الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الماركسية والدين

غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني

2021 / 9 / 19
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية



الماركسية كنظرية علمية، فلسفية، تاريخية، اجتماعية واقتصادية، تسعى إلى تفسير كافة الظواهر الطبيعية والمجتمعية، بمنهجية علمية وموضوعية من أجل تغييرها، وهنا يندرج الدين ضمن هذه الظواهر، فالماركسية تدعو إلى التفسير العلمي الموضوعي للدين، فلا يكفي النظر إلى الدين ككل، أو إلى أي دين، على أنه مجرد وهم أو إيمان بالقضاء والقدر أو موقف غيبي استحوذ على عقول الملايين من الناس لعدة قرون. فهي تتطلب تحليلا للجذور الاجتماعية للدين في العموم، ولمعتقدات دينية محددة بذاتها، وفهم الاحتياجات الإنسانية الحقيقية، الاجتماعية منها والنفسية، والظروف التاريخية الفعلية التي تطابق تلك المعتقدات والمذاهب. فعلى الماركسي أن يكون قادرا على فهم كيف كان الايمان والاعتقاد الديني –وما زال في مجتمعاتنا العربية وفي البلدان المتخلفة- ملهماً للناس عموماً وللفقراء خصوصاً، في تمردهم على استعبادهم واضطهادهم أو في صبرهم على ظلمهم ومعاناتهم في انتظار الآخرة .
انطلاقاً من فهمنا للماركسية ، فإننا نرى أنها طريقة تفكير لفهم الوجود بكليته عموماً وبكل خصوصياته المرتبطة بالصراع الطبقي الاجتماعي من أجل انعتاق العمال والكادحين وكل الفقراء والمضطهدين في إطار العدالة الاجتماعية القائمة على المساواة بين البشر ، إلى جانب انها لا تسعى –وليست معنية- بالإساءة إلى المشاعر الدينية الكامنة في أوساط الجماهير الشعبية، بل على العكس تؤكد على ضرورة احترام تلك المشاعر - على النقيض مما يروج له دعاة الإسلام السياسي والقوى الرأسمالية والرجعية والامبريالية – فالماركسية تنظر إلى الدين بوصفه جزءاً من تطوّر وعي البشر في محاولتهم فهم واقعهم، وصوغ الرؤية التي تكيفهم معه، وأنه شكّل –في مراحل تاريخية معينة- تطوّراً كبيراً في مسار الفكر، وانتظام البشر في الواقع، وهي بهذا الموقف تتقاطع مع جوهر الأفكار التي أسست لانتشار المبادئ والقيم الناظمة لجميع الديانات التي ظهرت بعد مرور أكثر من مليون سنة على وجود الإنسان في هذا الكوكب، انعكاساً لشعوره بالخوف، أو العجز، عن تفسير الظواهر الطبيعية وغيرها المحيطة به، ومن ثم قام بعبادتها ، فقد عبد النار أو الشمس أو القمر أو النهر أو بعض الحيوانات ، وصنع لها التماثيل أو قام برسمها ونحتها على الصخور التي أصبحت جزءاً من التراث الديني القديم، عبر آثارها الموجودة اليوم في مصر واليونان والصين والهند والمكسيك والعديد من البلدان في أفريقيا وأمريكا اللاتينية ، حيث تميزت تلك المرحلة بما عرفته البشرية من تعدد الآلهة أو تعدد العبادات، جنباً إلى جنب مع الايمان بالأساطير التي سادت وانتشرت طوال أكثر من خمسة آلاف عام ، حتى ظهور فكرة الإله الواحد عند "اخناتون" في الحضارة الفرعونية في مصر، قبل ظهور الديانات التوحيدية، أو ما يعرف بالديانات السماوية، التي تتحدث عن إله واحد لهذا الكون، وكان أولها الديانة اليهودية التي ظهرت قبل حوالي 4298 عام، ثم المسيحية قبل 2013 عام ثم الإسلام قبل 1434 عام ، وهي أديان ظهرت كامتداد وتقاطع مع ما سبقها من خلفيات أسطورية وتراثية ، ولعبت دوراً مهماً في توضيح المعتقد الديني لهذا الدين أو ذاك، فهي دوماً جزء من الدين مرتبطة به، فالمسيحية نشأت على أرضية مكوَّنة من فلسفة أفلاطونية حديثة، من أفكار وثنية يونانية، كذلك الإسلام، ظهر في بيئة ثقافية كانت تضج بالمعتقدات والأفكار (الحنفاء والدهريون واليهود والنصارى والوثنية أو عبادة الأصنام) ؛ وكان ظهوره في فترة من أخصب فترات الفكر الإنساني: كانت الحضارات تتمازج، تتلاقح، تتفاعل، وتتحاور. "فلولا المسيحية واليهودية ووثنية الجزيرة العربية، مثلاً، وكذلك تأثير الزرادشتية والمانوية، لما ظهرت تعاليم الإسلام على الشكل الذي ظهرت عليه، فلو أخذنا مثال قصة هابيل وقابيل في التوراة وفي القرآن، نجد لها أصلاً، أو ما يشابهها، في الأسطورة السومرية، ما يعني أن هذه الكتب السماوية استلهمت بعض القصص من الأساطير" .
ومما لا شك فيه أن للأسطورة أيضاً، قيمة تاريخية ومعنوية، من ناحية تأثيرها في تشكل الوعي الإنساني في مراحله الأولى، وفي تأثيرها وإسهامها في صياغة نصوص الديانات التوحيدية التي ظهرت بعد أكثر من مليون عام على ظهور المجتمعات البشرية، حيث وجدت قبل حوالي خمسة آلاف عام في مصر الفرعونية (اخناتون)، ثم في بلاد الشام (اليهودية)، ثم اليونان والحضارة الاغريقية، ثم الامبراطورية الرومانية التي تخلت عام 335 عن دياناتها المرتبطة بالفلسفة الأفلاطونية المحدثة لحساب الديانة المسيحية الجديدة التي عززت بدورها مصالح النخب الطبقية الحاكمة في الامبراطورية.
أما عن تاريخ الديانة المسيحية ، فهو سابق على تاريخ الإسلام، إلا أن مسيرته لم تختلف عن مسيرة التاريخ الإسلامي من حيث انتشاره –في البداية- في أوساط الفقراء والعبيد ، فقد كانت المسيحية في الأصل حركة مضطهَدين، ظهرت للمرة الأولى على أنها دين للعبيد والمُعتَقين والفقراء والناس المحرومين من جميع الحقوق، وكذلك كل الشعوب التي قهرتها أو استبدت بها روما، وكان لا بد لانتفاضات الفلاحين والعبيد والمسحوقين، ولجميع الحركات الثورية في العصور الوسطى، أن ترتدى قناع الدين بالضرورة، وقد بدت وكأنها استعادة للمسيحية الأولى إثر ما أصابها من انحطاط متزايد، ولكن التمجيد الديني كان يخفي بانتظام مصالح دنيوية ملموسة “ .
وفي هذا السياق ، تؤكد جميع المراجع التي تناولت تاريخ نشوء ما يعرف بـ"الأديان السماوية" أن نشأة وظهور الأديان ارتبطت أساساً بالجماهير المسحوقة أو جماهير العبيد والفقراء لتحريضهم على واقعهم والثورة عليه وتغييره ، ولنا في ثورة العبيد بقيادة " سبارتاكوس" وثورات فقراء المسلمين في عهد عثمان ثم ثورة الزنج والقرامطة وغيرها تأكيداً لهذا التحليل، علاوة على أن الدعوة المحمدية الإسلامية، انطلقت في بداياتها وسنواتها الأولى في أوساط فقراء العرب في شبه الجزيرة العربية ، وكانوا بمثابة العنصر الرئيسي في حماية الدعوة والدفاع عن مضامينها ضد أثرياء وسادة قريش، لكن طهرانية الدعوة الإسلامية ومثاليتها، لم تستطع الصمود والديمومة سوى لفترة قصيرة، انتهت بوفاة الخليفة العادل عمر بن الخطاب، ومن ثم ولاية عثمان بن عفان الذي شارك في قيادة عملية التحول بالدعوة الإسلامية وتوجيهها لحساب مصالح أثرياء القبائل العربية عموماً وأثرياء قريش وبني أُمية على وجه الخصوص، وبعد وفاته تكرست هذه المصالح الطبقية والسياسية بصورة بشعة –في الدولة الأموية- عندما قرر معاوية ابن أبي سفيان –بعد انتصاره على علي بن أبي طالب- توريث الحكم إلى ولده يزيد، الأمر الذي يتناقض كلياً مع جوهر وشكل الدين الإسلامي، بحيث باتت عملية التوريث سمة أساسية لجميع الحكام أو "الخلفاء" في الدولة الأموية والعباسية وإلى يومنا هذا، لا لشئ سوى تأكيد المصالح العليا للطبقات والشرائح الثرية وضمان بقاءها واستمرار سيطرتها على حساب الاغلبية الساحقة من فقراء المسلمين الذين فُرِضَ عليهم الصبر على مظالمهم، انتظاراً للآخرة، وفق ما كان يروجه "مشايخ وفقهاء" السلطان أو الخليفة، الذين مازالوا في أيامنا هذه يروجون نفس الخطابات لحساب هذا الأمير أو الملك أو الرئيس أو الحاكم دفاعاً عن مصالح الأغنياء وضد مصالح ومستقبل الفقراء والمقهورين.
ولنا في مشهد الإسلام السياسي المنتشر اليوم في بلادنا عبر حركة الإخوان المسلمين والحركات الأصولية والسلفية الرجعية خير مثال على هذه الممارسات والمواقف التي لا تتناقض أبداً مع السياسات الإمبريالية في موازاة الدعوة إلى مهادنة دولة العدو الصهيوني من ناحية، والصمت الكامل على السياسات الاقتصادية الاستغلالية الرأسمالية التابعة التي أدت إلى تزايد الفجوات بين الأغنياء والفقراء دونما أي حديث أو مخرج للمحرومين وللمظلومين سوى اللجوء إلى السماء ووعد الآخرة.
وهنا بالضبط علينا أن نبحث بوعي وعمق كبيرين عن الجذور العميقة للدين في بلادنا العربية، التي تتمثل في الظروف الاجتماعية المتردية للجماهير الكادحة، وعجزها عن مواجهة أنظمة الاستغلال والقمع والاستبداد والتخلف ، الأمر الذي يفرض علينا مزيداً من الاندماج والتوسع في أوساط هذه الجماهير ، ونشر مبادئنا وأفكارنا وبرامجنا السياسية والاجتماعية عبر وسائل الدعاية والاقناع الديمقراطية للارتقاء بوعي الجماهير الشعبية الفقيرة وتطوير كفاحها ونضالها ضد كل أشكال الاستغلال والاضطهاد والتخلف.
وفي هذا الجانب ، نقول : إن الإنسان الفقير ، البسيط ، العفوي ، الذي يعيش في مجتمع متخلف (كما هو حال مجتمعاتنا العربية)، يتأثر سلبا بمعطيات وموروثات قيم التخلف الاجتماعي والغيبي تحديدا ، وينشأ او يصبح أسيرا – بدون وعي – لهذه البنية الاجتماعية المتخلفة ، بل ويصبح (بتأثير الخطاب الديني، والثقافي والسياسي والاجتماعي للأنظمة الحاكمة )، قوة فاعلة ومؤثرة في بنية المجتمع المتخلفة، فهو يعزز هذه البنية ويدعم استقرارها بمقاومة تغييرها بصورة عفوية، نظرا لارتباطها ببنيته النفسية المرتبطة بالبنية الاجتماعية، المحكومة بدورها للأعراف والعادات والتقاليد والغيبيات الموروثة ، العلاقة إذن جدلية بين السبب والمسبب (البنية والنمط الإنساني الذي ينتج عنها) مما يحتم على المثقف الوطني المستنير عموما واليساري خصوصا ان يتحمل مسئوليته تجاه الانسان الفقير ومعايشته والاهتمام الشديد بقضاياه وهمومه ومعاناته وتوعيته وتحريضه ضد البنية المتخلفة ورموزها الطبقية ليقوم بدوره في صنع مستقبله .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الماركسية نظرية الحادية ولايمكن تغطية ذلك
منير كريم ( 2021 / 9 / 19 - 15:42 )
تحية للاستاذ
الماركسية نظرية الحادية ولايمكن تغطية ذلك اما تحالف الماركسيين مع حركات الاسلام السياسي الموغلة بالرجعية والهمجية لا يجب ان يكون ذريعة لنفي الحادية الماركسية
الليبرالية تتعامل مع الدين الاجتماعي والسياسي وفق العلمانية والتنوير
وهذا سبب من اسباب تفوق الليبرالية على الماركسية
شكرا لك


2 - التفكير الحر
ابراهيم الثلجي ( 2021 / 9 / 19 - 16:12 )
رفيقنا الغالي تحية
لقد تخطانا الزمان ونحن نتعصب لعلمية الماركسية التي لو كانت كذلك لما نبذها الناس وتركوها في بلدانها ولو وجدوا فيها ايجابية واحدة غير النظرية والتنظير التي لا تسمى علمي او علمية ولم تلامس التجربة او الميدان لنحكم على علميتها وهنا الكلام عن الحالة الاقتصادية اما في قضايا الخلق والتكوين والقوننة والتشريع فلم يتخذها احد كقانون تشريع ينص على قوانين واحكام ونظام عقوبات لتكون منهج تشريعي
اما عن الدين وما يعنيني الاسلامي فهو تشريع متكامل لتنظيم العلاقات بين الناس وتبيان مدونة سلوك كاملة متكاملة من الرضاعة حتى الكفن والدفن
اما العلوم الكيميائية والاخرى فهي ثوابت وجدناها امام اعيننا والخلاف بين الناس ينحصر
هل هناك فاعل ومنظم لما نراه ونلمسه
ام انه نتاج لعشوائية من زخم وكثرة عشوائيتها اذ هي تلد نظاما وصناعة انسانية وخلقية من دون اي خلفيات
وليدة صدفة او مادة واعية ادارت شان نفسها ونظمتتها كما يروق للملحد او الذي لا يروق له رسم مشهد مقنع ان خلف هذا الخلق خالق وصانع
فلو ادعيت لك ان سيارتك هي من صنعت نفسها وان ابو مازن هو من خلق نفسه لتبعتني بالعصا
مع احترامي لك كمفكر حر


3 - t في الدين
فؤاد النمري ( 2021 / 9 / 19 - 16:30 )
العامل في المخابرات البريطانية MI6
غلى خلاف غازي الصوراني بستدل بماركس

سئل لينين عن دور الدين في المجتمع فأجاب .
قال ماركس أن الدين هو أفيون الشعوب وهذا المبدأ هو حجر الزاوية في معتقداتنا
وقال ماركس أيضاً .
نقد الدين هو الشرط الأولي لكل نقد

اخر الافلام

.. سيارة تحاول دهس أحد المتظاهرين الإسرائيليين في تل أبيب


.. Read the Socialist issue 1271 - TUSC sixth biggest party in




.. إحباط كبير جداً من جانب اليمين المتطرف في -إسرائيل-، والجمهو


.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة كولومبيا




.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي