الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الزواج فوبيا … ! (قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2021 / 9 / 22
الادب والفن


انجبت امي شقيقتي الصغرى ( غالية ) .. الفتاة الوحيدة في الاسرة ، وآخر العنقود على رأس اثنين من الذكور .. انا ( حمزة ) الابن الاكبر ، و شقيقي ( عادل ) ، وبعد انقضاء سنين قليلة لم تتجاوز أصابع اليد الواحدة بدأت أمي ، وبشكلٍ مفاجئ تضيق بزواجها من أبي كأنها تذكرت فجأة بأنه سكير عربيد ، وزير نساء ، ولا كأنها عاشت معه سنين طوال ، وهي التي اختارته ، وفضلته على غيره من الرجال …
وكانت البداية عندما شاع جو من البرود ، واللامبالاة بين الاثنين ، فلا يحيها ولا تحيه ، ولا يكلمها ولا تكلمه ، اما الاسباب فغير معروفة على الاقل لنا نحن الاطفال الذين لا نملك .. لا رأياً ولا حول ولا قوة .. ثم فسد الهواء كلياً في البيت ، ودبت خلافات بسيطة تطورت الى نقار ثم معارك صغيرة سرعان ما توسع مجالها ، فاصبحت سُباباً وتبادلاً لاتهامات قاسية وخطيرة يخرج فيها كل واحد ما بداخله من قيح وصديد …
ولائحة الاتهامات المفزعة هذه تطول .. منها ربما ما هو صحيح ، ومنها ما هو ملفق بدافع الحقد والكراهية المتبادلة بين الاثنين .. كان ابي يرميها بالخيانة بانها تعاشر كل من هب ودب حتى كلاب الحي ، ويشكك في نسبنا اليه ، ويعاملنا معاملة اللقطاء ، ولا يعتبرنا ابناءه ، وكثيراً ما كان يُطلق كلمات مؤذية تنساب من فمه كهلوسة مسطول يدعونا فيها الى البحث عن آباءنا بين كلاب الحي .. !
— اذهبوا وابحثوا عن آبائكم ، قد يكونوا كلابا من كلاب الحي إياها .. !
كذلك تفعل أمي ، فتتهمه بانه شاذ وسكير عربيد .. دائم التنقل من امرأة الى اخرى ، ولا يراعي لا زوجة ولا اطفال ولا بيت .. حتى تستنفذ كل طاقتها من الصراخ والعويل ثم تهدأ وتستكين .. حرباً لا هوادة فيها .. بكل سلاح وأي سلاح ، اما نحن فكانت حالتنا اقرب ما تكون الى الذهول ، ولم تكن بيدنا اية وسيلة لنهدئ بها من ثائرتهم إلا البكاء …
كنا موزعين مشتتين بين الإثنين ، لا ندري الى من نتحزب والى من نميل .. لا احد يفكر أن يرفع الغطاء عن عقولنا الطفولية البريئة ، ويرى ما تخزنه من عقد ، وعاهات نفسية ، وما تسببه من آثار تدميرية قد ترافقنا العمر كله !
كثيرا ما كان الشجار يتحول الى صراخ ، وتبادل مفتوح للتهديدات والشتائم والسباب الذي يخدش الحياء في جو مشبع بظلالٍ قاتمة من الكراهية السوداء …
احياناً يهجم عليها كحيوان بري شرس يريد تمزيق فريسته ، فتفر هاربةً الى الجيران المتجمعين اساساً ، وهم يتصعلكون امام بابنا .. يطالعون ما يمكن ان يشاهدوه من هذه الكوميديا السوداء بشغف .. يغادر البعض منهم بينما يُبقى حب الاستطلاع على معظمهم ، ولا ينتهي هذا الصراع الا بعد ان يتهالك الاثنان على الأرض من التعب والانهاك ، او يفر ابي من المعركة مهزوماً !
قد اكون ضخمت الموضوع أكثر مما هو في الواقع .. لا ادري .. لكن على العموم هذا هو ما كنت ارى واسمع من قرف .. حاولت ان ابحث عن ذرة حقد تجاههما فلم أجد .. مشاعري نحوهم في حقيقتها باتت محايدة لا احبهم ولا اكرههم .. لكن لا تحسبوني مغالياً او قاسياً او حتى عاقاً حين اقول بانني كنت احياناً اتمنى ان يختفي الاثنان من الوجود ليُريحوا ويستريحوا … !
تنزوي امي بوجهها الغاضب منفوشة الشعر ، في ركن من البيت ، وعيناها مطفئتان كأنهما قد استنفذتا ما بهما من دموع ، وهي تندب حظها العاثر بصوت ممزق ، وتلعن قسمتها السودة التي اوقعتها بمثل هذا الزوج الخائن الجبان .. ثم تدعو عليه بداء لاشفاء منه …
يراودنا جميعاً احساس مبهم بأن شيئاً جنونيا لابد ان يحدث لينهي الفصل الاخير في هذه المأساة .. أتأمل وجه أمي وأتساءل ماذا تخبئ وراء ملامحها الدقيقة الجميلة ونظرات الاشمئزاز والازدراء هذه ، يا ترى ؟ واواصل قظم اظافري حتى يسيل الدم .. لم استطع حبس دموعي ، وانا ارى اختي غالية تنكمش حول نفسها ، وقد تسلل بولها من تحتها ، وهي تنشج كاتمةً دمعة حائرة خجلى تترقرق في عينيها ، ثم تترك مكانها وتزحف نحوي كدودة صغيرة ، وتلتصق بي مثل قطة تنشد الدفء والامان .. اشعر بدفء الحياة في جسدها الهزيل …
كنت مضطراً لوضع ابتسامة باهتة على شفتّي لازرع في نفسها الطمأنينة والامان المزيفين .. احتضنها واقبلها حتى تهدأ قسمات وجهها الجميل ، ودموعي لا تتوقف .. فتاة صغيرة ضئيلة وعاجزة شاء حظها ان تقع ضحية لهذا الجو الغائم ، تضع راسها على صدري .. تتثائب في وداعة ، ثم تستغرق من فورها في نوم عميق .. اسمع صوت انفاسها تتردد في هدوء ، وكأنها وجدت في احضاني ما كانت تحتاجه من أمان …
استغرق انا الآخر في النوم رغم الخوف ، وقرصات الجوع وقسوة المشهد وتفاهته .. اما اخي عادل فقد ظل دوماً حبيس كآبته .. لم اعد قادراً على فهم او قراءة ما يجول في داخله من معاناة .. يفر الى خارج البيت كعصفور فَزِع .. يضرب في الأزقة على غير هدى ، ولا يعود إلا عندما يرى ابي ، وقد غادر البيت .. اما ابي بطوله الفارع وملامحه الجافة القاسية ، فينهي هذا المشهد السخيف كالمعتاد : تفوه .. على هكذا حياة وهكذا زواج ، يقولها ، وهو يبصق على الارض في حقد ، ونظرة ازدراء باردة تطل من عينيه .. ينسحب وهو يتمتم في غيظ ، ولا يعود الا والليل يلفظ أنفاسه الأخيرة .. وهو مخمور !
هذا هو المشهد الغالب الذي يتكرر مرات ومرات حتى اعتدنا مشاهدته والتأقلم على أجواءه إلا ما رحم ربي .. اذ يصادف احياناً ان يتبادلا بضع كلمات بداعي الضرورة .. فتأتي باهتة ماسخة لاروح فيها ، وكأنها قادمة من افواه غير افواههم ، لكنها في كل الاحوال هدنة ، ولحظة سلام نادرة ، نسر لها ونفرح متمنين دوامها الى الابد .. انهم على أي حال والدينا ، ولاغنى لنا عنهم ، فهم حتى في حالتهم البائسة هذه كالشر الذي لابد منه ! لكن نهاية الأشياء وخاتمتها تأتي حتماً ولا تنتظر …
تتهاوى اخيراً اركان المعبد فوق رؤوسنا جميعاً .. يبدو ان امي كانت تنتظر ان تحين اللحظة المناسبة ، وقد حانت .. استيقظنا ذات صباح فلم نجد أمنا .. لا احد يعرف الى اية جهنم ذهبت .. وغرقنا بعد رحيلها في المجهول .. فقد فرضت علينا الظروف ان نعيش مكرهين في كنف أب سكير تتركه سكرة لتستعيده أخرى ، لا يراعينا ولا يعترف بنا اساساً ، ولا يراعي أي شيء من حوله .. حتى دكانه الصغير الذي كنا نعيش من عوائده قد اهمله ، ونادراً ما كان يفتحه …
وفي يوم .. لم يعد فيه كعادته الى البيت .. لم نبالي لان وجوده من عدمه لا يحدث فرقاً مهماً بالنسبة لنا .. ينفلق يوم آخر وآخر ولم يأتي حتى كان يوماً جاءنا فيه مختار الحي ، واخبرنا بأن ابونا قد وجدوا جثته بعد أن لفظها النهر الذي سقط فيه وهو مخمور .. استمرت الحياة ان جاز لنا ان نسميها كذلك ، وعشنا على المساعدات الشحيحة من الاقرباء ، والصدقات من الجيران ..
كنا بحاجة الى نقود ندفع بها عجلة الحياة الى الامام ، ونمنع عن انفسنا شبح الموت جوعاً !
لم ينقذنا الا قرار أخينا عادل بترك الدراسه ، واستلام الدكان رغم رفضنا لهذه الفكرة ، لكنه كان مصمما عليها ، فجعل من نفسه مسيحاً لينتشلنا جميعاً من الغرق والضياع ، وبجهده وشطارته رغم صغر سنه استطاع ان يوقف الدكان على قدميه ، ويوسع التجارة فيه …
تمر الايام مسرعةً .. وتتضاعف الارباح ، ويأخذ عادل بالصرف علينا وعلى البيت ، ولم يبخل بشيء .. كنا بحاجة الى امرأة تدير لنا البيت ، ولم يهن علينا ان نضحي بشقيقتنا غالية ، ونجبرها على ترك دراستها والتفرغ الى البيت ، فطلبنا من عادل ان يتزوج ، لكنه رفض هذه الفكرة من الاساس ، وطلب منا عدم الالحاح فيها ، ثم قال بأني اولى بالزواج باعتباري الاخ الاكبر .. رفضتُ انا الاخر الفكرة بدون أدنى تفكير .. وهكذا ظهر تأثير عقدة الخوف المرضي من الزواج التي تحولت الى لعنة حتى لو دفنتها في سابع ارض لا تموت !
تسلل الينا جمال امنا ، فجئنا على صورتها ، فكانت شقيقتنا غالية آية في الحسن والجمال والروعة .. كثر خطابها ومحبيها لكنها رفضت الزواج هي الاخرى كأنها ترهبنت وطلقت الحياة نهائياً ، فاتهموها بالتعالي والتكبر والغرور ، ولا احد يعرف ما وراء الاكمة .. كنا نتألم على اختنا وجمالها الذي سيذبل ويذوي دون هدف حقيقي او مشاركة في صنع الحياة ، وسيكون مآله في النهاية الى سلة المهملات لمجرد أننا خائفين من تكرار التجربة الفاشلة التي كان عليها امنا وابينا مهما كان الثمن غالياً !
واصلت الحياة سيرها الوئيد وكبرنا ، واخذنا نشق طريقنا في الصخر ، حتى لانت لنا الدنيا ، واذعنت ارادة الحياة ، وبعد مخاض اكثر من عسير تخرجتُ من الاعدادية .. وبعد سعي حثيث وجدت وظيفة في مصلحة السكك الحديدية موظفاً ، وأنا اخطو فوق سنواتي العشرين ، ثم رُقيت بعد خمس سنوات الى درجة ملاحظ ، بعدها بسنوات اختاروني لوظيفة مفتش ، وهي وظيفة تقتضي مني السفر الدائم ، فاصبح القطار بيتي ومسكني وملاذي .. اذهب الى حيث يذهب .. عندما يمضى مسرعاً ينهب الارض من تحته كأنه هارب من شيء ما .. يبدو مثلي تماماً او انا مثله ، لا فرق .. كله هروب في هروب .. كنت مسروراً بهذا العمل لعلي أفر من خلاله من ذلك الضجيج الذي يعوي ويضج في داخلي …
تسربت السنين كما يتسرب الماء من بين الاصابع ، ومثلما ابتلاني القدر بطفولة معذبة ، فقد اكرمني بفترة شباب جميلة مليئة بالتفاصيل الحالمة .. تعرفت فيها الى نساء كثيرات .. احببت البعض منهن ، والبعض احبّني من طرف واحد .| ساعدني في ذلك وسامتي وحضوري وقوامي الرياضي الممشوق ، ولم احرم نفسي من الاستمتاع بالحياة ومباهجها .. لقد ذقت من كؤوس الهوى اعذبها ، وخمر العشق اعتقه ، وغصت في تلافيف الزمن ودروبه .. لكني في كل الاحوال لم احاول قط ان ارتبط بواحدة .. لا لأني لم اكن راغباً .. لا لا ، وانما لأني لم اجروء على تجاوز ذلك الحاجز النفسي الذي يفرض نفسه علي ، ويأبى أن يغادر وعيي !
لانزال انا واخوتي نعيش في نفس البيت القديم الذي أصبح علامة دالة للتائهين ، فكان الناس يقولون خلف او بجوار او امام بيت العزابية !
بدأت الشيخوخة تطرق ابوابنا .. وصلتُ اخيراً الى مرحلة التقاعد الباردة .. واليوم اقضي وقتي بين البيت والمقهى .. اما عادل فمشغول الى اذنيه في تجارته ، وغالية لا هم لها إلا ماذا تطبخ لنا اليوم على الغداء .. نجتمع كل يوم تقريباً على العشاء ، ونسهر بعده الى بعض الوقت ، ونتكلم في شتى المواضيع .. لكني لا اذكر اننا تطرقنا الى تلك الايام المرّة ، والذكرى الغابرة التي مرت بنا ، وعصفت بطفولتنا .. ولا ما كان من امنا وابينا ، وكأنها صفحة سوداء ، وقد نُسخت من حياتنا .. الى الابد !!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81