الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مونودراما.. الإسراء والمعراج.. عباس منعثر

عباس منعثر
شاعر وكاتب مسرحي عراقي

(Abbas Amnathar)

2021 / 9 / 22
الادب والفن


(كومة من النّفايات. الذّباب جوقات. المخلفات مائعة. الرّائحة نتنة. ثمة قطعة خشب مقوسة، صغيرة، فيها شروخ عديدة)
قطعة الخشب:
أين أنا؟ أيُعقلُ هذا؟ أنا هنا؟! مع هذه النّفاياتِ المقززة؟! في هذه البقعةِ البشعة؟ تطيرُ فوقي أسرابُ الذّباب، تعزفُ طنينَها المقرف؟! لا أصدّق!
(تبتعد عن الكومة)
آه.. رائحتي نتنة! تنخرُ جسدي الأرَضة! أف! إيهٍ أيتها النّفسُ الطّموحةُ التّي هوَتْ إلى أسفلِ سافلين! إيهٍ أيتها الحياةُ الغادرة! إيهٍ أيها الجهلُ الذّي يفتِكُ بالسّمو ويُحيلُهُ إلى حطام!
(تبحث عن قطعة قماش نظيفة وتبدأ بتنظيف نفسها)
أُنظّفُ نفسي بنفسي! (تتحسر) قبلَ سنوات، لم يكنْ شأني كذلك. كانت الخادماتُ المرحات، بقطعةِ حريرٍ، يُمسدنَ جسدي برقة، برفق وحنان. على مهلهنّ، يُلّطفنَ لَمْعتي من الغبار. أثناءَ الانحناء، يبينُ تفاحُ الصّدور: مشمشي، أبيض، أسمر، مُنّمش. وكنتُ أنظرُ إلى الأخدودِ بين النّهدين بلذةٍ وتلصص! يُدلكنني بالماءِ، والرّغوة تُدغدغُ روحي وتُنعّمُ جِلدي الصّقيل. آه! تلك أيامُ البابِ العالي!
(صوت باب ضخم يفتح)
البابُ العالي! كم من الوزراء، كم من الأُمراء، كم من النّبلاء، يقفونَ عندَهُ وقلوبُهم تخفقُ بالرّجاء. حينما يفتحونَ دُرفتي الباب، تبتهجُ القلوب. يا ما دخل النّاس مبتئسين وخرجوا فرحين مُهللين! يا ما دخل المرء مشمخر الأنفِ، مرفوعَ الجبين، واثقا من نفسِهِ، وخرج بلا رأس! كنتُ أتابعُ بحنان آمالَ النّاسِ وأحلامَهم وهي ترتعشُ قلقةً؛ وكنتُ أراقبُها وهيَ تتحطّم!
(صوت حيوانات بدائية)
قبلَ ذلك بآلاف السّنين.. أيامَ يزحفُ الإنسانُ على أربع ويغطي الشّعرُ وجهَهُ مثل قرد، كانت أمي أوّلَ شجرةٍ على سطحِ الأرض. جاءت من لا شيء. بقوةٍ غامضة، وبالحظِّ السّعيد وَجَدَتْ الماءَ والهواءَ والتّراب، فطلعتْ لها أغصانٌ وأوراقٌ وثمار. تحمّلت الثّلوجَ والشّموس، حتى احتطبَها أوّلُ حطّاب. حملوا أخشابَها من مكانٍ إلى مكان عبرَ الأزمنة، وفي نهايةِ المطاف، استقرّتْ في الباب العالي.
(صوت انهيار بنيان ضخم)
وانهارَ البابُ العالي. وقوعٌ مهيب. دماءٌ وضحايا. رمتْني الأقدارُ بعد العزِّ مع كومةٍ من الخشب. اختلطتُ بهم. إبائي يمنعُني من التّواصل. إنها أصعبُ أيامِ حياتي. أنا، في المكانِ نفسِهِ مع الخشبِ العادي! من جهة، ثلّةٌ من الخشبِ الجاهلِ المنحط؛ ومن جهةٍ أخرى فمُ التّنور. إنهم يقطعونَ الخشبَ إلى قطع، ويرمونه إلى النّار. أووه! نارٌ راعشةٌ مخيفة! فيتحولُ إلى جمر، يُطلِقُ آخرَ أنفاسِهِ ثم يخمدُ إلى رماد!
(صوت النّار، تنور يفور وقطع خشب تحترق)
لسببٍ أجهلُه، التّقطتْني يد. ربما لأنني أقدمُ قطعةِ خشبٍ في العالم، أو لأنني ابنة أسرةٍ عريقة، أو لأنني محظوظة، أخذوني حيثُ التّقيتُ بالقارِ والمساميرِ وآلافِ القطع الأخرى. عمالٌ مجتهدون، ينضحونَ عرقاً وحماسةً، يرتبوننا بانتظامٍ لنصبحَ جزءاً من سفينة.
(صوت باخرة، بحر، عباب وعواصف)
سفينةٌ ضخمةٌ، لها كبرياء. انتميتُ إلى مجموعةٍ من قطعِ الخشبِ الصّلدةِ القويةِ المغامرة. ذهبْنا في رحلاتٍ طويلة، مع العواصفِ العاتيةِ والأمواجِ الهائلةِ والأمطار. في البحار، في المحيطات، في الأعالي. كان الملحُ يتخللُ مساماتي وكنتُ أنظرُ إلى الحيتان تلتهم، وأرى أسماكَ القرشِ تفترسُ، بينما الشّعاب المرجانية ترقص مع الأمواج.. عالمٌ ساحرٌ اكتشفتُه وعشقتُه وانتميتُ إليه.
(صوت قراصنة صاخبين)
احتلَّ دفّةَ القيادةِ تارةً القبطانُ الوسيمُ الماهر، وتارةً قراصنةٌ يطاردُهم الخوفُ وتحدوهم المغامرات. كثيراً ما مررنا بجبالِ الثّلجِ الغائرةِ تحتَ الماء واصطدمنا بها، كثيراً ما مررنا بجزرٍ لم يطأها إنسان. في الختام، تعبتْ السّفينة. تحطمتْ مقدمتُها وتهرأتْ صاريتُها. لم ينفعْ فيها تطبيبٌ ولا علاج. تدرّجتْ سفينتُنا من سفينةِ السّفن، إلى أقدمِ سفينة، إلى سفينةٍ هرمةٍ إلى سفينةٍ محطمة في ميناءٍ مُهمل. تحوّلتْ بعدَ ذلك إلى قواربَ صغيرةٍ ترقدُ على ضفافِ الأنهار، أو إلى حطبٍ في ليالي الشّتاء. وبينما نالتْ رفيقاتي الأخرياتُ مصيراً مؤلماً، التقطتْني يد!
(صوت عمل يدوي)
إنها يدُ صانعِ الأعواد.. أزالَ عنّي الملح. قشّرني، رشّقني، جعلَ جسدي صقيلاً من جديد، وأعاد ذاكرتي إلى الباب العالي. بمهارةٍ طوّعني. بحسّهِ النّادرِ عرفَ مكاني، قوّسني لصقاً بقطعةِ خشبٍ أخرى. صرتُ مثل راقصة الباليه.. خفيفةً جداً.. رشيقةً جداً، ممشوقةَ القوام. لم أرقد طويلاً عندَ صانعِ الأعواد. بعد أن ثبّتَ الأوتارَ ودوزنَها، بقيتُ أتنقلُ من يدٍ إلى أخرى. من مسمارٍ مُعلّقٍ على حائط، إلى فوق المنضدة، إلى الأرض. طنينُ الأوتار مزعجٌ في البدء، ويُصبحُ أجملَ وأجملَ كلّما تشرّبتُ بالنّغم. سمّارٌ كثيرونَ ترنموا، وفي الأخير، وقعتُ بين يديه!
(صوت آلة العود)
لهُ روحُ فنانٍ حقيقي. إنهُ رقيقٌ، شفّافٌ ووحيد. عند منتصفِ اللّيل، يتغنى بكلماتٍ مُشجيةٍ حزينةٍ مؤلمةٍ صادقة. سيكاه، نهاوند، حجاز. وإلى أن يجدَ النّغمة المناسبة كانت أحلامُهُ تسيحُ مع النّغم. كلّ ترنيمة ترفرفُ، تتفجعُ، أو ترقصُ بإحساسٍ عميق. كان العودُ يبكي حينما يتركُهُ الفنانُ فترةً أطول مما يجبُ بسببِ مرضِهِ المُزمن. حالما يعودُ من العنايةِ المركّزة، يُسرعُ إلى الأوتار، يحضنُني. يكونَ جائعاً، تنتقلُ أصابعُهُ على السّلالمِ الموسيقيةِ ويزدادُ حضنُهُ دفئاً لا يوصف.
