الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مونودراما.. 1890..

عباس منعثر
شاعر وكاتب مسرحي عراقي

(Abbas Amnathar)

2021 / 9 / 23
الادب والفن


(غرفة صغيرة، ينيرها مصدر ضوء شاحب. في المنتصف منضدة تنتصب عليها قنينة شراب، وقدح ومقبلات وشفرة حلاقة ومسدس ونسخة من الإنجيل وعدة الكتابة. على يمين الغرفة سرير، وعلى يسارها مسند لوحة، وأدوات الرسم. في الجهة المقابلة للمنضدة يقع الباب الرّئيسي واسعاً وكبيرا. من جهة اليمين شباك مربع الشّكل، ينفتح على منظر جبليّ. فان كوخ يرسم، يذهب إلى النّافذة ويشرب أثناء مراقبته للباب بين وقت وآخر.. لقد وصل إلى مرحلة من الثّمالة بحيث يظنّ أن الأشياء التي من حوله تتحدث إليه)

حالة رقم1
فان كوخ:
(يمسك بالكأس ويشرب)
لحظة وتأتي.. سنرقص؛ أو تعتذرُ عن المجيء. أُكملُ اللوحة، وستندهِش. كُفّي ارتعاشاً يا أصابعي! تنتظرُ على أعصابِكَ خبراً؟ لا تبتئس. على الأقلّ، رميتَ الشِّباكَ إلى النّهر؛ ولمْ تنتظرْ رأفةَ السّمك! أصبحَ الافتراضُ عالمي بسببِها، صارَ إدمانا. لا يرتجفُ الفرحُ إلا حينَ تطُل عليّ. عرفتُ من خلالِها السّرور، السّرور. إذا كانَ هذا وهماً، فسأراجعُ كياني هل أنا أثيرٌ أم موجة؟!

حالة رقم 2
(يقلّب شفرة الحلاقة بين يديه)
إياكَ أن تطمئنَّ إليها. قد ترميكَ إلى الهوةِ إنْ لمْ تمتلِكْ الحصافة. ستُغريكَ بالكسلِ، الكسلِ الذّي يصنعُ عندليباً من ريشِكَ، ومضخّةً من قلبِكْ. آكلو البطاطا يقطنونَ البيت الأصفر، يتعاطونَ الخشخاش، وهم يسيرونَ في شارعِ السّرو، عند بوابةِ الخلود، بينما الغروب في مونماجور يسطعُ مثل ليلةِ النّجوم، وليسَ في قنديلِكَ إلا الظّلامْ.

حالة رقم 3
(يبدأ بالتخطيط للوحة فتاة عارية)
شَعرُها يُمسّدُ يدي، يتخللُ شَغَفي، ويُخفي بينَ طياتِهِ أنفاسَ الملكةْ.. مِنَ شعرِها تخرجُ عقاربٌ تلدَغُني في القلبِ، في الذّاكرة، ثُـمّ تحنو عليّ وتهجرُني إلى أنيابِ الزّوال. عيناها تنوحانِ، تتسعانِ كُلّما حاولتُ أنْ أراهُما كاملتينْ. تُهيئانِ الفخاخَ ورائي لتصطادا ما مضى من عمري. مِنَ العينينِ تطلعُ طحالبُ وتسحبُني إلى حافّةِ الرّعبْ. الشّفتانِ، الشّفتان تُقبّلانِ بعضَهُما مِنَ الجانبين وتتركانِ لبياضِ الأسنانِ أَن يلتهِم. الشّفةُ العُليا تتقوسُ بغرورٍ والشّفةُ السّفلى تتمددُ لاستقبالِ القُبَل. مِنَ الشّفتينِ تبرزُ شفاهٌ تسخرُ مِنْ حضوري بعدَ فواتِ الأوان. الوجهُ يحملُ كلَّ هذا ولا ينهارْ! إنـّـهُ يَشِّعُّ، يَشِّع. الخدُّ يسرِقُ من آخرِ النّهارِ حُمرتَهُ، الأنفُ يخطفُ من أثينا تماثيلَها، وطرفُ الفمِ يكادُ يقفزُ كضفدع. الشّهوةُ تتكئُ على الحائط، وأنا أَتكئُ على الحائط، و الزّمنُ، كلُّ الزّمن، يتكئُ على أوجاعِهِ ويبكي.

حالة رقم 4
(يحشو المسدس بالرّصاص)
حرّرْها منكَ، حتى تتحررَ منها. عتقْها كي يكونَ طعمُها بنكهةِ النبيذ: لاذعاً ومؤلماً. روّضْها عن التّبذيرِ وإلا أفلستْ خزائنُك. إنْ تَعَجّلَ الجنينُ الحياةَ؛ عاجلتْهُ الحياةُ بالرّحيل! إنْ احتوتْ عيناكَ الجبلَ؛ فهو أكبرُ منهما! وإنْ ذرفتَ كثيراً مِنَ الفيء؛ فستقضي الشّمسُ على ما تبقى!

حالة رقم 5
(يترك المسدس على المنضدة ويلتقط عدة الكتابة)
أخي العزيز: أفكّرُ جدياً في الانسحابِ عن العالم؛ فالتّأمّلُ يُحضّرُ مائدتي في الرّكنِ المُنزوي. أمّا أتوغلُ في بحرٍ ولا أعرفُ أبجدياتِ السّباحة؛ أو أرجِعُ إلى يابسةٍ لم تعدْ تُشعرني بالابتهاج.. التّيهُ مثواكِ أو الصّحراء يا قدمي. ليسَ معي من الزّادِ ما يكفي حينَ أتيه.

حالة رقم 6
(يترك الكتابة ويتجرع كأساً أخرى)
المرآةُ الهشّةُ الضّعيفةُ المُزينةُ بالألوانِ والفرحِ تُريدني أنْ أوجّهَ إليها بَوْحي وآلامي! كم أنتِ واهمة! كنتُ أُطاردُ العصافيرَ أيتها المسكينة وبيدي حصاة! هل أقطعَ أُذُني!

حالة رقم 7
(يتصفح الإنجيل ويمزقه في نهاية كلامه)
بفعلِ الاستمراريةِ نندفعُ ضدّ التّيارِ أو معه؛ لا ندري كيفَ سينُظرُ إلينا حينما نصبحُ ماضياً. جنون، جنون، جنون. قد يُعيدُنا الضّوءُ من النّسيان إلى الذّاكرة؛ وقد يُنزلنا عن العرشِ الذّي كنّا نعتليه، ربما طواحين الهواء ما كنا نحاربُ، ربما وهماً ما أهدرنا العمرَ من أجلِه، وفي لحظةٍ تُعشعشُ العناكبُ على وجودِنا.. عقل، عقل، عقل. مَن لا تُرعبهُ النّظرةُ إليهِ بعدَ فنائه؟ أيها المستقبل ماذا تُخبّئ؟ نوبةٌ، نوبةٌ جديدةٌ، نوبةٌ قاتلة. نحن سجناءُ الظّنون. تُحيطُنا قضبانٌ ضخمةٌ، نطاردُ وحدتَنا بالصّداقات والجوع إلى المحبة.. عاطفيون، حالمون وعراة. لم يعطِنا الزّمنُ فرصةً لنعيشَ الحياة، لقد شاهدناها كما لو في كابوس! كابوس، كابوس، كابوس. نلهثُ من أجل أن نعوّضَ ما فات. ابتساماتُنا لا أبَ لها سوى التمثيل. مباهجُنا ينقصُها فرحُ القلب. طَبَعَتْ خطواتُنا على الرّملِ أوهاماً تفتكُ بالأمل. تَحمِلُنا العواصفُ إلى محطاتٍ لم نقصدْها، وحينما نعودُ؛ لن يكونَ هناكَ من يستقبلُنا، سوى الزّمنُ يطوي الصّفحةَ الأخيرة. رصاصة، رصاصة في الصدر. اللبلاب. (يمزق الإنجيل) السّماءُ وهم وهم وهم.

حالة رقم 8
(يفرغ قنينة الشّراب في جوفه)
ما يبدأُ ينتهي. أكنتَ محظوظاً أيها المهووسُ بالحجرِ والنّاس؟ طرقتَ بابَ الدّين، لم يُفتح لكَ. الفنُّ خدينُكَ الوحيد. ستكتشفُ، حينَ يدنو منكَ القبر، الخطأَ الفادحَ الذّي ارتكبتَه، يا عبدَ اللونِ يا كثيرَ الأغلال. تنغمرُ في الهلاكِ الأبدي، وحدَكَ، مُحاطاً بعواءٍ لا صوتَ له.

حالة رقم 9
(يعود إلى إكمال اللوحة بهوس)
أنا جزيرةٌ نائية. لا أنظرُ إلا إلى النّصفِ الفارغِ من الكأس.. نقوشي في الدّاخلِ لا تتناسقُ مع ألواني في الخارج. الكسلُ لذّتي الكبرى. يسخرُ الزّمنُ من أكثر المخادعينَ خداعاً.. في اللحظةِ الرّاهنةِ يُشعرني أنني خالد.. يجعلُني أنظرُ بعينِ العطفِ على الذين غادرونا واستقرّوا في التّراب.. وكأنني لن أتبعَهم.. وما هي إلا أيام وأحتلّ مكانَهم .. تماماً مثلما سينظرُ إلي مَنْ سيتبعُني.. وتدورُ الدّورةُ من جديد، وسيجدُ الزّمنُ مخدوعينَ جدداً تنطلي عليهم الحيلةُ نفسُها.. الإنسانُ حيوانٌ مخدوعٌ بالزّمن.. ناطقاً كانَ أو أخرس. ليسَ ذنبي أنكَ لا ترى؛ كانَ حبرُ روحي أبيضَ وورقتي بيضاء!

حالة رقم 10
(يمسك بشفرة الحلاقة وببطء يقطع أذنه)
أحررُ نفسي من الماضي، من هفواتي وحماقاتي. أثقبُ نفسي فيتسربُ البغضُ والحقدُ والكراهية. أسامحُ كلّ من آلمني في الصّميم، وأزيلُ أورامَ الغدرِ والسّخريةِ والاحتقار. أصفحُ عن نفسي وأشملُ بالصّفحِ أعدائي، أمدّ لهم يدي. الآن نقطةُ الشّروع، وكأنني أُولدُ من جديد.

حالة رقم 11
(يلف أذنه بقطعة قماش بيضاء)
عصفورٌ يُغري المصيدة، يُرفرفُ فوقَها، يقتربُ منها، وينقر. تلفيقٌ، تلفيق. كلّما ابتعدَ العصفورُ حرّكت المصيدةُ مروحتَها فيعود. قد تصطادُه في وقتِ فراغِها. لكن ليسَ الآن. هي مشغولةٌ عنهُ بصيدٍ أكبر. أما هو فلا يملِكُ سوى أن يحتضنَها، ليتخلّصَ من الأعباء، لينقذَ روحَهُ من الضّياع؛ وليكنْ موتاً أو لذّةً ساعةَ انطباقِ المصيدةِ على رقبتِه!

حالة رقم 12
(يحمل المسدس)
صوتُها قريب، أحسّه يهمسُ: تعالَ ساعدْني، إنني اسقطُ في الهاوية. يدُها قريبةٌ، تُمسكُ يدي. وجوهٌ عديةٌ تتقنّعُ بوجهي: وجهٌ كالحٌ، قاسٍ ومتمرد.. وجهٌ أنانيّ، لا يُحسُّ بي.. وجهٌ بعيدٌ غامضٌ غير قادرٍ على المحبة.. وجهُ صديقٍ غادر.. وجهُ المرض.. وجهُ أخيكَ العطوف.. وجهُ الألم.. وجهُ الوحدة.. وجهُ الجنون.. غير أنّ الوجوهَ جميعها لن تأتي. هي كذلك لن تأتي.. ولن نرقص، لن نرقص، لن!

(يفتح الشّباك. يدلق الأصباغ. يمزق اللوحة. يقلب الطّاولة. يفتح الباب ويخرج.. لحظات ونسمع صوت إطلاقة بعيدة)
.......................................
نشر هذا النص في كتاب (مونو) (دار المتن، بغداد 2016) الذي تضمن 8 مسرحيات مونودرامية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا