الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رحلة حزن وعذاب بحثاً عن الحرية/ معايشة حقيقية شخصية لتداعيات الانتفاضة الشعبانية عام 1991/ الحلقة التاسعة

محمد رياض اسماعيل
باحث

(Mohammed Reyadh Ismail Sabir)

2021 / 9 / 22
القضية الكردية


حين يختلط التراب بالماء يولد الطين، وحين يختلط التراب بالدم يولد وطن ... على مدار قرن من نضال الكورد المعاصر، قدمت أبنائها مئات الالاف من القرابين ثمناً للحرية، سالت دماء شهدائه على كل شبر من ارض كوردستان، دماء زكية، فألا يستحقون وطناً؟
تركنا جوان روود في يوم 13/4 وتوجهنا صوب تازه أباد، كنا نسير في طريق جبلي ووديان تحيطها مئات الالاف من الأشجار ومئات المراعي، وكان يغلبني النعاس في أوقات مختلفة وانهض على صياح الأهل يحثونني على الانتباه للطريق الضيق، وكلما توقفت لأخذ قسطا من الراحة تبعنا الحرس وأمرونا بالحركة، وكانت شقيقتي تناولني التفاح لكي أصحصح واستمر في السياقة في الوديان الوعرة، بين الجبال الشاهقة للغاية. عند الساعة الحادية عشر صباحاً وصلنا قرية قُلقُلة قرب ناحية تازه أباد، وأمرنا الحرس ان نخرج الى الطريق الرابط بين قلقلة وتازه آباد، وركنا سياراتنا بحافة الشارع وكان الجو مغبراً جداً، وكانت العجلات و القلابيات والشفلات والحادلات تعمل على تسوية الأرض، لجعلها مناسباً لنصب الخيم لنسكن فيها الى اجلٍ غير مسمى … وكان حظنا مغبراً ايضاً مثل الجو، والتراب قد غطت اجسادنا بالكامل، فأردنا العودة الى قرية قلقلة لنجد مكاناً نقضي فيه حاجتنا، ونغتسل بعد مسيرة 16 ساعة متواصلة أتعبتني ايما تعب! عدنا للقرية بين مئات السيارات التي كانت تحيط بِنَا، وأوقفنا الحرس عند بوابة القرية حيث أنشأوا نقطة سيطرة لمنع اللاجئين من العودة الى جوان روود. وقفت على الرصيف، ونزلنا نتبضع من السوق، وكان الحرس يأمروننا بالحركة الى الطريق العام، وكانت بأيديهم الهراوات يضربون بها على السيارات الواقفة، وكلما مروا بِنَا كنا نستسمح منهم بعض الدقائق.
التقيت ببعض اللاجئين من أهل كركوك، وكان الجميع تتذمر من الوضع المزري والمعاملة الخشنة للحرس الايراني. وازدحمت القرية والشوارع باللاجئين، نساءاً وأطفالاً وشيوخاً، حَلَ الليل وجاءني احد الحراس، وصاح بي (حركت مي كونان) أي يمكنك التحرك ، قلت له ادركني التعب وبحاجة الى قليل من الاستراحة، فليس بمقدوري الاستمرار بالسياقة، فليس الجوع وحده يهددنا، بل أنتم الحرس والسماء وسلاح صدام على السواء، كان بقاؤنا أحياء جاءت بفضل الأدوية منذ ان تركنا ديارنا، واسترسلت قائلاً: هؤلاء الذي تراهم كالقطيع للاسف! اناس طيبون، تعبوا في الحياة واجتهدوا وتخرجوا أطباء ومهندسين ومدرسين وفنيين، دفعوا بسنوات طويلة من أعمارهم للارتقاء في التحصيل، كنا نتعلم ونُعلِم، وكنا نسكن بيوتا، وننعم بالنوم فيه، وقضاء الحاجة في مرافق صحية نظيفة، ونستحم صباح كل يوم و مساءه، وكنا نشرب القهوة مساءاً، وننام على الفرش الوثيرة، ونضع رؤوسنا على الوسائد الناعمة، وكان بيتنا (في المنطقة النفطية) تحيطها الأشجار والأزهار وساحات خضراء من الثيل، كنّا نستيقظ على زقزقة العصافير والبلابل، وكنا بمستوى خبرة لا يقل عن الخبراء الأجانب الذي تسمعون عنهم، و كانوا يستغربون بقاءنا في اوطاننا ونحن نمتلك قدرات لا يمكن توظيفها فيها، كنّا نبحث فقط عن الحرية وهوية الذات، لنعامل كبشر على السواء مع الاخرين من الاقوام، وهي علة ثوراتنا ضد الطغاة، كان رفع الظلم والحيف عن شعبنا الكوردي محور حركتي الشيخ محمود الحفيد والاب البارزاني، لم يكن مسموحاً لنا شراء الارض والبناء عليها في ارض كركوك، ارض اجدادنا التي تشهد عليها مقابرنا، او ان نسمي اولادنا بأسماء الاجداد، لم يكن مسموحاً كونها أسماء (اعجمية)! وكلما أطلقت جهة معينة بياناً قومياً تزعج القائد (المفدى)! كانت السلطة تلزمنا عجلات الشحن كالقطيع، تهيئاً للترحيل القسري مع مصادرة الممتلكات.
نحن باختصار ضحايا حكم الطغاة، وندفع اليوم ثمن الحرية. كان بقربي امرأة تحمل بطفلها المريض جداً وتبكي طلباً لإسعافه، وكان الطفل خار القوى وقد اسند راْسه الى صدر أمه وبيده قطعة بسكت توشك على السقوط، لم يلتفت اليها أحد من الحراس. اشتدت المناقشات مع الحرس اللذين أصروا على اخلاء القرية فوراً، والتوجه الى المنطقة الصحراوية التي تبعد بضع كيلومترات من القرية، ولكننا رفضنا الامر، وتحدثت مع الحرس بانفعال شديد وقلت لو رضينا بالعبودية لم تكن ترانا أمامك الْيَوْمَ! وللطرافة ومن شدة عصبيتي قلت لهم، الم تسمع مقولة الامام علي (رض): كيف تستعبدونهم وقد ولدتهم امهاتهم أحراراً؟ ونبهتني شقيقتي الى ان تلك مقولة عمر بن الخطاب (رض)، ويبدو بان احد أفراد الحرس انتبه لذلك، وجاء ليعنفني وطلب مني اسمي وامرني بالتوجه للصحراء فوراً، رفضت وقلت له بأننا لسنا اسرى حرب او رهائن ولا عبيد لديكم لكي نرضخ لأوامركم التعسفية و المجحفة بحقنا، وأنتم عديمو الرحمة والدين برآء منكم… ليكن ما يكن فلن احزن اكثر مما حزنت، تقدم مني احد الحراس وهمس في أذني باللغة الكوردية، انت تاج راسي وفداك روحي، ولقد قلت ما في صدورنا، نحن كورد ايران لا نجرؤ على قولها، انهم مجردون من الانسانية والرحمة، ويعاملون الكورد كمواطنين من الدرجة الثانية ونعاني من بطشهم، فَلَو توقفت في اي طابور لشراء حاجة ما، فان من حق الفارسي ان يتقدم الى اول الطابور، ولا يمكنك الاعتراض، لأننا مهمشين في هذه البلاد. طلب مني الحرس الكوردي ان اركن سيارتي في فناء بين جدارين قرب قفص للدجاج، داخل زقاق ضيق، ومضى هو سائرا امامي مرشدا اياي للمكان.
وبينما كان النقاش بين الأهالي والحرس مشتداً ومستعرا، تحركت بسرعة متبعاً ذلك الحارس الكوردي النبيل، وفعلاً كان هناك قفص بقربه حيّز ضيق ادخلت فيه سيارتي بالكاد، وطلب الحارس من النسوة التوجه الى دار شيخ الجامع حسام الدين، وبقيت أنا في سيارتي وبقي (ح ف) و(ح ع) في سيارتهم برأس الزقاق. كانت الساعة تشير الى منتصف الليل، تمددت في السيارة حيث كان زجاج السيارة قد غُطت بالتراب، وانا شارد الفكر، اتأمل مصير مئات العوائل والمرضى التي تنتظر مصيرها المجهول في حالة يرثى لها. متى سينجلي هذا الليل الطويل يا إلهي! سمعت صوتاً صارخاً من سماعات الجامع، اخرجت راسي من شباك السيارة وكان النداء يقضي بتجريم كل بيت يأوي عراقيين وخصوصاً عائلتي (ذكروها باسمي)!! حيث كانوا يعطون أوصافنا بدقة، ويبدو بان علينا دفع جزية الكلام الذي اعتبروه تأجيجاً لأهالي القرية الكوردية (قلقلة)… ثم رأيت جموع العساكر يتحركون في الأزقة، وجاءني اخواتي وهم يرتجفون خوفاً وهلعاً، وطلبوا مني ترك المكان فوراً، وسألتهم بخصوص الشيخ حسام الدين، قالوا بانه طلب منا البقاء ولو كلف ذلك حياته، ولكن اهلي لم يحرجوه، وشكروه على نبل موقفه، وكانوا قد تناولوا الطعام ثم توضؤا وصلوا في الجامع وجلبوا الخبز والجبن الأبيض…فَرِحت لوضعهم وشكرت الله كثيراً، ثم خرجنا من القرية بعد ان أخذ التعب والإرهاق منا الكثير الكثير. كنت أتمنى موتاً يقضي على كل تساؤلاتي وافكاري واحزاني، ومضينا في طريق مكسو بالحصى لمسافة عدة كيلومترات، ووصلنا بوابة المخيم، فتشنا الحرس في البوابة بدقة، استغرقت نصف ساعة ثم سمحوا لنا بالدخول. وكانت آلاف السيارات متراصة في صحراء واد مقفر، لَم نخرج من السيارة لشدة البرد وكنا على تلة صغيرة في الوادي الكبير، وشغلنا محرك السيارة لنتدفأ بحرارة المكيف الى الصباح.
في الصباح خرجنا من سياراتنا، وإذا بِنَا في سجن محاط بالأسيجة والأسلاك الشائكة، ويحوي عشرة مبان مبنية بالإسمنت للحرس، وقاعة كبيرة للسجن وغرفة للإعاشة، علمت بانها كانت سجناً للجنود العراقيين إبان الحرب العراقية الإيرانية يطلق عليها (اوردوگاي كاني دانيال)، ثم غيروا تسميتها الى مخيم سلمان الفارسي! أيا كانت التسمية فلا وجود للمرافق الصحية فيها ولا وجود للماء، فكيف تتدبر عشرات الالاف من اللاجئين امرها في هذه البقعة الصغيرة يا إلهي؟
بدأ (ح ف) برفقة بعض معارفه من السليمانية التقيناهم في المخيم، (ح خ) وأخوه و(س) والشيخ (ج) وزوجته (ه)، بدا الجميع البحث عن مكان مناسب ننصب به الخيم وتم اختيار تلة صغيرة، حفر (ح ف) من قمته مجرى بعرض30سم وعمق 20سم وانزلها الى حفرة اكبر واعمق بحوالي مترين أسفل التلة، وكانت الارض قوية، استخدم في الحفر معول صغير كان قد جلبه معه من السليمانية، لمعرفته المتطلبات من تجربته السابقة ابان مأساتهم في حلبجة، ولجوؤهم ايران في 1988، ثم غطى المسار والحفرة بالنايلون ورمى التراب على اطرافها، وثبت فِي راس المسار من اعلى التلة أربعة ركائز خشبية واحاطها ببطانية، في النهاية حصلنا على مرافق صحية! وعلمنا بان الحرس سيزودوننا الماء بالسيارات الحوضية، فجمعنا الأواني والأباريق التي لدينا بانتظار سيارة الماء الحوضية. ذهبنا الى غرف الحرس واخبرناهم بأننا فقدنا في المسير من باوة، شقيقتي وبيت خالتي ووالدتي اللذين كانوا مسجلين ضمن مجموعتنا، وأعلمونا بان الجميع هنا وعلينا البحث عنهم، وأذاعوا أسماء التائهين والمفقودين بمكبرات الصوت، وخرجت من المخيم مشياً على الأقدام لمسافة ستة كيلومترات للبحث عنهم، لم أجدهم وعند عودتي وجدتهم في المخيم، وتحدثنا كثيراً عن ما جرى لنا البارحة ليلاً، ثم التحقت زوجتي مع اختي الى خيمة الطبابة، لمعالجة اللاجئين المرضى، وتناقلت الأخبار بان الحرس بصدد اجراء جرد بأسمائنا وتخصصاتنا، وربما سيجدون لنا عملاً! هكذا كان يشاع. ثم تناقلت الناس خبراً مفاده ان الامم المتحدة أصدرت قراراً للحفاظ على حياة الكورد من الإبادة، واوعزت بإنشاء منطقة آمنه لهم في كوردستان العراق، هكذا كان الخبر يتناقل وسط عودة الأمل لقلوبنا. وهكذا بدأت صفحة المخيم الأسود، مخيم العذاب في حياتنا كنا نعيش كل لحظة فيها على أمل النجاة.
في الليل أشعل (ح ف) بعض الحطب وتجمعنا حولها، وبدأ أهلي شجارا عنيفا مع أهل نسيبي، إلهي كيف أتدبر هذا الامر! بدأت اتوسل بهم، لاستحكامهم العقل والمنطق والحُلم وتذكيرهم بما نحن عليه من سوء حال، دون جدوى، ويبدوا بان الاستماع لكل طرف دون تعليق يخفف وطأة الأزمة ويقلل التشنج، وهكذا أفرغ كل طرف ما لديه، ثم خلدوا للنوم في العراء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف فجرت حرب غزة جدل حرية التعبير في الجامعات الأمريكية؟ | ا


.. Amnesty Launches Annual Report on the State of Human Rights




.. وكالة -الأونروا- تنشر مشاهد للدمار في غزة في اليوم الـ 200 ل


.. بطلب من الأرجنتين.. الإنتربول يصدر نشرة حمراء لاعتقال وزير د




.. إسرائيل تستبق الاجتياح البري لرفح بإنشاء مناطق إنسانية لاستي