(صوت أنخاب)
في ذروةِ نشوتِه، تنادمُهُ الخمرة. شيئان في هذا العالمِ لا يستغني عنهما: الموسيقى والخمر. يتألقُ نشوةً من كأسِهِ أو عودِهِ، نتألقُ سكراً أنا والأوتار. لم يُتاجرْ بنفسِهِ في الملاهي ولا رخّصني في الجلساتِ الخاصةِ الصّاخبة. لم يتزلّفْ لسلطان، لم يكترثْ بالمال، ولم يشعرْ بالنّقصِ تجاهَ أحد. كان مكتملاً بذاتِهِ وعجزِهِ ومرضِه.
(صوت مخيف لأقدام قادمة)
في ليلةٍ مظلمة، باردة، دخلَ عليه رجالٌ غرباء. لم أتعرّفْ عليهم ولا ماذا يُريدون. لم يحدثْ بينهم وبين الفنانِ مشاجرةٌ ولا مقاومةٌ ولا كلام. باغتوه! كمّموه! وأوغلوا في صدرِهِ طعناتٍ دامية! أمسكَ أحدُهم بالعود. بَصَقَ عليه. وظلَّ يضربُ به الأرضَ بحقدٍ دفين، حتى تناثرَ إلى قطع صغيرة.
(صوت تكسر خشب)
مثل مخلّفاتِ المرحومِ الأخرى، رمونا في النّفايات. كُسرتُ من.. أسفل ومن.. أعلى. شرخٌ كبيرٌ هنا وهنا.. هبطتُ من كبريائي العاليةِ أيامَ البابِ العالي و السّفينةِ والعود إلى إحساسٍ مبهمٍ، غريبٍ وموحش.. شعرتُ بالخزي.. أنا بكلّ تاريخي مجردُ قطعةِ خشب، قطعةِ خشب، قطعةِ خشب!
(صوت منشار كهربائي)
بدلَ أن يتغنى بي الفنانونَ وتُقامَ الاحتفالاتُ لأجلي، بدلَ أن يكتبَ الشّعراءُ مدائحَ لي، بدلَ أن ينحتوا لي نصباً تذكارياً، بدلَ أن يكون السّواحُ طوابيرَ، طوابيرَ إلى ما لا نهاية.. ها أنا شيءٌ تافهٌ، زائدٌ تأكلُهُ الأرضة.
(تنهار قطعة الخشب على كومة النّفاية)

آه! الفناءُ خاتمةُ جميعِ الرّحلات!

(من جهة اليسار ترجع شاحنة حمل القمامة إلى الوراء حتى يظهر نصفها. من جهة اليمين يدخل تراكتور ويحمل النّفايات بضمنها قطعة الخشب. يقلبها في الشّاحنة ثم يحمل بقية النّفايات شبه المائعة ويقلبها فوق الكومة الأولى. في وقت واحد، يتحرك التّراكتور إلى الخلف وتتحرك الشّاحنة إلى الأمام ويختفيان. هنا يحلّ الختام)
.....................................
نشر هذا النص ضمن كتاب (مونو) (دار المتن، بغداد 2016) ضمن 8 مسرحيات مونودرامية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني


.. بعد فيديو البصق.. شمس الكويتية ممنوعة من الغناء في العراق




.. صباح العربية | بصوته الرائع.. الفنان الفلسطيني معن رباع يبدع


.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر




.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته