الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العقاب من جنس العمل … ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2021 / 9 / 26
الادب والفن


هذه القصة .. تكملة او امتداد لقصة سبقتها بعنوان ( فقراء يائسون ) .. !

عاد مرزوق الى البيت مسرعاً ، وكأن سياطاً تلحقه لتلهب ظهره بعد ان أجهز على الشاب ذو النصف عقل ، وازاحه عن طريقه الى الابد … !
تستقبله زوجته والقلق بادٍ عليها :
— اين كنت .. لقد قلقتنا عليك ؟
بدا شاحباً مرتبكاً والفزع يغطي وجهه كمن كان هارباً من شبح او عائداً من جنازة .. يجيبها بصوت متقطع :
— شغل … لكن الحمد لله اكملته بسرعة لم اتوقعها .. ثم يُكمل هل تعشى فرج ؟
تهز رأسها بالايجاب ثم تسأله …
— اجهز لك العشاء ؟
— لا .. تعبان واريد ان انام …
يلقي بجثته الصغيرة على الفراش ، ويستلقي دون نوم .. سرعان ما يتغلب عليه النعاس ، فيتدثر باغطية ثقيلة تبتلع جسده الضئيل ، فلا يكاد يُرى منه شيء .. ثم ينام نوماً عميقاً ، وصورة الضحية تلاحقه في احلامه وكوابيسه … !
من كان يتصور ان هذا الشخص الضئيل الحجم .. الغير طبيعي .. نصف الرجل ، واقرب ما يكون الى طفل ان يرتكب مثل هذا العمل الذي لا يقدر عليه الا من كان يمتلك لا اقول إمكانية خارقة ، وانما إمكانية لرجل اقل ما يقال عنها .. طبيعية ؟ حتى الشرطة في تحقيقاتها لم تضعه في دائرة الشك مطلقاً !
الآن اصبح الحي طوع بنانه وتحت رحمته فهو المتعهد الوحيد .. يفرض عليهم ما يريده من اسعار لخدماته .. يعود الناس مضطرين الى سابق عهدهم معه ، فتتحسن اموره المالية ، وتزدهر اعماله وتتوسع ، ثم يستأجر كوخاً في سوق الحي ، ويجعل منه مكتباً ، ويقوم بتشغيل نفر من شبان الحي العاطلين لمساعدته على اعماله الكثيرة التي لم يعد لوحده قادراً على الايفاء بها …
رمم بيته وحسّنه ، واضاف غرفة جديدة خصصها الى ابنه فرج وأثثها ، واليوم يفكر في شراء قطعة الارض الصغيرة بجوار منزله ليعمل منها بستاناً .. يزرعه بالفاكهة والخضار ليوسع شغله ، وهو كله شغل ومكسب ، ثم قام بفتح مكتبٍ جديد في الحي المجاور ، واوكله الى احد اعوانه فاخذ يفيض عليه بدل الخير خيرين .. حتى اشترى قبل ايام ساعة جيب من احد الباعة المتجولين .. اعجبته سلسلتها الفضية ، ولم يكن يعرف كيف يتعامل معها ، فثبتها له البائع .. طرف في عروة ( اليلگ ) ، والطرف الثاني في جيبه ، فرِح بها كثيراً ، واخذ يتبجح بها امام الناس ، فكان يُخرجها بمناسبة وبدون مناسبة !
لبس وبشكلٍ مفاجئ لبوس الدين والتدين المزيفين ، فجعل منهما ستاراً يحتمي به لدرء الشبهات عنه .. رغم انها لم تقترب منه يوماً .. يرتدى دشداشة نظيفة تتغير بتغير فصول السنة .. بيضاء ناصعة في الصيف ، وبالوان اخرى في الشتاء وبقية الفصول ، ويُمسك بمسبحة يعبث بحباتها ليل نهار .. وشفتاه لا تتوقفان عن غمغمة الفاتحة ، وهي السورة الوحيدة التي كان يحفظها ، ويعمم رأسه الصغير بكوفية ، ويرسم على وجهه علامات الجد والصرامة والورع ، وياخذ بالتردد على الجامع الوحيد في الحي .. متحصناً بخبرته الواسعة بنفسيات اهل الحي البسطاء ، فهو يعرفهم عن كثب واحداً واحداً ! حتى بدا وكأنه شيخ بحق وحقيق .. سرعان ما انطلت على الناس هذه اللعبة ، وصدقوه فاخذوا ينادونه بالشيخ مرزوق ، ويناديه عماله بعمي الشيخ !
كان يقضي ايامه مستريحاً هانئاً ناعم البال قرير العين بعد أن كثرت امواله وتكدست في خزنة صغيرة يضعها في غرفته وأمام ناظريه .. اشترى لزوجته وولده كل ما كانوا محرومين منه أيام العوز والحرمان …
وفي يوم .. كان يجلس أمام مكتبه منفوشاً كديك رومي ، ليروح عن نفسه قليلاً من زحمة العمل ، فيُكسب ملامحه كل ما يملكه من جد ورزانة مفتعلين .. لزوم الشغل والحياة الجديدة .. يمر من امامه متسول من اصحابه القدامى ايام كان فقيراً معدماً .. لكنه تنكر له بعد ان تبدلت احواله .. وجافاه !
يصيح المتسول متحسراً ، وهو يُلقي على مرزوق نظرة مستفزة مغلفة باحتقار مستتر ، والسخرية واضحة في نبرات صوته :
— دنيا .. ! سبحان مغير الاحوال …
ثم يوجه له سؤالاً ذا معنى …
— اشلونك شيخنا ؟
مشدداً على الكلمة الاخيرة ، ثم يبصق على الارض ، ويواصل سيره .. !
يملأ الغضب صدر مرزوق .. يكاد أن ينفجر .. لكنه يتمالك نفسه بصعوبة ولا يرد .. !
اعتاد مرزوق ان يقص على ابنه فرج قصة كل ليلة حتى يُسْلِمه الى النوم ، وذات ليلة لا تزال صورتها منقوشة في مخيلته ، ولا اظنها ستُمحى منها ابد الدهر .. بدت علامات الحمى بشكلٍ مفاجئ على جسد الولد ، لم يبالي مرزوق لانه تصورها عارضاً خفيفاً سرعان ما يزول ، وبعد ختام القصة .. داعب ابنه وقبله وأحسن غطاءه وتركه ينام بعد أن تمنى له ليلة سعيدة ثم غادر …
وفي اليوم التالي ازدادت حرارة الطفل اشتعالاً ، ولم يفارقه التعرق ولا السعال ، وما ينتج عنه من بلغم يكاد أن يخنقه .. جاءته زوجته الى السوق ، وهي تبكي بصمت ، والقلق بادٍ على وجهها ، واخبرته بان حالة فرج قد ساءت ، جرى مرزوق فزعاً ، وعندما رأى حالته جُنَّ ، فانطلق من ساعته الى حلاق الحي ابو سامي .. استقبله الرجل ظاناً انه يروم الحلاقة :
— اهلا شيخنا …
عاجله مرزوق وهو يزفر انفاسه …
— تعال معي .. فرج مريض .. بسرعة
وهو يسحبه من يده .. يلملم الرجل ادواته البسيطة ، ويضعها في جنطة صغيرة قديمة .. ثم يلتقطها على عجل ، ويغادر الاثنان الى بيت مرزوق .. بعد ان كشف عليه بطريقته البدائية طمأن مرزوق بانها مسألة بسيطة ، وان حاله سيتحسن بمجرد ان يتناول هذه الأدوية والعقاقير ، وأعطاه قنينتان من دواء الاعشاب ، ووعده بانه بعد بضعة ايام سيقوم مثل الحصان ..
يطمئن مرزوق ، ويعود الى وجهه واطرافه ماء الحياة .. وتمضي الايام وحالة الطفل تزداد سوءً .. يسعل بشدة ويتقلص جسده كأن روحه ستفارقه .. غشاوة من الدمع تغطي عينّي مرزوق .. تنطلق منه زفرات حارة .. لا يدري ماذا يفعل .. يوشك ان يفقد عقله ، فكل الدنيا كوم وفرج وحده كوم .. نصحه المقربون من اهل الحي ان يأخذه الى المستشفى …
أخذ بالنصيحة وأسرع في الحال ، وطلب ممن يلتقيهم ان يدعوا لولده الحبيب بالشفاء .. وعندما وصل الى هناك ، وبعد الفحص والاشعة اخبره الدكتور بأنه جاء متاخراً جداً ، لقد كان في البداية التهاباً رئوياً كان يمكن علاجه ثم تطور الى صديد في الرئة ، وحالته صعبة .. يجب ان يبقى تحت المراقبة اربع وعشرون ساعة .. والله يستر ، وكل شئ بارادة رب العالمين .. ! يتغير وجه مرزوق ويخيم عليه ذهول صامت ، وهو يُنصت إلى الكلمات الاخيرة التي كادت ان تطيح به وتُنهي حياته .. بدا ضعيفاً ذليلاً منكسراً مهزوماً .. !
تمر تلك الساعات القليلة ، وكأنها عمر كامل .. عاشها مرزوق وزوجته بين الامل والرجاء ، والطفل يترنح بين براثن الموت .. وعندما فاضت روحه في اليوم التالي .. نعاه الطبيب بجملة واحدة :
— لقد نفذ قضاء الله ولا راد لقضائه .. !
يشعر مرزوق كأن يداً من حديد قد عصرت قلبه وأدمته عند سماعه لتلك الكلمات المرعبة .. كيف لولده أن يذهب بهذه البساطة .. كأنه حفنة ماء وتسربت من بين يديه .. ؟ فرج مات .. ! كأنه غير مصدق .. يجهش في بكاء مرير .. بالأمس القريب كان يلعب معه وأمامه واليوم يرقد تحت التراب .. كيف يمكن ان يكون شكل الحياة وفرج ليس فيها ؟ .. كيف له ان يُسكن ولده .. حبيبه ونور عينيه ، وكل الذي خرج به من هذه الدنيا ، وفعل كل مستحيل من أجله .. قبراً مظلماً موحشاً .. ؟ لو قالوا له انك ستموت بعد ساعة لما تألم وفزِع كما فزِع الآن وتألم ، وهو يسمع نعي ولده الوحيد وفلذة كبده .. !
يتصاعد صوته النحيف الأخنف فجأةً من أعماق صدره في تهدج باكٍ ، وكأن الماضي بكل تجلياته قد برز فجأةً امامه ، وهو يطلب العفو والمغفرة والشفاعة والتوبة ، ولم يفهم الناس ماذا كان يقصد .. عمَّ جو تسوده علامات الاستفهام والتعجب والحيرة .. !
وعندما ذهب بصحبة نفرٍ من أصحابه الى المقبرة لدفن ولده ، ورأى المقبرة تسبح في صمت جنائزي مهيب ، والقبور متراصة مزدحمة ومتشابهه .. وجسد ولده الصغير الضئيل ينزلق في حفرة صغيرة بسهولة ويسر كأنه استعد الى تلك اللحظة الرهيبة .. كاد ان ينهار ، وكادت كلمات الاعتراف بالجريمة أن تنطلق من مرقدها .. لكنه تمالك نفسه في اللحظات الاخيرة ، ثم اجهش في بكاء حار .. يُدرك ان اياماً اخرى حالكة السواد من عذاب الافتقاد المرير بانتظاره .. ياله من عذاب ! وياله من عقاب ! ثم أخذ يصرخ كالمجنون ، وهو يتلوى من الألم كطير مذبوح :
— اريد ابني .. اريد ابني .. جيبولي ولدي …
وهو يبكي بكاء الثكالى .. !!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة أخيرة - هل الفنان محمد علاء هيكون دنجوان الدراما المصري


.. كلمة أخيرة - غادة عبد الرازق تكشف سر اختيار الفنان محمد علاء




.. كلمة أخيرة - الفنانة سيمون تكشف عن نصيحة والدها.. وسر عودتها


.. كلمة أخيرة - محدش باركلي لما مضيت مسلسل صيد العقارب.. الفنان




.. كلمة أخيرة - الشر اللي في شخصية سامح في صيد العقارب ليه أسبا