الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مسرحية.. 400 متر موانع.. عباس منعثر

عباس منعثر
شاعر وكاتب مسرحي عراقي

(Abbas Amnathar)

2021 / 9 / 26
الادب والفن


إحتفال لعائلة من أيّ جنسٍ أو عرقٍ أو دين

الشخصيات:
الأب
الأم
الابن
لصّان

اللّيلة الأولى
(الأم تتحرّك بحيوية هنا وهناك وكأنها تخطّط لشيء ما. تقف بالقرب من الشّباك وتحكم إغلاقه. تعدّل الطّاولة الكبيرة التّي تحتل منتصف الغرفة. علامات البهجة بائنة على وجهها الغضّ رغم أعوامها الخمسين. برشاقة، تتوّجه إلى إحدى الغرف وتختفي. يظهر الابن وعلامات السّرور تغزو وجهه الجميل، وتتضح في حركاته السّريعة الخاطفة)
الابن: إذا سارتِ الأمورُ حسبَ الـمُخَطّطِ المرسومِ ستكونُ ليلةً تحسدُنا عليها الملائكة. بقليلٍ من الحظّ، بكثيرٍ من التّوفيق، وبشيءٍ من حسنِ الطّالع.. سنحققُ الحُلُم.
(تعود الأم حاملة شمعداناً كبيـراً)
الأم: (بحنان ومحبة) ولدي الحبيب.. قد لا تعرفُ ما تعنيهِ هذهِ اللّيلةُ لي ولأبيك: 359 يوماً مُمّلاً من أجلِ يومٍ سعيدٍ واحدْ، 40 مليون مُنَغّص تُزيلُها ثانيةٌ واحدة، 3 ملايين مأساة تمحوها فرحةٌ صغيرة.. قَدّرْ هذهِ النّعمةَ وصنْها في حياتِك..
الابن: وهو كذلك!
الأم: والآن يا صغيري إلى الإستعداداتِ.. نبدأ بشجرةِ الميلاد..
الابن: (متفاخراً) رتّبْتُ النّشرةَ الكهربائيةَ الملوّنةَ بنفسي.. لفَفْتُها حولَ الشّجرة بنفسي. أَترين؟ ثُمّ إستخدمتُ كلّ خبرتي لربطِها بالكهرباء.
الأم: (بلغةٍ آمرة) يدُكَ على زرِّ الكهرباء. مُستعِد؟ قلبُكَ حديد؟! إذن شَغّلْ!
الابن: (صائحاً) شجرةُ عيدِ الميلاد.. جرّب!
(تفرقع النّشرة الضّوئية المعلّقة على الشّجرة. يطلع منها دخان. صوت بُـم! تخمد كلياً)
الأم: البدايةُ لا تُبشّرُ بخير!
الابن: هل يُمكنُ الإحتفالُ من دونِ شجرةٍ أو نشرةٍ ضوئية؟
الأم: (متجاوزة ما حصل) ممكن! نَتَفَحّص مصابيحَ الغرفة.. الأبيض الكبير؟
الابن: مكسور..
الأم: الأبيض الصّغير؟
الابن: معطوب.
الأم: الأصفر؟
الابن: خافت جداً..
الأم: (بيأس) نكتفي بما لدينا من ضوء. لنُعَلّق الزّينةَ على الأقل!
(يصعد الابن على الطّاولة، تنقلب به. يعاود الكرّة ببطء شديد)
الأم: أعلى قليلاً.. أدنى قليلاً.. أعلى.. أدنى.. أعلى.. أدنى.. أُفْ..
(يعلّقها من جهة فتقع من جهة. ينطلق إلى جهة فتقع من جهة. وهكذا يظلّ يركض من جهة إلى أخرى والأم تراقبه)
الأم: ستأتي السّنةُ القادمةُ ونحنُ في انتظارِ تعليقِ الزّينة! دعْها هكذا..
الابن: (فَرِح بما أَنجز) نوعٌ من التّجديد.. الزّينةُ تمتدُّ من الأعلى إلى الأسفل..
(حركةُ مفاتيحٍ في البّاب. تُسقِطُ الزّينة على الأرض.. يدخل الأب وهو يخفي شيئاً ما خلف ظهره)
الأب: (مُتأمّلاً في المكانِ بفرحٍ طفولي) هاه! هلْ أنتمْ في عيد! الزّينةُ مُعلّقةٌ.. على.. (يلمَحُها على الأرضِ فيعدّل عبارته ورقبته) على الأرض. شَجرةُ عيدِ الميلاد، آآ.. تُدّخِن. المصابيح.. مم.. مُطفأة، ما عدا الأصفر الخافت جدّاً. على أَسوءِ الفروضِ جوٌّ رومانسيّ ومُبهِجٌ تقريباً.
الابن: مُعظَمُ الأشياءِ من صُنعي.
الأم: لديكَ مفاجأة؟
الأب: قبلَ خروجي أردتُ، قرّرتُ، وصمّمتُ أن أَجلِبَ كيكةً كبيـرةً، أضخمَ كيكة في العالم، أكبرَ كيكة عيدِ ميلاد في البلاد، ومن عشرةِ طوابق....
الأم: جميل!
الأب: بحثتُ وبحثتُ. وجدتُ كلَّ المَحالِ مُغلقة. حَظرُ التّجوالِ مُطبِقٌ على الأنفاسِ كما تعلمون.. لكنّني لم أيأسْ.. من دربونةٍ إلى دربونة، ومن شَارعٍ فَرعي إلى آخرِ وأنا أتنقلُ كلّص.. إلى أنْ عثرتُ على دكانٍ صغيرٍ منزوٍ يَبيعُ بالسّرّ في نَفَقٍ مُظلِم.. لم أَجِدِ المطلوبَ عندَهُ.. فتنازلتُ من كيكةٍ بعشرةِ طوابِق إلى تسعة.
الأم: تسعة! تَفي بالغرض.
الابن: هييييه!
الأب: لم أَجِدْ. تنازلتُ من تسعةٍ إلى ثمانية.
الأم: ثمانية! مقبولة.
الابن: هييه!
الأب: لم أَجِدْ. فتنازلتُ من ثمانيةٍ إلى سبعة..
الابن: هيه!
الأم: ما هوَ آخرُ رقمٍ تنازلتَ إليهِ يا زوجي الحبيب؟
الأب: ما عادوا يصنعونَ إلا كيكةً من طابقٍ أو نصفِ طابق..
(يمد يده خلفه رافعاً كيكة بحجم كفّ اليد، واضعاً إياها على الطّاولة)
الابن: (بخيبة أمل) هـــــــــــــــيييه!
الأم: بغضّ النّظرِ عن الزّينةِ وشجرةِ الميلادِ والمصابيح، على الأقلّ حَصَلْنا على (تمسك الكيكة وتقلبها باستغراب) الكيـ.... نصف.. ربع.. كيـ....كيكة!
الأب: لا تعلمونَ مُعاناتي قبلَ حصولي عليها.
الأم: (وهي ترفع الكيكة) ساعدَكَ الرّبُّ أيها الزّوجُ المخلص..
الأب: (للأم) إنتبهي هيَ من النّوعِ الذّي ينكسِرُ ولا يَتَثلّم.
الأم: مثل حياتِنا بالضّبط!
الابن: عندما تدقّ السّاعةُ الثّانيةَ عشرةَ وثانية ستنطلِقُ الألعابُ النّارية..
الأم: من أينَ تنطلِقُ يا بؤبؤَ عيني؟!
الابن: من فوقِ سطحِ بيتِنا..
الأب: ماذا؟
الأم: ألعابٌ ناريّة! من فوقِ سطحِنا!
الأب: هل جُننت؟
الأم: إذهبْ!
الأب: هاتِـــها..
الأم: إجلبْها..
الأب: أحضِرْها..
الأم: آتِ بها..
الابن: (وقد أحضرها وأعطاها إلى أبيه) وما الضّيرُ في ذلك.. من حقّنا أن نفرح!
الأب: (يدوس على المفرقعات برجله) تفرح.. وهل هذهِ الكلمةُ مُفرحةٌ برأيك؟
الابن: والألعابُ النّاريّة، والموسيقى الصّاخبة، والــ...
الأم: الألعابُ النّاريّة: إنسَها. الموسيقى الصّاخبة: أطفئْها. العائلةُ المجتمعة: تجاوزْها. الأصحابُ المحتفلون: بخّرْهم من عقلِك.
الأب: أنتَ لا تعلمُ بما يجري في الخارج.
الأم: أتريدُهم أنْ يمزقوننا إرباً؟!
الابن: لماذا؟
الأب: عائلةٌ تحتفلُ بعيدِ الميلاد، أيوجدُ سببٌ أبشعُ من هذا؟!
الأم: إحمدوا الرّبَّ أنّهم سمحوا لنا أن نبقى أحياءً حتى الآن!
الأب: صمتاً.. السّاعة الثّانية عشرة تقترب.. حينما أُصَفّقْ نبدأ العدّ..
(يصفّق. تنطفئ الكهرباء. يلتفت بإحراج)
الأب: لا بأسَ لدينا الشّموع..
(يصفّق. تنطفئ الشّموع. يلتفت بإحراج أكبر)
الأب: لا تهتموا. الظّلامُ أَسْتَرُ لنا..
الابن: ... وأجمل.
الأم: (وهي تشعل الشّمعة الكبيرة) شمعةٌ واحدةٌ تكفي..
الابن: (يصفّق) عدّوا..
الأب: (هامساً) عدّوا.. هيا.
الابن: (وحده) وااااحد..
(صرخةٌ مدويةٌ قادمةٌ من بيتِ الجيران)
صوت: (من الخارج) يبووووووي! يبوووووووي! ماتَ أبو حسين! ماتَ أبو الغيرة! يبووووووي!
الأم: (تَصْفِقُ يداً بيد) بشّرَكِ اللّهُ بالخير يا أُمّ حسين!
الأب: جيـرانُنا حَزانى اللّيلة. سيبكونَ، يلطمونَ، ينتحبونَ إلى الفجر. من حقّهِم، لقد فقدوا عزيزاً.. ومن بابِ الشّعورِ بالتضامن..
الابن: حقُّ الجارِ على الجار!
الأب: أُعلِنُ تأجيلَ الإحتفالِ إلى السّنةِ القادمة.. موافقون؟
صوت: (من الخارج) يبوووي! يبووي! أبو حسين! أبو الغيرة! يبووووي!
الأب: إذنْ وبالإجماعِ يُؤَجّلُ الإحتفالُ إلى السّنةِ القادمةْ.
(ينسحبون عن الطّاولة. تبقى الشّمعة وحيدة بالقرب من الكيكة. تأتي قطة سوداء تلتقط الكيكة وتغيب في الظّلام، فتنطفئ الشّمعة)

اللّيلة الثّانية
(بعد سنوات. مظاهر الإحتفال أقلّ حضوراً هذه المرة من الظّلام الذّي ينتشر في البيت. الحركة أكثر بطأ، والحماس في تناقص مستمّر. مع ذلك، تبقى هذه اللّيلة في غاية الأهمية، والشّغف لا يبارح النّفوس)
الأب: (بحركة لص) سنحتفلُ دونَ مُنَغّصات.
الأم: (بهمس) بِشكلٍ سرّي.
الابن: (بهمس أشدّ) سِريّ للغايّة.
الأب: (بهمس أكبر) لا عَينٌ ترى.
الابن: (بهمس أعظم) ولا أُذنٌ تَسمَعْ!
الأب: أَغلَقْتُمْ البابَ جَيّداً؟
الابن: بنفسي أَوصدتُهُ بالقفلِ والمفتاح..
(ريحٌ تفتحُ البّاب)
الأب: (وهو يُغلِقُ البّاب) مرّت علينا أعوامٌ من الرّعبِ والخوف. لا نريدُ أن نثيرَ الرّيبة.
الابن: الشُّبّاكُ مُغْلَق، اطمئنوا؟
الأب: ليكنْ كلامنا همساً. (للابن) أخفِضْ صوتَك.
الابن: لا تخافوا.. لن يَسْمَعَ الجيرانُ شيئاً.
الأب: عندما تحينُ اللّحظةُ إرفعوا أنخابَكُمْ. ودونَ صوتٍ هَمهموا بالصّلوات..
الأم: غنّوا أُغنيّةَ الميلادِ دونَ كلمات..
الابن: أنا المايسترو.. حينَ أرفعُ يدي يَعْني موسيقى.. حينَ أُخفضُها يَعْني سكوت.
(صوتُ لغطٍ من بيتِ الجار)
الأب: ما الذّي يحدث؟
الابن: أناسٌ كثيرونَ يدخلونَ بيتَ أبي فلاح.
الأم: أبو فلاح؟!
الأب: جارُنا الغامض؟!
الأم: ما به؟
الابن: أَلمْ أُخبِرْكُم بالأمر؟!
الأم: خير يا قرّةَ العين؟
الابن: جارُنا أبو فلاح.. مَريضٌ جدّاً.. يَقولونَ قَلبُهُ مُتوّقِفٌ منذُ شهر.. لا يَنبِض. وقدْ يَموتُ في أيّةِ لحظة.. لكنّهُ يُقاوِم.. يالَ قوّتِهِ!
الأم: سعاد وزوجُها وأطفالُها تأخروا كثيراً..
الأب: الأفضلُ لها أنْ تسكنَ هي وأطفالُها معنا. المنطقةُ التّي يعيشونَ فيها جحيمٌ كامل.
الأم: على اعتبار أننا نعيشُ في فردوسٍ هنا!
الابن: لا تقلقوا.. ستدقُّ البابَ الآن.
(يرن الهاتف)
الأب: ألو.. نعم! ماذا؟ ماذا قلت؟ أَعِدْ ما قلتَهُ أرجوك! هل أنتَ جاد؟ أقصد أليستْ هذهِ مزحة رأسِ السّنة؟ ماذا؟ كم؟ (للجميع) أصمتوا! كم؟! من أنتَ؟.. لا..لا.. حالاً! بالطّبع.. فوراً!
الأم: غازلْ أُذنيّ يا زوجي بإخبارِكَ السّارة.
الأب: رجلٌ يقولُ أنّهُمْ ...
الابن: أعلنوا اللّيلةَ حداداً عاماً؟
الأب: أسوأ..
الابن: تمَّ إلغاءُ أعيادِ الميلاد؟
الأب: بل أسوأ..
الأم: (واضعة يدها على فم الابن) إذا توّقفَ لسانُكَ يا ولدي؛ تحرّكَ لسانُ أبيكَ بالدُّرر..
الأب: إختطفوا سعاد..
الأم: رباه!
الأب: وزوجَها..
الأم: ابنتي..
الأب: وأطفالَها..
الأم: يا الهي!
الأب: يُريدونَ فِديةً مئةَ مليار..
الأم: إبنتي، إبنتي أُريدُ إبنتي..
الأب: وإلاّ ..
الابن: يقتلونَهُم..
الأب: أجل..
الأم: (يكادُ يُغمى عليها) آه!
الابن: نخبرُ الشّرطة؟ نهجمُ عليهم؟ نفضحُهُمْ في الصّحف؟ في التّلفاز؟ على النّت؟
الأم: (تنظر إلى الابن ثم إلى الأب) آآآآآآآآآه!
الأب: بسببِ الأوضاعِ الرّاهنة.. ولأنّ المصيبةَ ليسَ لها شَريكٌ سوى الحزنِ والألم.. نعتزِمُ تركَ مراسيمَ الإحتفال.. علينا تجهيـزُ المبلغِ غداً مساء. (للأم) أطفئـي الشّموع.. إرمي بالكيكة.. أُسكبي العصير.. أتعتقدونَ أننا قادرونَ على تهيئةِ المبلغ؟
الأم: نبيعُ البيت.
الابن: والأملاك.
الأم: وكلّ ما ادخّرناهُ في حياتِنا.
(السّاعة تدق من غير أن يُعيرها أحد إنتباهاً)
الابن: ستعودُ سعاد وأبناؤها.. أنا على ثقة.. وسنحتفلُ معاً في السّنةَ القادمة.. أليسَ كذلكَ ماما؟!
(الأم تبكي في انتحاب شديد. تغادر إلى إحدى الغرف، يتبعها الأب)
الابن: (وحده) بالتأكيد. سيعودون. قلبي يقولُ ذلك.



اللّيلة الثّالثة
(بعد عدّة سنوات)
(في هذه اللّيلة ستحلّ النّهاية السّعيدة وستحتفل العائلة بلا منغصات. لكنّ البيت الجديد متهالك، والعائلة في حالة فقر مدقع.. الغرفة صغيرة.. الطّاولة أصغر.. الزّينة لونها كالح..)
الأب: (هامساً) الأوضاعُ مستقرّة. رغم بعضِ المُنّغصاتِ هنا وهناك. وسنعوّضُ هذا العام ما حصلَ في الأعوامِ السّابقة.
الأم: عسى.
الابن: إطمئنوا. لقد عمَّ السّلامُ في العالمِ بأسرِه.
(صوت انفجار يختبئ من جرّائه الجميع في أماكن متفرقة)
الأب: شكراً للرّب..
(صوت انفجار آخر يجبرهم على الإنبطاح)
الجميع: شكراً له!
الأب: شكراً للرّب.. الذّي أنقذَ سعاد مِنَ القتلة.. وزوجَها وأطفالَها.
(صوت إطلاق نار متبادل)
الجميع: شكراً لهُ!
الأب: وما فقدناهُ سيعودُ إلينا..
(قناصة تهشم الزّجاج)
الجميع: إحفظْنا يا رب!
الأب: شكراً للرّب الذّي أوجدَ لنا هذهِ الغرفة..
الابن: شكراً له!
الأب: شكراً لهُ فنحنُ سالمون..
الجميع: شكراً للرّب!
(هدوء كامل.. بعد برهة يقف الجميع بحذر)
الأم: عسى أنْ تكونَ آخرَ الحروب.
الأب: في مزرعةِ الموت هذهِ، كلّما نضجتْ حربٌ وتيّبست، طلعتْ أخرى بثمارٍ جديدة.
الابن: لكيلا أنسى.. لدي خبرٌ قد لا يكونُ مفرحاً..
الأم: (وقد طفح بها الكيل) مهجةَ فؤادي، قُــرّةَ عينـي، حينما ولدتُكَ حدثَ الفيضانُ الكبير وأغرقَ المدينةَ كلَّها، أوّل كلمةٍ قلتَها حصلَ الإنقلابُ المشئوم، أوّل ما مشيتَ وقعتْ الحرب، دخلتَ المدرسةَ فجاءتْ الحربُ الثّانية.. صِرتَ على أعتابِ الجامعةِ فوقعتِ الحربُ الثّالثة.. وعمَّ الموت.
الابن: تزامنٌ عجيب!
الأب: ما هو خبرُك؟
الابن: أبو فلاح..
الأب: مات؟
الابن: لا.. إنتقلَ قبلَ يومين وأصبحَ جارَنا..
الأم: (بكلّ مرارة) الرّجلُ الذّي ماتَ سريرياً منذُ سنوات.. الرّجل الذّي كانَ يسكنُ في الجانبِ الآخر من النّهر.. باعَ بيتَهُ الفخم وبحثَ في بقاعِ المدينةِ وحواريها.. ولم يَجِدْ مكاناً إلا لصقَ بيتِنا.. وقبلَ عيدِ الميلاد بليلتين؟ يالَ سعادتي!
الأب: وهذهِ الضّجة في بيتِهِ، ما سببُها؟
الابن: تزورهُ النّاسُ للإطمئنانِ عليهِ فهوَ رجلٌ معروف..
الأم: (بمرارة أشد) أبو فلاح الذّي يُقالُ أنهُ لا صلةَ لهُ بأحد، لا يُكلّمُ أحداً ولا يزورُ أحداً؛ أصبحَ معروفاً الآنَ وتزورُهُ آلافُ النّاس؟ طمأنتَني يا نورَ عيني.
الأب: لكي نجتازَ هذهِ المحنة، وتلك المصائبَ التّـي أستغربُ هطولَها كالمطرِ على رؤوسِنا. هيا نبتهلُ جميعا..
الجميع: نبتهل.
الأب: بقلوبٍ خاشعة.
الجميع: خاشعةٍ جداً.
الأب: وعيونٍ راجية..
الجميع: راجيةٍ جداً.
الأب: أيديكمْ إلى السّماء إدعوا لأبي فلاح بالصّحةِ الدّائمة..
الجميع: يا رب! أَدِمْ عليهِ الصّحةَ الدّائمة.
الأب: أو على الأقل بالصّحةِ للّيلةٍ واحدة..
الجميع: يا رب! أَطِلْ في عمرهِ ليلةً أخرى.
الأب: أو حتى عشرَ دقائق بعد الثّانيةَ عشرةَ ليلاً..
الجميع: يا رب! أَدِمْ عليهِ العافيةَ بعد الثّانية عشرة بعشر دقائق.
الأب: آآآآمين.
الجميع: آآآآمين.
الأب: ها هيَ الثّواني تجري نحوَ العامِ الجديد.
الابن: قضيةُ أبي فلاح محسومة، لا تحتاجُ إلى دعاء.. لنْ يموت.. لنْ يموتَ صدّقوني. إرادةُ الرّبّ ستطيلُ بعمرِهِ حتّى الغدْ.
(صوت قادم من جامع قريب)
صوت : إنتقلَ إلى رحمةِ اللّه الحاج أبو فلاح.. وسيتمّ تشييعُ جثمانِهِ السّاعةَ السّابعةَ صباحاً.. فمن أرادَ الأجرَ والثواب..
الأم: بعد سنين في الإنعاش لا تفعلُها إلا هنا والآن، يا أبا فلاح؟
الأب: للمرّةِ العاشرة تأتيكم الفرصةُ الذّهبية لمشاركةِ جيـرانِكُم أحزانَهم.. وبكلّ سرورٍ وغبطةٍ أُعلنُ إيقافَ أيّ احتفال والتوّجهَ حالاً لمواساةِ عائلة أبي فلاح الذّي- بالنّسبة لي- لم أَرَهُ بشوشاً قط ولم يُسلّمْ عَلَيّ قط ولمْ يدعُني على عشاءٍ أو غداءٍ قط.. وغالباً ما ينعتُني بالكلبِ النّجس! مع ذلك، الجارُ للجارِ ولو جار.. هيا يا ولدي.. نواسي أهلَهُ الآن وفي الصّباح سنطلبُ الأجرَ والثّـواب..
الابن: (للأم) إحتفظي بحصّتي من العصير!
(يغادران، بينما الأم تنظف الطّاولة)
الأم: أووه! لماذا نتشبثُ بهذا المكانِ الذّي أصبحَ سجناً خانقاً؟! لم أعدْ أحتمل. إذا أردنا العيشَ بسلام، فعلينا أن نفكّرَ بغيرِ ما نفكّرُ فيه، علينا أن ننطقَ بغير ما يختبئُ في سرائرِنا. محنةٌ ما بعدَها محنة، أن تكذبَ وتُرائي وأنتَ تعلمُ أنّكَ كاذبٌ مُرائي. ألمٌ ما بعدَهُ ألم، أن تُحِسَّ أنكَ منبوذٌ، مُراقَب، ناقصٌ أو خاطئ. إلى متى نبقى مُستهدَفينَ مِنَ العيونِ والظّنونِ والطّلقاتِ النّارية؟ طفحَ الكيلْ! لا مناصَ مِنَ الرّحيل. نحزمُ حقائبَنا ونُغادر. سأتركُ قلبي هنا، وشبابي وأيامي وذكرياتي. لا حلَّ آخر. هذا المستنقعُ لا يتحرّكُ فيهِ الماء، أبداً، ولن يتحرّكْ.. فليحفظْنا الرّب.
(تحمل الأواني وتذهب إلى المطبخ بمنتهى الحزن.. بينما تعلن السّاعة الثّانية عشرة ليلا)




اللّيلة قبل الأخيرة
(بعد سنين)
(الابن وقد إبيّض شعر رأسه تماماً يجلس في غرفة صغيرة جداً جداً، أمامه طاولة ضيقة جداً، عليها قنينة فارغة، وكأس مليء بالويسكي، وقطعة بسكويت. خلفه صورة الأب والأم وسعاد وزوجها والأطفال موشحة بشريط اسود)
الابن: كما وعدتُكِ يا أُمي لنْ أُغادِرَ الحياةَ حتى أحتفلَ برأسِ السّنة. لم أنجحْ منذ مقتلِكِ مع أبي برصاصِ مجهولٍ قبلَ سنوات. لا بأس. سافرتْ أختي سعاد مع زوجِها والأطفالِ إلى القطبِ الشّمالي حيثُ اختفوا هناك. لا بأس. لا بأس. لكنّني سأُحقِقُ حُلُمَ العائلةِ الآن.. إذا ماتَ أبو فلان أو أبو علّان أو أي (أبو) في الدّنيا فلنْ أسمعَ شيئاً.. ملأتُ أُذنيّ بالقُطن. بالإضافةِ إلى ذلكَ، سأضعُ قُطناً إضافياً.. (يضع قطناً في أذنيه) لنْ أُشيّعَ أحداً ولن أكترثَ بالأجرِ ولا بالثّواب! ها هيَ السّلسلةُ الحديديةُ تربِطُ رجلي اليسرى باليمنى بالسريرِ بالباب.. لن أتحرّكَ من المكان... لدي إحساسٌ غريبٌ وهاجِسٌ عميقٌ يهمسُ بي أنّ اللّيلةَ هي اللّيلة..
(ضجيج من الخارج)
الابن: أشياءٌ كثيرةٌ تغيّرتْ وتبدلّتْ ولم أتزحزحْ عن فكرتي:سأحتفلُ، يعني أحتفل. ما هوَ عيدُ الميلاد؟ نورٌ خافتٌ، جوٌّ رومانسيّ تقريباً، زينةٌ معلّقةٌ بطريقةٍ جديدة، شمعةٌ أو نصفُ شمعةٍ تُضيءُ المكان.. وكيكة.. الكيكة التّي حلمتَ بها يا بابا تحوّلتْ إلى قطعةِ بسكويت! تفي بالغرض. يبدو أنّ الويسكي عجّلَ بالإحتفالِ في رأسي! هيئ! هيئ! ستَدقُّ السّاعةُ أضخمَ صوتْ: تِنْ! لن يهزِمَنـّي أحد! أنا لا أُهزم! خدّي الأيمنُ نالَ ما يكفي مِنَ الصّفعات، ولن أُعطي الأيسرَ لأحد.. لم يولدْ من يوقفُني عن هدفي..
(دقات السّاعة تقترب من الثّانية عشرة ليلا)
الابن: أَيّها الزّمنُ الذّي سارَ خاطفاً أسرِعْ قليلاً ثُمّ أَبطئْ.. حقّقْ حُلُمَ رجلٍ في السّتين لم يحلُمْ بشيءٍ آخر.. ها هوَ الكأسُ الأخيـرُ في انتظارِ تكّةِ الثّانيةِ الأخيـرة.. لنْ أشربَهُ حتّى تدّق السّاعة! ممنوعٌ عليّ! هوَ الممثلُ الرّسميّ لانتصاري على الزّمن!
(يحمل الكأس إلى أعلى ما يستطيع)
الابن: أتوقُ إلى تلكَ الثّانية التّـي أضعُ فيها شفتي على حافتِكَ بالتزامنِ مع دقةِ السّاعة.. هيئ! هييئ! أُماهُ حينما نلتقي في الأبدية سأُخبركِ عن هذهِ اللّيلةِ وستفرحين.. كما أفعلُ الآن.
(أصوات)
صوت الأم: تمّتعْ بالّلحظةِ الخالدةِ يا بؤبؤ عينِ أُمّكَ، وتيّقنْ أننّي إلى جوارِكَ يا كبدي.
صوت الأب: لا تتـركْ ثانيةً بعدَ منتصفِ اللّيل.. إشربْ النّخبَ وعجّلْ، عجّلْ! إذا دعتْ الضّرورةُ إبدأ الإحتفالَ قبلَ ليلةٍ أو ليلتين فلا تضمنُ ما الذّي سيحدثُ في الدّقيقةِ القادمة..
الابن: شكراً ماما.. أنت إلى جانبي. محبتي بابا.. لكنني لنْ أُنّفِذَ وصيتَك. أعذرْني. عندي مبدأ.. لا أستطيعُ أنْ أحتفلَ بدخولِ السّنةِ الجديدةِ إلاّ في الثّانيةِ، في التّكّةِ التّي نُصبحُ بعدَها في العامِ الجديد.
(بخفّة وحذر يتسلل رجلان ملثمان)
رجل1: قف. لا تتحرك.
رجل2: أينَ نحن؟
الابن: من أنتما؟
رجل2: سكران!
رجل1: (يصفع الابن) عليك اللّعنة! خسئت! بئسَ ما تصنع!
رجل2: ما هذا؟ خمر؟ قبحك اللّه.
(عينا الابن تكادان تخرجان من محجريهما وهو يرى إلى رجل2 ممسكاً بكأس الويسكي. ثم ينقله ببطء إلى شفتيه ويشربه ويرميه على الأرض متهشماً إلى قطع صغيرة)
الابن: لا.
رجل1: إخرس يا كافر!
الابن: أنا مجرّد..
رجل1: طبعاً أنتَ مجرّد.. لا بدَّ أن تكونَ مجرّد.. مجرّد حيوانٍ يحتفلُ ويسكرُ ونحنُ في حزنٍ وبكاء! النّاسُ تَنحبُ في الشّوارع، وتُهيلُ على رؤوسِها التّرابَ طوالَ السّنة وأنتَ تتوّجُ رأسَ السّنةِ بالخمرِ والفجور؟! (لرجل 2) إربطْهُ بالحبل. كَتّفْهُ جيداً. ألصقْ هذهِ على فمهِ حتـى لا يصرخ.
الابن: مممم. ممم مم م م ممممم م؟
رجل2: (يتفحص المكان) هذا قبو!
رجل1: لا ترفس النّعمةَ برجلِكْ! جاءكَ رزق؟ قبّلْ يدَكَ وضعْها على جبينك. بعد هذا القبو الذّي دخلناهُ بالخطأ سننتقلُ إلى البيتِ المجاور.. سرقتانِ في ليلةٍ واحدة! نعمةٌ فضيلة!
رجل2: أُنظرْ! حقيبة كبيرة.
رجل1: حقيبةُ سفر.. نعمةٌ أُخرى.
رجل2: سنسافرُ بالنّيابةِ عنكَ أيها الأخ..
رجل1: (يبحث في القناني) ألا يوجدُ كأسٌ أخرى؟
(يجد قنينة ويفرغها في جوفه)
رجل1: (يصفعه) تحاولُ إخفاءَها.. خسئت!
رجل2: شكلُك لا يُعجبني. (يصفعه ويخرج)
رجل1: (يأخذ قطعة البسكويت، يلتهمها. ينحنـي على الشّمعة، يطفئها) ليلة سعيدة!
(بعد مغادرة الرّجلين، لحظة صمت، تدور عينا الابن بين شظايا القدح المنتشرة على الأرضية والسّاعة والشّمعة المطفأة والشبّاك الذّي خرج منه اللّصان. يحاول فكّ الحبل. لا يستطيع. يحاول ثانيةً، لا يستطيع. دقّات السّاعة تعلن الثّانية عشرة: تِكْ تِكْ! تِكْ تِكْ!)
الابن: (يترنم بكل عنفوانه) ممميه، ممميه، مممميه!

(رغم محاولاته المتكررة لرفع صوته بالغناء؛ إلا أن ضوضاء شديدة في الخارج تقطع ترنيمته وتغطّي عليها. يبدو أنه أراد أن يصدح بأغنية العيد التّي تقول:

ليلة عيد... ليلة عيد... اللّيلة ليلة عيد
زينة وناس... صوت أجراس... عم ترن بعيد
ليلة عيد... ليلة عيد... اللّيلة ليلة عيد
صوت أولاد ثياب جداد... وبكرة الحب جديد)

(اللحن النّشاز الذّي يطلع منه يغيب في الضّجيج.. والبقية في اللّيالي القادمة)
.......................
نشر هذا النص ضمن كتاب (شيزوفرينيا) الصادر عن دار أحمد المالكي، بغداد 2021.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع