الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فقراء يائسون … ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2021 / 9 / 24
الادب والفن


كان حيّنا هو عالمنا الصغير الذي لم نكن نعرف غيره .. فهو مهد الطفولة ومرتع الصبا .. لم يكن يتجاوز الكيلو متر الواحد طولاً ، ومثله عرضاً .. محاطاً بانهار صغيرة من ثلاث جهات .. نُصب على كل نهر منها جسراً صغيراً .. تُشكل كلها مدخلاً للحي .. أما الاتجاه الرابع فهو طريق مفتوح على مقبرة واسعة على مد البصر يسمونها ( الخيط ) ولا ادري ما معنى هذه التسمية .. يسكنه أُناس من مختلف الملل والاطياف والانتماءات .. لم يكونوا كلهم ملائكة ولا كلهم شياطين .. فيهم وفيهم .. ولتقريب الصورة أكثر لهذه القصة القادمة من تلك اللحظة الباردة البعيدة .. نقول ان بطل القصة هذه كأي انسان آخر .. صندوق مغلق .. يعيش في نصفين .. نصف ظاهر وآخر باطن .. كالسفينة نصفها ظاهر للعيان ، والآخر تحت الماء لا يُرى منه شيء ! لكن لا أحد يستطيع مهما كان أن يسبر غور النصف الاول ولا الثاني للأنسان بالخصوص !
بطل قصتنا : مرزوق البرغي …
لا اعرف لم اطلقوا عليه هذا اللقب الغريب لكني استطيع أن أُخمن .. ربما لانه يستطيع ان يخترق كل شيء مهما كان ضيقاً وعسيراً .. لقصره وضآلة حجمه ، اذ يبدو كأنه نصف رجل ، ومن يراه من بعيد ، وحتى من قريب يخاله طفلاً صغيراً .. رغم أن عمره قد اقترب من الثلاثين ، ورغم شواربه الغير مشذبة التي تكاد شعيراتها تُعد على الاصابع .. !
يعمل في كل شيء .. ان اردته ان يبني لك حائطاً يبني ، وان اردته ان يندف لك لحافاً يفعل .. وان اردته أن يزرع لك نخلة ، ويفصّل الحديقة ويزرعها بالخضار والفواكه يفعل بشكل مدهش ، وكأنه فلاح من ظهر فلاح .. كلمة لا أعرف غير موجودة على الاطلاق في قاموس مفرداته .. لا يفعل كل هذا عبقريةً منه او ان لديه قدرات خارقة يمتلكها هو ، ولا يمتلكها غيره لا لا .. وانما هكذا هي الدنيا ، وهكذا هي الحياة ماشية بمتطلباتها الكثيرة التي لا تنتهي .. !
اما اختصاصه الذي لا يبزه فيه احد من سكان الحي ، فهو البلاليع .. تسليكها .. تنظيفها ، وحتى نزحها .. عندما يأتي مرزوق الى أية بلوعة قد تكورت ، وأغلقت نفسها على نفسها ، ولم تعد ترغب في شرب الماء الثقيل .. بمجرد ما تسمع دبيب خطواته حتى ينتابها القلق ، وتصاب بالرعب ثم تستسلم وتنهار ، وتفتح ابوابها على مصراعيها ، ويسير كل شيء على ما يرام .. اما من تعصي وتتجبر وتركب رأسها ، فسيخ ( شيش ) مرزوق جاهز ليبقر بطنها ويخرج أحشاءها ، ويعبث بأعضائها كما يحلو له ، ولا تمر سوى دقائق معدودة الا وترى الماء ، وقد اخذ طريقه الى اعماقها بكل سهولة ويسر !
يسكن مرزوق في بيت ان جازت التسمية .. مكون من حجرة واحدة قديمة متهالكة كأنها بُنيت منذ زمن نوح .. وللبيت هذا قصة .. كان مرزوق كغيره من فقراء الحي لا يترك طابوقة او سيخ او قطعة خشب .. أو أي شيء يعتقده نافعاً ، ويمكن تدويره ، والاستفادة منه إلا وحمله معه الى المكان الذي قرر ان يكون له فيه بيت .. باب كالح اقتلعه من خرابة ، ونافذة واحدة يتيمة متهرئة ملقاة على الارض كان ينام عليها كلب بيت ام ياسين .. انتزعه وحمله معه ، وهكذا .. وضع هذا على ذاك .. سمك لبن تمر هندي .. حتى انتهى اخيراً الى هيكل مشوه يمكن ان نسميه بيت ، وهو في حقيقته بالجحر أشبه .. لا يحمي من حر ، ولا يقي من برد !
تزوج مرزوق في عمر متأخر من فتاة يتيمة معدمة مقطوعة من شجرة .. عكسه تماماً في مواصفاتها .. طويلة نحيفة حتى عندما يقفان جنباً الى جنب يبدوان وكأنهما رقم عشرة .. هي الواحد وطبعاً مرزوق الصفر .. وعندما ارادوا ان يكتبوا الكتاب لبستهم الحيرة .. فالفتاة المسكينة لا وكيل عندها ، فتبرع المختار ، وكان رجلاً طيباً ان يقوم بهذه المهمة مشكوراً ، وهكذا ..
تم الزواج …
وما كادت هيصة الزواج ان تنتهي حتى دخل مرزوق وزوجته في صراع جديد مع الحياة ألا وهو الحبَل ، فاصبح يبذل جهداً وتعباً استثنائيين مع زوجته اكثر مما كان يبذله في شقاء رزقه اليومي باضعاف مضاعفة ، ثم يمر عليهم شهران ثلاثة اربعة ، ويقتربان من السنة ، ولم يحصل الحبَل .. حتى النذور والسحر والشعوذة لم تأتي أُكلها !
وتمر أشهر اخرى من الانتظار والترقب ، ومصارعة اليأس ، والتهامه هو وزوجته اطناناً من العقاقير والاعشاب ، وبطلوع الروح .. تبدء أخيراً بوادر الحمل ، وعندما حبلت زوجته ، وانتفخت بطنها ، وتأكد بأم عينيه انه فعلاً حبَل ، وليس زيادة في الوزن لم يصدق انها ستأتيه بمنى الروح والقلب .. بالولد ، فطار عقله من الفرح …
اخذ يرقص ويغني ويضرب الاصبع .. يهز الوسط والاكتاف ، وهو يأخذ الحي طولاً وعرضا ، ويجري خلفه ذيل طويل من اطفال وصبيان الحي ومجاذيبه وحتى كلابه ، وهم يرقصون ويدبكون فرحاً ، ويضربون على صفيحة فارغة ( تنكة ) .. ثم تتعالى موجات متعاقبة من الصخب والصفير والهلاهل ، والغبار يتصاعد من حولهم مُحدثاً عاصفة ترابية تحت وطأة اقدامهم العارية .. التي لم تعرف اكثرها ان لم يكن كلها ان في الوجود اختراع جديد اسمه .. نعال !
اما اليوم الذي شرّف فيه ابنه فرج الذي اسماه على اسم ابيه تبركاً ، وجاء الى الدنيا ، فهو يوم لا يوصف .. شاركه الاحتفال فيه هذه المرة الكثير من سكان الحي من نساء ورجال .. اصحاء ومجانين ، ومن كل الانواع التي كان يزخر بها .. شوية هنود على شوية بلوش على شوية فرس الى آخر القائمة .. وكل يرطن بلغته ويغني اغانيه .. وهي فرصة للترويح عن النفس ونسيان الألم والمعاناة التي كان يئن تحت وطأتها الناس في ذلك الزمان وكل زمان !
وكبر فرج …
حتى قارب السبع سنوات ، وهو السن القانوني للألتحاق بالمدرسة مثل غيره من اطفال الحي .. وهنا بدء مرزوق وزوجته يواجهان تحدي جديد ألا وهو تجهيز هذ الطفل بما يلزم من ملابس وحذاء وقرطاسية .. الى آخر المستلزمات .. أَنَّى لمرزوق بذلك والشغل هذه الايام في ادنى مستوياته .. والحال مهما طال لابد ان يأتي يوم عليه وينتهي … !
كان الناس في ذلك الزمان يشيخون ، وهم في الخمسينات .. لاحظ الناس بعض من اعراض الشيخوخة المبكرة ، وقد بانت ملامحها واضحة على مرزوق رغم ان عمره لم يصل بعد الى الاربعين .. ربما بسبب تكوينه الناقص او بسبب تراكم الهموم ومضاعفاتها أو الإثنين معاً .. بدا وجهه عجوزا مكرمشاً مليئاً بالتجاعيد .. ربما كان ذلك سبباً في ان يقل الطلب عليه ، ويسوء الحال أو ربما هناك سبب آخر … !
وفي يوم .. خرج في جولته اليومية بحثاً عن عمل .. أي عمل .. بلوعة معاندة .. شجرة عجوز توشك على الهلاك ، ويريد اهلها اقتلاعها …… . فوجئ وهو يرى شاباً بنصف عقل ، وهو منكب على احدى البلاليع يسلكها .. وقف مصدوماً مأخوذاً بما يرآه .. كالمطعون في مقتل ، وزوبعة من الخواطر تعبث في عقله .. يحدق فيه بعينين جاحظتين ، وكأنه ينظر الى انسان له رأسان واربعة أرجل .. ادرك في الحال سبب الكساد ، وقلة الطلب عليه ، وعزوف الناس وتوقف الحال ، فركبه هم جديد يضاف الى همومه الاخرى ، وما اكثرها .. !
يغرق في مخاوفه وهمومه .. يكلم نفسه كأنه ممسوس ، ويتلوى في أزقة الحي كالسائر وهو نائم .. يشعر وكأنه بات جسداً فارغاً عاجزاً لا قيمة له يتحرك بلا روح ولا أي محتوى ! كذاك المحكوم عليه بالاعدام ، وانتهى أمله في الحياة !
لم يفق بعد من اللسعة المفاجئة الأولى إلا ويفاجأ بالثانية عندما شاهده في اليوم التالي ، وهو يبني سياجاً لبقرة الأرملة أم مهدي ، وبعد اسبوع رآه ينصب تنوراً أمام بيت أم لعيبي .. يقف أمامه ساكناً كالحجر .. يدمدم غاضباً بكلام غير مفهوم ، وهو يداري انفعاله ! وبعد يومين التقى بأم مهدي وعاتبها ، وسألها عن بيت هذا الشاب .. مدعياً بأنه قد استعار منه كركاً ، فاخبرته بأنه يسكن كوخاً على طريق المقبرة !
لا احد يشعر بمدى الحزن والقلق الكامن في اعماقه حتى زوجته تبدو غير مبالية وتواصل طلباتها ، وكأنها قد تزوجت من شاهبندر التجار ، وعندما عجز عن تلبية تلك الطلبات ، ساد جو من البرود بينهما ، وبات يجمعهما حديث قصير متباعد فيه من التشاؤم أضعاف ما فيه من التفاؤل .. يدرك جيداً أن الفلوس هي مفتاح الحل السحري ، وعصا موسى في هذا الزمان وكل زمان .. لكن من اين يأتي بها ؟
ماذا يفعل والى من يشكو همه في هذا الصراع المرير في مواجهة الحياة وقسوتها ؟ تتملكه أحياناً رغبة حارة صادقة في البكاء عله يُخرج ما بداخله من اوجاع ! حتى وصل به الحال يوماً الى أن يلوم أباه على تسميته بمرزوق كان الاجدر ، والاصح ان يسميه منحوس !
رغم ذلك شعر بمدى حاجته الى لمسة من تفاؤل وسط هذه الكآبة المخيمة على حياته ، فلجأ الى ولده فرج لعله يجد عنده الراحة .. يقبله يداعبه ويلعب معه لكن الطفل البريء يلح ايضاً كأمه في طلباته .. يريد فرّارة ونفاخة وشعر بنات .. رغبات متواضعة ، ولكن اين كل هذا من مرزوق الذي بالكاد يوفر لقمة العيش …
لا وقت للعواطف وربما لا عواطف بالأساس ، اما ان تكون او لا تكون ، صراع وجود .. هكذا تناهى الى سمعه دفقات من طنين واصوات وشيشْ : هل فقد عقله ؟ هل اطاحت هذه الظروف القاسية بالبقية الباقية منه ؟ اصبح دائم الشرود .. يأكل وهو شارد .. يتقلب على الفراش مستجديا النوم ولا يأتي .. تمضي ساعات الليل بطيئة ، وهو غارق في التفكير ، وصورة ولده .. حبيبه فرج لا تغادر خياله .. كل شيء يهون حتى حياته .. عمره .. إلا فرج !
يقوم منتفضاً من الفراش .. يُسرع الى النافذة الوحيدة يتطلع الى الفراغ المعتم امامه ثم يحس بمدد مفاجئ من الحياة يتدفق داخل جسده كأن قوةً غامضة تدفعه الى ان يفعل شيئاً لانقاذ السفينة التي توشك على الغرق .. شيء غريزي .. كغريزة الدفاع عن النفس .. يراقب حركة السحب البيضاء ، وهي تحجب نور القمر ، وينتظر النهار .. وماذا يهمه من النهار إن طلع ام لم يطلع بعد ان فقد جُل َّ عمله ، ومصدر رزقه ؟! يدور ببصره ماسحاً الحجرة متنقلاً بين زوجته وولده المستغرقان في نوم عميق .. ثم يحل عليه صفاء غريب كأنه قد اتخذ قراراً لا رجعة فيه !
الحي يموت مع الغروب ، والبرد قارص لا يوقفه شيء ، وطريق مقطوع مفتوح على المقبرة .. يتوقف مرور البشر به عند حلول الظلام .. تخيم لحظة من الترقب المخيف ، وسكون لا تقوى عليه الا اعصاب من حديد .. يقف مرزوق وتطول وقفته ، وهو يتلفت في كل اتجاه ، ورذاذ مطر خفيف يبدء بمداعبة جبهته المشتعلة ، واسنانه تصطك ببعضها من شدة البرد .. ثم تتلاحق ضربات قلبه فجأة عندما يرى شبحاً صغيراً قادماً من بعيد ، ويجد نفسه ، وقد تحرك باتجاهه بلا اي تمعن او حذر أو انتظار … !
ثم يعود مسرعاً الى بيته .. يطويه سواد الليل والتواء الازقة .. يتدثر ويغرق في نوم عميق تتخلله كوابيس مفزعة …
وبعد ايام يعود مرزوق الى عمله كما كان .. انساناً آخر غير الذي كانوا يعرفون .. على شفتيه إبتسامة صفراء غريبة .. بعد ان عثرت الشرطة على جثة الشاب ذو النصف عقل ملقاة على قارعة الطريق .. مات المسكين ناقص عمر في زمن من النادر ان يكتمل فيه عمر انسان .. !!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس


.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني




.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/