الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مونودراما.. فارماكوس.. عباس منعثر

عباس منعثر
شاعر وكاتب مسرحي عراقي

(Abbas Amnathar)

2021 / 9 / 24
الادب والفن


(امرأة، وسرير يتمدد عليه رجل مشلول لا نراه)
المرأة:
ليسَ لكَ حق، يا حبيبي. مرّ يومانِ ولم تضعْ عينكَ في عيني! آتيكَ بالطّعام، تتركهُ حيثُ هو! يومانِ لم تذُقْ لقمةً واحدة؟ أنت ضعيفٌ تحتاج إلى طعام. لنفرضْ إنكَ غيرُ راضٍ عني، أنت حر؛ لكن ما ذنبُكَ تُعاقبُ نفسَكَ حين ارتكبُ أنا الخطأ. آه، حتى أنت! ألا يكفي عذابي حتى تُضيفَ عذاباً جديداً إليّ؟!
(تراقبهُ وهو يدير ظهره لها)
تُديرُ ظهرَك؟ من حقِّكَ أن تفعلَ ما تفعل، فأنتَ مثلَ الحياة، لم تعطِني وجهَها أبداً! عافَني الجميعُ أواجهُ مصيري في هذا العالم. والعالمُ لا يكترث. العالمُ لا قلبَ له ليكترثَ بإنسان؛ إلى أن يُصبحَ رقماً.. رقماً مهماً، حينها ستلتفتُ الرّقابُ وتنحني الرّؤوس. أنا لستُ رقماً، وأنتَ كذلك، لذا لا يلتفتُ إلينا العالمُ، ونُترَكُ في العراء.
(تراقبهُ وهو يتحرك)
سأشرحُ لك الأمرَ بالتفصيل. إذا اقتنعتَ كان بها؛ إذا لم تقتنعْ، نُلغي الموضوع. ها؟ كُلْ لقمة، لقمةً واحدة. هيا حبيبي.. (بغضب) أعرفُك، تفرحُ دائماً حين أتألم.. لطالما تُسقِطُ نفسَكَ من السّرير كي ينخلعَ قلبي، تُحرقُ ثوبي الجديدَ كي تقتلَني الحسرة، وتجرحُ نفسَكَ، كي ترى دموعي.. القسوةُ ليستْ جديدةً عليك..
(صمت طويل)
طيّب، إذا لم تقتنعْ؛ ضعْ لقمةً في فمِك. وإذا وافقتَ على كلامي؛ اشرب الماء. ما رأيك! كوبُ ماءٍ إذا موافق، ولقمةٌ إذا غير موافق! ها؟ اتفقنا؟!
(تراقبهُ وهو يشرب الماء، تشعّ من عينيها سعادة غامضة)
حسناً. سأحكي لكَ عن امرأة. ركضتْ خلفَ أحلامِها ناسيةً نفسَها، وحينَ خلا الدّرب، عرفتْ ما يعنيهِ اللّيل، وعرفتْ ما تعنيهِ الوحدة. فعادتْ إلى رشدِها.. تفكّرُ في طريقٍ للخلاص.. سأحكي لكَ عن امرأةٍ في عمري. أمامها ثلاثةُ دروب. هي حائرةٌ لا تدري أيّ دربٍ تسلك. تريدُ سماعَ القصة، ها؟
(تراقبهُ وهو يشرب الماء)
الدّربُ الأول، يا عزيزي.. مِنْ أين أبدأ؟ ها! هي.. لم ترَهُ. ولا تدري إن كان قد رآها. قد يكون رآها، لكنّهُ لم يرَها. أعني أنها لم تجذبْ انتباهَه. تعرف الرّجالَ يبحثونَ عن الجمال في الجسد والملامح. هي ليستْ جميلة، ولا تُلفتُ إنتباه أحد.
(تراقبهُ وهو يأكل لقمة)
تصوّرْ هذا الدّربَ رجلا.. في الأربعين. مرَّ بحياةٍ عصيبة. هي تحبُّ الرّجل الذّي مرّ بحياةٍ عصيبة. لن يكون رخواً. سيحميها. تعرّضَ لحادث بَتر ساقَهُ، وحرمَهُ إحدى عينيه. يبقى مع ذلك رجلاً. أليسَ كذلك؟
(تراقبهُ وهو يأكل لقمة)
هي أيضاً لم تقتنع به. أبعدَ الحرمانِ تقترنُ بحرمان؟ كانوا طوابيرَ عند بابِ بيتِها. وكانت ترفضُهم الواحدَ تلو الآخر. ظلّ عددُهم يتناقصُ حتى فتحتْ البابَ ذاتَ صباح ولم يكن هناك احد. كلّما تفتحُ البابَ في اللّيل عند الغروب في المساء مع الفجر.. لم يكنْ هناكَ أحد. وحينما تظنُّ البابَ يُطرق، تسخرُ منها الرّيحُ ولم يكن هناك احد.. تسمعُ نباحَ كلابٍ بعيدة، لم يكن هناك أحد. تسمعُ صراخَ أطفالٍ ذاهبينَ إلى المدارس، لم يكن هناك أحد. حتى في البيت تتحدثُ إلى، إلى لا أحد. لكنّ الدّرب الثّاني قد يكونُ أفضل، توافقني؟
(تراقبهُ وهو يأكل لقمة)
أم أسوأ؟
(تراقبهُ وهو يشرب الماء)
الدّربُ الثّاني دربٌ قديم. هو رجلٌ يناهز.. يناهزُ السّبعين. ناضج. سيكونُ لها أباً.. أباً حنوناً فقدتْهُ في ليلةٍ ما.
(تراقبهُ وهو يأكل لقمة)
طوالَ عمرِها وهي تزرعُ ليأكلَ غيرُها. جسدُها لم ينلْ منها سوى الإهمال. تمددُهُ على البلاطِ العاري، تُعرّضُهُ للشمسِ الحارقة، وتُغرقُهُ بالإنهاك. لا يرتاحُ إلا مع الإعياء. تنامُ كالموتى. ليلُها سهدٌ متواصلٌ، ونهارُها كدٌّ ومشقة.. وكانت السّنينُ تجري. وصارتْ عروقُ يدِها تبرز. كم تخافُ من الزّمن، إنّهُ وحش. مهما يكنْ، مازالَ يخفقُ في داخلِها قلب.. قلبٌ صغيرٌ ورقيقٌ كخدِّ طفلٍ رضيع.
(تراقبهُ وهو يشرب الماء)
دلّها إذن! هي حائرة وضائعة. تكلّمْ لماذا هذا الصّمت! الأول أم الثّاني؟
(تراقبهُ وهو يأكل لقمة)
الأول أم الثّاني؟
(تراقبهُ وهو يأكل لقمة)
ترفضُ؟
(تراقبهُ وهو يشرب الماء)
أو تنتظر؟
(تراقبهُ وهو يأكل لقمة)
تنتظرُ من؟ الدّربَ الأخضر؟ وهل هناك دربٌ أخضر؟ هل هناك طريقٌ آمِن؟ لابدَّ من كلابٍ أو ذئاب.. لابدّ من خوفٍ ظاهرٍ أو مُختبئ.. لابدّ من مجهولٍ يرعبُها، وظلامٍ يلتهمُ بياضَ قلبِها! أينَ أنتَ أيها الأمل، لماذا لا تطرقُ بابي، ضللتَ الطّريق؟ إنك عصفور.. طارَ..إلى البعيد.. ولم ينظرْ إليّ على الأرض ولا التفتَ إلى ندائي أبداً..
(تراقبهُ وهو يأكل لقمة)
تنتظرُ من؟ شاباً جميلاً؟ اللّه! شاب جميل! ليسَ شرطاً أن يكونَ شاباً جميلا. شاب فقط؛ ولا أن يكونَ شاباً؛ بل يكفي أن يكونَ رجلاً. غني؛ ليسَ شرطا أن يكونَ غنياً؛ نصف غني؛ بل عادي، مثلنا. لا يملكُ إلا قوتَ يومِه. المهمّ إنسانٌ حنون. يحبُّها. ليسَ شرطاً أن يحبّها، بل يقبلُها، يعترفُ بها كإنسان.. وتعيشُ معه. تُنجبُ أطفالاً سبعة. بل اثنان. ولد وبنت. أو ولد فقط. تريدُ أن تجدَ حضناً دافئاً يقيها من الزّمن!
(تراقبهُ وهو يأكل لقمة)
ها؟ ما رأيك؟ هل تختارُ الدّرب الثالث؟ الأخضر الذّي قد يؤدي أو.. لا يؤدي؟
(تراقبهُ وهو يأكل لقمة)
أتعتقدُ أنها ستعثرُ عليه؟ وتعيشُ كالآخرين؟! وتصبحُ إمرأةً ولو لمرّةٍ واحدة في حياتِها؟!
(تراقبهُ وهو يأكل لقمة)
ها؟ يا شقي! ماذا تقول، هل تسلكُ الدّربَ الأول؟
(تراقبهُ وهو يأكل لقمة)
طيب. الثّاني؟!
(تراقبهُ وهو يأكل لقمة)
الثالث؟!
(تراقبهُ وهو يأكل لقمة)
إنّكَ تأكلُ لحمي. ترفضُ الدّروبَ جميعاً؟! هذا يعني.. توصدُ الباب، إلى الأبد! تعيشُ حرّةً من نوازعِها. تنسى أنها إنسان. تتخلّصُ من رغباتِ جسدِها! تَلبسُ روحَها مثلَ الثيابِ القديمةِ وتخلعُها حينما تريد! تفقدُ الأمل؟! إشربِ الماءَ أرجوك.
(تراقبهُ وهو يأكل آخر لقمة في الماعون)
الكوبُ خالٍ، والماعون فارغٌ جداً!
(صمت.. ثمّ تزقزق العصافير إيذاناً بالصّباح)
لقد طلَّ يومٌ جديد!
(إنتهت)
.......................
* فارماكوس: هو كبش الفداء البشري في المعتقدات الإغريقية القديمة.
* * نشر هذا النص في كتاب (مونو) (دار المتن، بغداد 2016) الذي تضمن 8 مسرحيات مونودرامية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال


.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81




.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما