الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مونودراما.. صولو.. عباس منعثر

عباس منعثر
شاعر وكاتب مسرحي عراقي

(Abbas Amnathar)

2021 / 9 / 22
الادب والفن


(تحت طاولة قديمة يختبئ الرّجل خائفا. يرفع رأسه ويلتفت يمينا ويسارا)
الرّجل:
الخوفُ يضعُكَ في موقفٍ محرجٍ مع الرّجولة. تُحسُّ أنكَ تُهان حين تخاف. لكن ما الرّجولة؟! ولماذا نعطيها أيَّ اعتبارٍ حين يتهددُنا الخطر؟! بعينيّ رأيتُ ألفَ شاب، يقودهم أربعةُ مسلحين كالأضاحي. قفوا، يقفون. انبطحوا، ينبطحون. تمددوا وأيديكم على رؤوسِكم، يفعلون. ثم يقتلونَهم واحداً واحدا.. ما أستغربُه، أنهم يتقبّلون ذلك بلا أيةِ مقاومة. رأيتُهم يتقلّبونَ حينما يخترقُ الرّصاصُ أجسادَهم.. وماتوا جميعاً في أقلّ من ساعة.
(يتحرك تحت الطّاولة)
عالمٌ مريب. الوجهُ الغريب: مريب. النّظرةُ الحادة: مريبة. الفمُ المتجهم: مريب. السّحنةُ السّمراء: مريبة. اللّكنةُ الغريبة: مريبة. في زمن مضى كان يكفي أن تبتعدَ عن الخطر لتعيشَ بسلام. الآن ستنالُكَ البشاعة ولو اختبأتَ في خرمِ إبرة.. تركتُ صخبَ العالمِ خلفي، وجئتُ إلى هذه القريةِ النّائية. فهل حصلتُ على الأمان؟
(يعود إلى الطّاولة حيث يختبئ)
لو ألصقتَ فمَكَ بلاصق، لو ملأتَ إذنيكَ بالقطن، لو كبّلتَ قدميكَ بأصفاد، لو ربطتَ جسدَكَ بحبل، فإنكَ مُدان.. مُدانٌ لأنكَ أنت، مُدانٌ لأنكَ إنسان، مُدانٌ لأنكَ تستهلِكُ من الهواءِ أكثرَ مما ينبغي.
(يذهب إلى الشّباك الأول. يراقب منبطحا)
يُقال، إنهم سيصلونَ اللّيلة.. سيأتون.. واللهُ وحدهُ يعلمُ ما هو ثمنُ مجيئهم!
(من إحدى الزّوايا يجلب بندقية)
حتى أحافظَ على حياتي، إشتريتُ هذه البندقية. السّلاحُ يُشعركَ بالقوة. حين تُمسكُ به يُصبح الكونُ كلّهُ هدفاً لمرماك. يُغريكَ السّلاحُ بالقتل. بعينيّ رأيتُهُ يقنصُ الرّجالَ و النّساءَ والأطفال وكأنهُ يلعب، وكلّما تحداهُ جسدٌ وراوغَه، زادَ من رغبتِهِ في اقتناصِ مزيدٍ من الأجساد.
(يفتح صمام الأمان)
مع وجودِها بين يديّ؛ غابَ الاطمئنان. أخافُ من نفسي. قد تغلِبُني لحظةُ يأسٍ وأوجّهُ فوّهةَ البندقيةِ إلى صدري، أو قد يتمكّنُ منّي الغضب، فيُسرعُ إصبعي إلى الزّناد ويقع جاري صريعاً.. وربما يُغويني غزالٌ يمرُّ بالقربِ من نافذتي على إيغالِ رصاصةٍ في لحمِه!
(يغلق صمام الأمان)
لكنّني لا أعرفُ كيف استخدمُها. لم أجرّبْ ذلكَ إلا مرّةً واحدة. البندقيةُ فلتتْ من يدي وكادتْ تُطشّرُ مخي.. الآليةُ يعرفُها حتى الطّفل في مهدِه: تحرّكُ صمّامَ الأمانِ هكذا، تضعُ الإصبعَ على الزّناد، تفتحُ عيناً وتُغمِضُ أُخرى، تحددُ الهدفَ في المركز، وتُطلق..
(صوت إطلاقة يعيده إلى الإختباء تحت الطّاولة)
هل جاؤوا؟! هيَ إطلاقةٌ نارية، أَم أننّي أتخيل؟
(صمت طويل)
لا شيء! كثيراً ما تأتيني الكوابيس.. أكونُ فيها وحيداً.. وحيداً، في مواجهةِ كائناتٍ بلا ملامح.. كائناتٍ تحوّلتْ إلى فكرةٍ مخيفة.. إلى هاجس.. إلى إحساس أنّ الهواءَ خانقٌ والشّفقةَ معدومة.. آه.. أحياناً نموتُ وأجسادنا تبقى على قيدِ الحياة. هذا ما كانَ يشعرُ بهِ الرّجلُ ذو البذلةِ الحمراء.. مكتوفَ اليدينِ إلى الخلف. كانَ وجهُهُ قد ودّعَ الحياة: أصفرَ مُغبر، شفتاهُ فضيتان، وفي عينيهِ نظرةٌ جامدة. إلى يسارِهِ يقفُ رجلٌ؛ بل وحش ملّثم، يدهُ اليسرى متشنجة، ومستعدةٌ لفعلٍ قوي. السّكينُ متصلةٌ بكفّهِ وكأنها أحدُ أصابعِه. أما صاحبُنا، الضّحية، فقد كانَ ميّتاً منذُ ساعاتٍ رغمَ قلبِهِ الذّي ينبضُ ورئتيه اللّتينِ تتنفسان.. هكذا، تنحني رقبةُ الضّحية، وتبدأُ السّكين بالعمل.. صعوداً ونزولاً صعوداً ونزولاً صعوداً ونزولا.. ويطفرُ الدّمُ مثل نافورة..
(يزيل البندقية التّي وضعها على الطّاولة بيديه)
لا، لا، لا، لا. أَهْوَنُ على ضميري أن أموتَ مثلَ كبش على أن أُطلقَ رصاصة. لن أُصبح جلّادا. لن أكونَ مثلَهم ما حييت!
(من تحت الطّاولة يخرج آلة كمان.. ويبدأ بالعزف بصوت منخفض ثم ينسى نفسه ويبدأ بالعزف بكل كيانه غارقا في نشوة قصوى.. تزداد حمية العزف وسرعته حتى يصل إلى الإنهاك في آخر جملة موسيقية)

الله! ما أروعَها من نشوة. لو أنّ الإنسانَ يُحسُّ بها مرّة؛ لما فكّرَ بالقتلِ على الإطلاق... (يغني وكأنه يُصلّي) اللّه! ما أروعَها من نشوة. لو أنّ الإنسانَ يُحسُّ بها مرّة؛ لما فكّرَ بالقتلِ على الإطلاق...
(صوت في الخارج.. يترك الكمان على الطّاولة ويهرع إلى الشّباك الأول)
لقد وصلوا.. وصلَ الملثمون... كأنهم نسخةٌ واحدة.. عضلاتُهم مفتولة، أقدامُهم تسقطُ على الأرضِ بتناغم وسكاكينُهم تلمع!
(يختبئ تحت الشّباك الأول، ثم يرفع رأسه ببطء)
إنهم يتجهونَ إلى بيتِ جاري.. الرّجلِ الوحيدِ الغامض!
(يراقب مرتعشا)
نعم. يتجهونَ إلى بيتِه. لماذا يا ترى؟ ربما هو مطلوب بتُهمة. ما هذا؟ بعضُهم يقتحمُ البابَ وبعضُهم ينتظرُ في توزيعِ أدوارٍ غاية في الدّقة.. كأنّهم آلات! هل سيقتلونَه؟ هل قتلوه؟ سأُنصت..
(لا يصل مسامعه شيء)
ربما استخدموا كاتمَ صوت؟ ها؟! ما هذ؟! لقد تحركوا إلى الجهةِ الأخرى..
(ينتقل إلى الشّباك الثّاني)
أهااااه! إنهم يقصدونَ بيتَ جارتي.. سأسمعُ صرخةً بعدَ حين. هل صرختْ؟ لا. لا تملِكُ المرأةُ سلاحاً سوى الدّموعِ و الصّراخ. لكن لماذا تصرخ؟ لماذا تصرخُ وهي تعلمُ أنه لن يجيبَها أحد؟! لا أحدَ بإمكانِهِ أن يُنقذَها؟! ربما تجعلُ الصّرخُة موتَها أكثرَ يُسراً! إذا دخلوا عليّ لن أصرخ.. لن أصرخ.. أو قد أصرخ، أصرخ، أصرخ كي أُرعبَهم.. سأصرخُ وأصرخُ وأصرخ..
(يخرج رأسه من الشباك)
لا أسمعُ رجاءً ولا بكاء ولا شهقة. إننا نموتُ بصمتٍ إذن.. نقرّبُ رقابَنا من السّكين ونحركُها أعلى أسفل أعلى أسفل حتى تتوغل..
(ينتقل إلى الباب)
تركوا بيتَ جارتي! ما هو هدفُهم القادمُ يا ترى؟! إنهم يُشيرون.. يُشيرونَ إلى.. بيتي.. و السّكاكينُ تلمعُ ثانيةً في أيديهم!!
(يذهب إلى الكمان ويحمله وكأنه بندقية)
لن اكتفي بالصّراخِ مثلَ جارتي.. ولا بالصّمتِ مثلَ جاري، ولا بالصّبرِ مثلَ ذي الرّداءِ الأحمر ولا بالانقيادِ مثلَ الألف شاب.. بهذا (يقصد الكمان) سأقتلُ منهم واحداً على الأقل.. ولن يكونَ موتي رخيصاً.. لن أموتَ قبلَ موتي ولستُ خروفاً في قطيع!
(ينتبه إلى نفسه. يلقي بالكمان. يلقف البندقية ويصوبها باتجاه الباب..)
تحديدُ الهدف.. في قلبِ الباب.. وأوّلُ مَنْ يدخل سينالُ نصيبَه..
(يفتح صمام الأمان، يضع إصبعه على الزّناد ويتراجع أربع خطوات إلى الخلف)

سيفاجئُهم ما سيرونـَهُ هنا.
(إظلام تدريجي)
...................
• نشر هذا النص ضمن كتاب (مونو) (دار المتن، بغداد2016) ضمن 8 مسرحيات مونودرامية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدني عن عمر يناهز 81 عامًا


.. المتحدة للخدمات الإعلامية تنعى الفنان الكبير صلاح السعدني




.. الفنان هاني شاكر في لقاء سابق لا يعجبني الكلام الهابط في الم


.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي




.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع