جونز" بأنها من أسوأ الجرائم في تاريخ البشرية في القرن العشرين ، ويعتبر صنع هذا الفيلم نوعًا من التكريم للأرواح الباقية من هذه الجريمة ، تمت الإشارة إلى أوكرانيا باسم "ذهب ستالين" . ومن الواضح أن حكومة ستالين حاولت إسكات أي شخص حاول الكشف عما حدث هناك. اثنان من زملائه الصحفيين الذين التقى بهم جونز أثناء رحلته لهما رد فعل مختلفين. أدا بروكس (فانيسا كيربي) ، صحفية بريطانية ، تؤكد أن الحقيقة بشأن المجاعة يتم قمعها لكنها تشعر أنه من الخطر للغاية التحدث عنها. إنه أمر مفهوم بالنظر إلى أن الصحفي الأمريكي بول كليبنيكوف الذي مات في موسكو أثناء إجراء تحقيق استقصائي حول هذا الموضوع ، المشاهد في أوكرانيا حيث رأى جونز بأم عينيه التناقض الصارخ بين موسكو المزدهرة والقرى الصارخة في أوكرانيا السوفيتية مؤلمة للغاية . في وقت الشتاء البارد ، هناك وجد الفلاحين مجبرين على العمل في تحميل أكياس ضخمة من الحبوب في شاحنات ستأخذهم بعيدًا لبيعها في الخارج ، بينما تتضور جموع الناس جوعاً ويموت الناس بالملايين أو يعودون إلى أكل لحوم البشر للبقاء على قيد الحياة. كان جونز يرتجف وهو يسير سيرًا على الأقدام ليرى منازل فارغة وجثثًا لمن ماتوا من الجوع . أحد أكثر المشاهد التي لا تمحى هو عندما التقى ببعض الأطفال وأخذوه إلى منزلهم وأعطوه الطعام الذي يتقيأه بعد أن كشفوا له أنه لحم اخيهم الذي مات حديثاً. يبدو النص المتين لأندريا تشالوبا شخصيًا إلى حد ما ، وعلى الأرجح لأنها لم تكن توثق مجرد حدث مروع في التاريخ لكن أجدادها عانوا من هولودومور خلال نظام ستالين. في الواقع ، ، وكما أفصحت كاتبة السيناريو ومنتجة الفيلم السيد جونز" ألاوكرانية " أندريا تشالوبا" ، في 5 فبراير في العام الماضي و في أمسية نظمتها الجمعية الأوكرانية البريطانية لمناقشتها قصة فيلم (السيد جونز) ، تحدثت قائلة : "تنبع قصتي من اقتباس من جورج أورويل ومن رسالة كتبها إلى صديقته مارثا كيسلر ، مؤلفة كتاب (ظلام الظهيرة) ، قائلًا إن اللاجئين من الاتحاد السوفيتي ، مثل أجدادي ووالدي ، هم هبة من السماء يكسرون الجدار الفاصل" ، بين روسيا والغرب من خلال قول الحقيقة . كان جدي ضحية جرائم ستالين ووالداي من مواليد معسكرات النازحين في ألمانيا ، ومن خلال هذا التاريخ الشخصي ، عرفت كيف كان الأمر حقًا خلف الستار الحديدي ، ويمكنني تقديم هذه القصص إلى جمهور أوسع" . أدركت الكاتبة " تشالوبا " أوجه التشابه بين ما كتب في مزرعة الحيوانات ، وهي رواية استعارية من تأليف جورج أورويل ويقوم بدوره الممثل" جوزيف مول"، والتي كانت ضد الشمولية وكان النهج الإنساني واضحًا وعاطفيًا . لأن أورويل أراد كشف ديكتاتورية الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين، وسياسته "القتل بالتجويع". والرواية، كما وصفها صاحبها، "نصّ أدبي في مواجهة ستالين"، وكتبها أورويل متأثراً بمقالات جونز عن المجاعة الكبرى في أوكرانيا عامي 1932 و1933، تعرّف الصحفي الشاب جونزعلى إريك بلير (جوزيف مول) ، وبدأ في صنع اسمه ككاتب تحت اسم "جورج أورويل". في الواقع ، لقد التقينا بالفعل أورويل في البداية ، وجعله يقرأ بشكل متقطع مقتطفات من اختياره من رواية ( مزرعة الحيوان) ـ مزرعة حيوانات جورج أورويل مألوفة جدًا باعتبارها قصة رمزية لتاريخ القرن العشرين.
وفي الفيلم، عند وصول الصحفي (جونز) إلى موسكو لمحاولة تأمين مقابلة مع ستالين فيما يتعلق بمصدر النجاح الاقتصادي المستمر للسوفييت ، لم يلتقط جونز الذكي اشارات مهمة عن طبيعة النظام وتعامله مع حرية الصحافة . ولم يعي أن الصحفيون مقيدون في موسكو ، حين تم تقصير تأشيرته التي تبلغ مدتها أسبوعًا بشكل مفاجئ إلى يومين وكذالك مقُتل صديقه المراسل والصحفي بول كليب (مارسين كزارنيك) في عملية سطو مزعومة خارج فندق ميتروبول الأنيق . وهي رحلة جونز عبر الريف الأوكراني حيث يوثق المعاناة التي يواجهها. يحتوي القسم على القليل من الحوار ، حيث يعتمد على بعض المرئيات المذهلة والتمثيل المبهر لنورتون حين يصادف جونز أطفالًا يتضورون جوعًا وجثثًا في الشوارع. دراما المخرجة "أجنيزكا هولاند " (إنتاج 2019) ، السيد جونز يحكي قصة" جاريث جونز " المراسل الويلزي الذي قام بزيارته الاستقصائية لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية وخاصة أوكرانيا في أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي الحقائق الثابتة بخصوص المجاعة في أوكرانيا والتي ألهمت الكاتب جورج أورويل في كتابة روايته "حقل الحيوانات " بشكل مثير للإعجاب ، الفيلم من إنتاج بولندي، إلا إنه يضم ثلاثة ممثلين معروفين في هوليوود هم جيمس نورتون، وفينيسا كيربي في دور الصحافية إيدا بروكس، وبيتر سارسغارد في دور وولتر دورانتي، رئيس تحرير مكتب موسكو لصحيفة نيويورك تايمز. وطوال أحداث الفيلم، يُمثل غاريث جونز الجانب الايجابي والأفضل ما في مهنة الصحافة، بينما يمثل وولتر دورانتي الأسوأ، وهو ما أبدع في تجسيده الممثل الفذ "بيتر سارسغارد " حتى جعل الشخصية مثيرة أكثر من البطل جونز نفسه . الهولودومور" باللغة الاوكرانية والتي تعني (المجاعة) هي صفحة سوداء من القرن العشرين، وصمتت أوروبا كاملة . لا شك أن سينما هولاند ثقيلة بالعموم حتى حين لا توجد حاجة لذلك، لكنّ الفيلم نجح في تمرير الرعب من خلال الجمال في تصوير البرد والثلج وجوع الفلاحين في أوكرانيا . السيد جونز قصة مهمة يتم سردها ببراعة كما إنه فيلم مشوق ومثير وعاطفي ، مليء بالرهبة عند الحاجة ، نجحت المخرجة دون أن يشعر المشاهد بالكآبة. وفي النهاية يعتبر فيلمًا راقيًا ، والتصوير السينمائي باستخدام كاميرا جريئة وديناميكية ، فيلم يهدف إلى إلهام الشجاعة التي سيحتاجون إليها للكشف عن أبشع الحقائق في عالمنا . وقالت المخرجة "هولاند" بعد عرض الفيلم " إنها اهتمت بالسيناريو الذي كتبته أندريا تشالوبا بسبب الموت الجماعي الذي شكّل جزءًا من تلك المرحلة القاتمة في تاريخ أوروبا والتي ما زالت غير معروفة كثيرًا " ، وأضافت “شعرت بأن أشباح تلك الجريمة تنادي للإضاءة عليها بشكل أو بآخر، وللحصول على العدالة، فشعرت بأنها مهمة أخلاقية عندما قرأته (السيناريو) ، كما أن القصة التي تدور بين العامَين 1932 و1933 عندما حصلت المجاعة في الحقبة السوفييتية - وهي مسألة ينظر إليها اليوم كمجزرة أمَر بها ستالين- تقدّم دروسًا مناسبة اليوم عن الطريقة التي تُدمَّر من خلالها المجتمعات من الداخل" ، وأشارت هولاند إلى أنها تعتقد أنه “لا يمكن الحصول على ديمقراطية بلا صحافة حرة، فهذا المثلث الذي نحاول أن نظهره، تخاذل السياسيين وفساد الإعلام ولامبالاة العامة أو المجتمعات ، هو ما فتح الباب أمام كوارث القرن العشرين" . مضيفة "أن السينما فن شعبي يمكن أن يصل إلى الناس ويوقظ خيالهم وعواطفهم" . في المحصلة ، "مستر جونز" فيلم استثنائيّ يتطلّب من مشاهديه إتّخاذ موقف مبكّر تجاه (الحقيقة) وصدق نوايا مخرجته " هولاند". فأنت إما تعتبره من الافلام التي تندرج في خانه معادية للشيوعيّة والحرب الباردة ضد الاتحاد السوفيتي سابقا وروسيا حاضراً ، أو تقتنع برواية الصحفي غاريث جونز فيما يخص المجاعة .
في الختام : الفيلم يمجّد حرية الصحافة ولا يفصلها عن ديمقراطية النظام ، وهي حريةٌ أساسية في مواجهة أيّ هفوةٍ أو سقوط للحاكم، لتثبت الصحافة سلطتها الرابعة الفعلية. أثبت "السيد جونز" معاناة الصحفي في طريق تقديم الحقيقة الكاملة. الصحفي " غاريث جونز " كشف البؤس بعد أن عانى بنفسه من الجوع والبرد ، وعاش الرعب وهو أول صحفي استقصائي نقل للعالم ما جرى في أوكرانيا وواجه ثلّةً من الصحفيين الذين أنكروا ما جاء به تحت ضغوط سياسية يرجّح البعض أنّها من الكرملين . الفيلم يجب أن يُشاهد لقيمته التاريخية، لقد وثّق حادثةً كادت تُمحى من صفحات التاريخ . يحتاج العالم إلى صحفيين حقيقيين مثل غاريث جونز أكثر من أي شيء آخر ، رجال ونساء لا يستسلمون ولا يخفون الحقيقة ولا تشترى أو تباع اقلامهم .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الممثلة رولا حمادة تتأثر بعد حديثها عن رحيل الممثل فادي ابرا


.. جيران الفنان صلاح السعدنى : مش هيتعوض تانى راجل متواضع كان ب




.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي