الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل الشمولية الإلكترونية هو الخطر القادم؟

رابح لونيسي
أكاديمي

(Rabah Lounici)

2021 / 9 / 24
مواضيع وابحاث سياسية


عرفت علاقة السلطة بالرقابة نقاشا واسعا بين الفلاسفة والمفكرين، ويعد الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو من أبرز المفكرين الذين تناولوا مسألة السلطة والرقابة من خلال عدة كتب له حول السجون والمستشفيات والتنظيمات الإدارية وتطور العلوم في الجامعات وغيرها ممن يراها أدوات للرقابة، فهو يرى أن كل هذه التطورات التنظيمية هدفها تمتين مراقبة السلطة للمواطن، فلنتساءل كيف سيكون موقف فوكو لو عاش هذا التطور التكنولوجي الكبير اليوم في تكنولوجيا الإتصالات أين نجد كاميرات مراقبة في الشوارع وفي كل مكان، إضافة إلى توصل هذه التكنولوجيا إلى القدرة على مراقبة المواطن حتى في حياته اليومية وفي كل إتصالاته ومكالماته وتحركاته، ولانعلم إلى أين سيصل هذا التطور الذي يثبت لنا مرة أخرى أن الكون والطبيعة تحتوي على إمكانيات تسجيل كل تحركاتنا وأقوالنا وكل ما نقوم به، لأن هذا التطور التكنولوجي نابع أصلا من إستغلال ما هو موجود في الطبيعة والكون والإنسان كما قال ديكارت منذأكثر من خمسة قرون عندما طالب بالإنتقال من الإهتمام بالنقاشات الدينية والميتافيزقيا وبما وراء الطبيهة إلى الإهتمام بإكتشاف قوانين الطبيعة والكون، فأشار أنه بإمكاننا أن نحول إكتشافاتنا العلمية في الطبيعة والكون إلى تكنولوجيا نوظفها في حياتنا اليومية، فكان إختراع آلات التصوير على سبيل المثال لاالحصر نابع من معرفتنا بكيفية عمل عين الإنسان، وهو ما ينطبق على أغلب الإختراعات التكنولوجية إن لم نقل كلها، وهو ما يثبت مقولة الكيميائي الفرنسي لافوازييه ب"أنه لاشيء نخلقه"، أي بتعبير آخر كل ما نخترعه من آلات وغيره هو موجود مبدئيا في الطبيعة والكون والإنسان.
ويعد الفرنسي جاك آتالي Jacques Attali من المفكرين الذين حاولوا تصوير حياة الإنسان مستقبلا من خلال تطور تكنولوجيا الإتصالات، وقال في كتابه "الإنسان المرتحل" الذي ألفه عام2003 بأن الإنسان سيتحول إلى حياة الرحل من جديد بدل الإستقرار وإمكانية تسييره المؤسسات وكل شؤونه عن بعد، وهو في ترحال يومي، كما تحدث آتالي عن عدة أمور ستغير حياة هذا الإنسان بحكم هذا التطور، مما جعله يطلق على كتاب شهير له "التاريخ المختصر للمستقبل" الذي نشره في 2007، ويحدد فيه التطورات المستقبلية للمجتمع الإنساني في عدة مجالات في الخمسين سنة القادمة، وينطلق في ذلك من عاملين وهما: تطور تكنولوجيا الإتصالات وقوانين التطور الرأسمالي الذي أستخرجها من تتبع تاريخها، وخص لهذا لتطور حوالي 100صفحة من كتابه، كما لا ننسى الإشارة إلى الكتاب الرائع في الموضوع "المستقبل- ست محركات لتغيير العالم-" الذي ألفه الأمريكي آل غور Al Gore في2013، والذي كان نائبا للرئيس بيل كلينتون ثم مرشحا للرئاسيات الأمريكية، والمعروف بدفاعه المستميت عن البيئة .
كما تحدث آخرون عن إمكانية العودة من جديد إلى الديمقراطية المباشرة التي عرفتها أثينا بدل الديمقراطية التمثيلية، فبحكم تطور تكنولوجيا الإتصالات بإمكان أي مواطن ان يناقش اليوم بواسطة الأنترنات ومواقع التواصل الإجتماعي القضايا الخاصة بمنطقته أو وطنه، بل حتى قضايا دولية، ووصلنا إلى مرحلة التصويت الإلكتروني، وهو ما سيسمح لكل مواطن الدلو برأيه وممارسة الرقابة والنقاش للقضايا العامة المطروحة ولكل القوانين التي تطرحها السلطة التنفيذية، فبدل النقاش في المجالس التمثيلية سيتم النقاش علنا ومن كل مواطن يريد ذلك عبر الأنترنات ثم إخضاع القانون أو القرار إلى التصويت الإلكتروني بدل ما يتم حصر التصويت في المجالس التمثيلية التي ستفقد أي قيمة لها مستقبلا، هذا يعد أمرا إيجابيا، لكن بالنسبة للأنظمة المؤمنة فعلا بالحريات والديمقراطية، لكن لم يتطرق أي أحد إلى خطورة وقوع كل هذه الآلات الإلكترونية الرقابية في أيدي أعداء الحريات والديمقراطية وفي حالة وصول أيديولوجيات شمولية إلى السلطة، فلنتصور لو هذه الآلات الإلكترونية وكل هذا التطور التكنولوجي الهائل للإتصالات قد وقع في عهد النازية الهتلرية أو الفاشية، فهل كان بإمكان مواجهتهما، وهو ما ينبهنا من الآن من أجل ما كنا ندعو له دائما هو عدم ترك وصول أي يمين متطرف أو أيديولوجيات شمولية إلى السلطة ليس فقط لأنها ستحول العالم إلى ميدان حروب، بل لأنه من الصعب جدا، بل من المستحيل إسقاطها والتخلص منها بحكم وقوع آلات الرقابة الإلكترونية وكل أدوات تكنولوجيا الإتصالات الجديدة في يد هذه الأنظمة الشمولية التي ستحولها إلى أدوات تراقب بها أنفاس كل مواطن في بيته وفي كل مكان يقيم فيه.
لعل البعض يرى أن هذا التطور الكبير لتكنولوجيا الإتصالات قد حرر الإنسان، وجعله بإمكانه مواجهة الطبقات السائدة، ويستندون البعض في منطقتنا على ما سمي ب"الربيع العربي" الذي لعبت فيه مواقع التواصل الإجتماعي دورا كبيرا في إسقاط أنظمة، ان ما يقولونه صحيح نسبيا، وقد وقع ذلك في حالة غفلة من هذه الأنظمة التي لم تول أهمية لمواقع التواصل الإجتماعي بحكم ذهنيتها القديمة، لكن استدركت الأمر فيما بعد وبسرعة، فوجهت كل هذه تكنولوجيات الإتصال الجديدة ضد شعوبها ولخدمة مصالحها بحكم تحكمها فيها، ألم يعلم هؤلاء المتبجحين بدور مواقع التواصل الإجتماعي في إسقاط الأنظمة بأن ما يسمونه ب"الربيع العربي" قد تحول إلى خريف دموي بحكم مواقع التواصل الإجتماعي أيضا حيث تم إستغلال نفسيات شعوب المنطقة التي لم تتخلص من عصبياتها القبلية والطائفية والدينية واللسانية والجهوية وغيرها، فأحيت هذه المواقع مختلف هذه العصبيات بشكل إلكتروني، لتتحول إلى حروب أهلية داخل دول هذا الربيع، فقد قام بذلك الطبقات السائدة، كما دخلت دول عدوة لشعوب المنطقة، وعلى رأسها الكيان الصهيوني على الخط ،فأشعلت ما يسمى بحروب الجيل الرابع والخامس التي تستهدف تفجير المجتمع من الداخل بواسطة مواقع التواصل الإجتماعي دون أن يخسر العدو جنديا واحدا بإستثناء بضعة أموال وتوظيف أجهزة الإعلان الآلي (أنظر في ذلك مقالتنا "العصبيات الخلدونية إلكترونيا" في الحوار المتمدن عدد5321 بتاريخ 22أكتوبر2016).
ان تطور تكنولوجيا الإتصالات تعد ثورة جديدة شبيهة بمرحلة الثورة الصناعية في أوروبا التي سمحت بظهور الرأسمالية الصناعية التي حطمت المانوفكتورات والصناعات التقليدية، فأفقرت أصحابها الذين تحولوا من ملاك إلى أجراء أو بروليتاريا في مصانع الرأسمالي الذي يمتلك آلات متطورة تنتج أضعاف الضعاف ما كان ينتجه صاحب الورشة البسيطة، فبدأ هذا الرأسمالي يحتكر الثروة على حساب البروليتاريا التي كبرت وتضخمت من جهة بتجميعها في المصنع، لكن تطور آلات الإنتاج التي تحتاج عامل واحد بدل 100عامل مثلا خلق الجيش الإحتياطي للعمال، فأزداد البؤس في المجتمع بإنتشار البطالة، فكان من المفروض أن يمتلك البروليتاري وعيا طبقيا، فيحدث ثورة إجتماعية تؤدي إلى الإشتراكية كما تنبأ بذلك كارل ماركس، لكن عرفت الرأسمالية كيف تحل ماكانت تراه خطرا إجتماعيا عليها بلجوءها إلى الإستعمار الذي سمح لها بإستغلال ثروات الشعوب حسب تحليل البريطاني هوبسن في كتابه "الإستعمار" في 1902 الذي بين أن للإستعمار ثلاث أهداف وهي الخروج من مأزقها بتوسيع الأسواق لسلعها وإيجاد مواد أولية رخيصة ومناطق للإستثمار، والذي أخذ منه لنين فكرة كتابه الشهير"الإستعمار أعلى مراحل الرأسمالية" أين تنبه أن الإستعمار أكبر معرقل لإنتصار الشيوعية، ليدعو في بيان شهير له صدر في 1919 شعوب الشرق للثورة على الإستعمار، فربط لنين بذلك إنتصار الشيوعية على الرأسمالية بالقضاء على الإستعمار الذي يطيل في عمر الرأسمالية، بل كان الإستعمار ونتائجه حتى بعد إنتقاله إلى إستعمار جديد هو إنقاذ للرأسمالية من ثورة إجتماعية بحكم ربطه البلدان المستعمرة سابقا بمراكز القوى الرأسمالية التي تسمح بمواصلة الإستغلال لهذه الدول المستقلة حديثا كما كان يقع في العهد الإستعماري من خلال فتح أسواقها للسلع الرأسمالية ومناطق للإستثمار في الصناعات الإستخراجية للمواد الأولية والطاقة التي تأخذها باثمان بخسة لتعيدها إليها في شكل سلع بأثمان باهضة ومضاعفة جدا، وهو ما يسميه سمير أمين ب"التبادل اللامتكافيء"، فكل هذه الأرباح التي تأخذها دول المركز الرأسمالي من إستغلال الشعوب المستعمرة يتم إعطاء جزء منها للبروليتاريا لإسكاتها، وهو ما تناوله المفكر الماركسي هربرت ماركيوز بشكل مستفيض في أعماله حول الثورة الشيوعية في أوروبا.
فتعقيبا منا حول ما أوردناه عن الثورة الصناعية في أوروبا، فإننا نقول أن تطور تكنولوجيا الإتصالات اليوم خاصة الإنترنات، سيؤدي أيضا إلى بطالة كبيرة لأن هذه التكنولوجيا تحتاج إلى عدد محدود جدا من العمال فقط كما وقع مع الثورة الصناعية، فأمام هذا الوضع أمامنا حلين: إما تحقيق الرفاهية بحكم تزايد كبير للإنتاج وقلة ساعات العمل، فندخل مستقبلا مرحلة كل إنسان حسب حاجته أي عمل ساعات قلية وأخذ الناس حاجاتهم بحكم الإنتاج الوفير جدا، لكن لا نعتقد ان ذلك هو الذي سيقع بسبب شراهة وأنانية الرأسماليين الذي قل عددهم اليوم بسبب توسع الإحتكار الرأسمالي، وأخذ طابع عالمي، فأمام هذا الوضع المزري بحكم البطالة ،ستتنتشر روح الثورة ضد النظام الرأسمالي على المستوى العالمي، فكما جمع المصنع العمال والبروليتاريا، فانتشر الوعي الطبقي فيما بينهم، وعرفوا كيف يستغلهم الرأسمالي، فإنه من المفروض أن يكون لمواقع التواصل الإجتماعي دورا في نشر هذا الوعي حول الإستغلال وضرورة إقامة نظام عادل، لكن كما فعل البرجوازي في الماضي بضرب البروليتاريا والطبقات المستغلة بعضهم ببعض بتوظيف الإختلافات الثقافية والدينية والقومية وغيرها، فإنه سيقوم بنفس الأمر اليوم في مواقع التواصل الإجتماعي، وهو ما نلاحظه بجلاء اليوم في عدة دول أين أنتشرت الكراهيات في مواقع التواصل الإجتماعي، كما ستلجأ الطبقات الإستغلالية السائدة ليس إلى تدمير هذه التكنولوجيا المتطورة جدا للإتصالات لأنها يمكن أن تكون أداة في يد الطبقات المستغلة والمسحوقة، بل ستحولها الطبقات السائدة الإستغلالية إلى اداة قمع كبيرة ومراقبة لتحركات كل من يحاول نشر الوعي الطبقي وفضح الإستغلال الرأسمالي الذي اخذ طابعا عالميا اليوم، ولايستبعد ان تلجأ الدول المتقدمة جدا في مجال تكنولوجيا الإتصالات إلى فرض سلطتها ورقابتها على كل من يقلقها اليوم بالرقابة وبالحروب الإلكترونية أو ما يسمى ب"الذباب الإلكتروني" لإثارة الشعوب الضعيفة بعضها ضد بعض وإشعال الحروب بين الدول التي تستغل اليوم من طرف هذه الرأسمالية العالمية وتشويه كل من يشير إلى هذا الإستغلال الرأسمالي، وهو ما يطرح أمام كل باحث حول العدالة الإجتماعية ومواجهة الظلم والإستغلال الرأسمالي إلى التفكير في طرق فعالة لمواجهة الرأسمالية العالمية التي اصبحت تستغل شعوب العالم بشكل ناعم جدا وبتوظيف تكنولوجيا الإتصالات لخدمة مصالح هذه الرأسمالية العالمية التي هي سبب بؤس شعوبنا، لكنها لا تعيهذه الشعوب ذلك بسبب تغييب الوعي عندها من وسائل الإعلام التي يتحكم فيها الرأسماليون، فتوجه هذه الشعوب إلى الإهتمام بقضايا هامشية وإلى صنع أعداء آخرين لها لمواجهتها، وهم الذين يشتركون معها نفس البؤس والفقر والإستغلال الرأسمالي الذي يتم بواسطة الطبقات البرجوازية التابعة للمركز الرأسمالي والمتحكمة في أنظمة دول المنطقة، والتي ترفض فك الإرتباط بمراكز الرأسمالية التابعة لها كفرنسا وأمريكا، وتفضل هذه البرجوازية التابعة مواصلة مهمتها كمسوقين ومستوردين لسلع المصانع الرأسمالية وعرقلة كل إنتاج وطني أو القيام بثورة صناعية والإستثمار في القطاعات المنتجة في بلدانها، وهو ما من شانه فك الإرتباط بمراكز هذه القوى الرأسمالية التي ترتبط بها هذه البرجوازية وتخدم مصالحها على حساب مصالح دول شعوبنا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. خليل الحية: بحر غزة وبرها فلسطيني خالص ونتنياهو سيلاقي في رف


.. الأرمن في لبنان يحافظون على تراثهم وتاريخهم ولغتهم




.. انزعاج أميركي من -مقابر جماعية- في غزة..


.. أوكرانيا تستقبل أول دفعة من المساعدات العسكرية الأميركية




.. انتقادات واسعة ضد رئيسة جامعة كولومبيا نعمت شفيق لاستدعائها