الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مسرحية.. عَوْ.. عباس منعثر

عباس منعثر
شاعر وكاتب مسرحي عراقي

(Abbas Amnathar)

2021 / 9 / 26
الادب والفن


الشّخصيات:
الأول
الثّاني
الشّيخ
الرّجل
السّكران
الشّحاذ
المكان: إيوان معبد وثني مقدّس أو مسجد أو كنيسة أو كنيست، فيه أقواس وأعمدة وشبابيك مزخرفة، يتعبد فيه مجموعة من الأشخاص.
الزمان: في زمن الكهوف القديمة أو الوقت الحاضر أو في المستقبل.


(يدخل عملاقان، مفتولا العضلات، يحملان هراوتين)
الأول: قفْ!
الثّاني: قفوا!
الثّاني: لا حركة!
الأول: لا نَفَس!
الثّاني: لا نأمة!
الأول: أغلقِ الباب!
الثّاني: مغلق!
الأول: أغلقِ الشّبابيك.
الثّاني: موصدة!
الأول: موقعُ الفرقةِ المُدرعةِ التّاسعة؟
الثّاني: في الخارج من جهةِ اليمين..
الأول: موقعُ الفرقةِ المُجوقلةِ الرّابعة؟
الثّاني: من جهةِ اليسار..
الأول: الجهازُ الفاحص؟ الكرةُ البلّورية؟
الثّاني: (يخرج جهازاً يُصدر صوتاً غريباً:بقبق، قيق) شغّال!
(الأول والثاني يحيطان بشيخ يتعبد)
الأول: مكانَكَ يا حمار!
الشيخ: بارَكَ اللّهُ فيك! أهكذا تخاطبُ مَنْ هُم في مقامِ والدِك؟
الثّاني: أيّ تهوّرٍ منكَ أُرديكَ ميّتاً.
الشيخ: الرّحمة!
الأول: أها؟! تطلبُ الرّحمة؟
الشيخ: يا إلهي! غُفرانَك!
الثّاني: إعترفتَ بذنبِك!
الأول: تدعو للمغفرة! ها؟
الشيخ: الدّعاءُ لا علاقةَ لهُ بالذّنوب.. حتى التّيس، حتى الكُمثرى تبتهلُ في سرِّها.
الأول: والخنزير؟
الشيخ: يفعلُ ذلك، إنها سمةُ الخلائق.
الثاني: لقد بقبقَ الجهاز!
الأول: ولماذا يدعو العابدُ ما لم يقترفْ سيئةً تستوجِبُ العقاب؟ إذا كنتَ تؤدي ما يجبُ تجاه ربِّكَ لا تحتاجُه، وإذا كنتَ مقصّراً فتلجأُ إلى التمّسكن، كي يتحقّقَ ما تصبو إليهِ من خِداع.
الثاني: لقد بقبقَ الجهاز!
الشيخ: مهلاً! ماذا تُريدان؟
الأول: من أنت؟
الشيخ: أنا شيخٌ ورع، يبحثُ عن الآخرة..
الأول: علّمتْنا الحياةُ أنّ من يُنكِرُ هو الجاني المؤكّد.
الثّاني: وما ترفضُهُ عَلَناً هو أوّلُ ما تفعلُهُ سرّاً.
الشيخ: لمْ أرتكبْ أيّةَ جريمة!
الثاني: الشّيطانُ يظنّ ذلكَ أيضاً!
الأول: ما الذّي أتى بكَ إلى هنا؟
الشيخ: مثلما يفعلُ أيُّ عابد.. أجيءُ كلّ يوم.. أتركُ مُغرياتِ الحياة خلفي.. كي أتعبّد خالقي.. كي أسألَهُ أن يصفح عنّي أنا العبدُ الحقيرُ.. المُذنبُ.. الجاهل..
الأول: سنكتشفُ ذلكَ فوراً. الجهاز!
الثاني: يُبقبق!
الشيخ: هل تتهمونَني بشيءٍ من لطفِكُم؟
الأول: تيّقنْ أنت.. تيقنوا جميعاً.. أنّكم ذاهبونَ إلى الجحيم إن لم تعترفوا. البلدُ في خطرٍ جسيم! نحنُ في حالةِ نفيرٍ عام. هناك تجاوزٌ على المقدّساتِ، وهيبةُ الدّولةِ تترنّح! لقد نجّسَ حيوانٌ قذرٌ كلَّ المساجد! ومهمتُنا أن نجدَهُ ونقبضَ عليه.. وهي أوامرُ من أعلى السّلطات.
الشيخ: أنا إنسان.. حمداً لله.. براءة.
الثّاني: الحيوانُ الذّي نجّسَ المكانَ قادرٌ على التّحوّلِ إلى أيّ شكلٍ يشاء.. إلى إنسان.. إلى مصباح.. إلى سجّادة.. إلى نعال!
الشيخ: أعوذُ بالله!
الأول: وبهذا قد يكونُ أنتَ أو هذا أو ذاك.. الجميعُ مُشتبهٌ بهِ حتى تثبُتَ إدانتُهُ..
الثّاني: لا بدَّ من مُتّهمٍ إنْ كانتَ هناكَ تُهمة..
الشيخ: توقفا! أنا هنا لسبب.
الثّاني: (يشّغل الجهاز) تكلّمْ..
الشيخ: هل تكتمونَ السّر؟ عندي اسرارٌ عائلية!
الأول: حسبَ المصلحةِ العليا.
الثاني: كلّ بيتٍ هو سرٌّ مفضوحٌ عما يجري فيه. في الماضي كانَ للبيتِ أسرارُهُ، الآن لكلِّ بيتٍ فضيحتُهُ..
الشيخ: لقد طردَتْني زوجتي.
الثّاني: نعم.. الجهازُ يقول: قيق!
الشيخ: أنا أُحبّ النّساء. أموتُ على النّساء. أَذوبُ في النّساء. وهي مثل كيسٍ مليءٍ بالنّفاية. تعلمونَ حضراتُكم أنّ الزّوجةَ كيسُ نفايةٍ ولو كانت ملكةَ جمال الأمازون، فكيفَ بها وهي سمينة قبيحةٌ مُزعجة؟! لذلكَ اُضطّرُ إلى أن ألعبَ بذيلي.. بعد الخيانةِ العاشرة، أغلقتْ خلفي الباب.. ظلّتْ تطردُني في عزّ الصّيف، وفي بردِ الشّتاء أيضاً.. أين أذهب؟ الأواصرُ العائليةُ متفكّكة.. المواخيرُ مُغلقة.. الجامعُ مفتوح.. دخلتُ فيه!
الثّاني: وأولادُك؟
الشيخ: يتخلّى عنكَ الجميعُ حينَ تفقدُ القوّةَ والمال.
الثّاني: أها..
الشيخ: ما أن تزورَ جسدَكَ الرّعشةُ حتى يظهرَ الإهمالُ في المرايا والوجوهِ والشّوارعِ والذّكريات!
الثّاني: لقد بقبقَ الجهاز.. إنّهُ يكذِب!
الأول: سنتأكدُّ من ادّعاءاتِكَ لاحقا.
(يحاول الرّجل في الجهة المقابلة أن يهرب)
الأول: إذهبْ إلى ذلكَ الرّجل.. إنّهُ يهرب!
(الأول يضرب الشّيخ على رأسه فيسقط مغشياً عليه)
الثّاني: (للرّجل) إلى أين؟ أغلقنا الباب، ولا نوافذَ كي تهربَ منها؟
الرّجل: لم أكنْ أنوي الهرب.. أردتُ المساعدة.
الأول: ساعدْنا أكثر واعترف..
الثّاني: أنكَ خنزير.. أو إذا شئتَ كلب أو حمار.
الأول: أو قرد!
الرّجل: أليسَ هناك خياراتٌ أُخرى؟
الأول: مثل؟
الرّجل: تفاحة.. كيس طحين.. حذاء.
الأول: حذاء داخلَ مسجد؟ إلى ماذا تُلّمح؟
الرّجل: طلبُكم غريب! أنا مُنقطِعٌ للعبادة.. وهجومُكم عَلَيّ يُعتبرُ إعتداءً صارخاً على حقوقي كإنسان.
الثّاني: بعد أن نتأكّدَ أنّكَ إنسان..
(الأول والثاني يعالجان جسد الرّجل الذّي يصرخ)
الرّجل: أنقذوني!
الثّاني: للإنسان ألفُ قناع. سنخلعُ أقنعتَكَ الواحدَ تلو الآخر.
الرّجل: لا قناعَ لي. إنّهُ وجهي.
الثّاني: قلْ هذا لحامضِ الكبريتيك الذّي سيَسلخُ جلدَك.
الرّجل: ما هيَ تُهمتي أولا؟
الأول: مثل تُهمةِ مَنْ سبقَك..
الثّاني: قد تكون الكلبَ الذّي نبحثُ عنهُ أو الخنزير أو الحمار أو جميعَهُم في جسدٍ واحد.
الرّجل: (يضحك) فعلاً أنا كلبٌ أبن كلب، وخنزيرٌ عن سابعِ جدّ وحمارٌ أيضاً. كلبٌ لأنني وفيٌّ لأناسٍ لا يستحقونَ الوفاء، وخنزيرٌ لأنني نظيفُ السّريرة، وحمارٌ لأنني أُضّحي من أجلِ من يبيعُني. لكنّني لستُ الكلبَ الذّي تقصدونَ ولا الخنزيرَ ولا الحمار.
الأول: هل ترى العجوزَ القابعَ هناك؟
الرّجل: الذّي يسبحُ بدمِهِ؟
الأول: ستسبحُ بدمِكِ أنتَ أيضاً.. إنْ لم تعترفْ.
الرّجل: ما عقوبةُ أن يكونَ الإنسانُ كلباً أو خنزيراً أو حماراً؟
الثّاني: الموتُ بلا شكّ.. فقد دنّسَ أقدسَ مكانٍ على وجهِ البسيطة.
الرّجل: جميل. وما عقوبةُ من ينوي السّرقة؟
الأول: سرقة؟
الرّجل: لكسبِ القوت.
الثّاني: السّرقةُ عمل.. والعملُ جهد.. والجهدُ عرق.. ويجبُ أن يأخذَ الأجيرُ حقّهُ.. قبلَ أن يجفَّ عرقُهُ!
الأول: لكنّهُ سلوكٌ غير قانونيّ!
الرّجل: ولِدتُ لعائلةٍ فقيرة تعتاشُ على المزابل. رحلَ أبي مبكراً وماتتْ أمي جوعاً، ولم يكنْ أمامي خيارٌ آخر.
الثّاني: علي بابا؟ ها؟
الأول: قلْ لي يا علي بابا.. ماذا تفعلُ هنا؟
الثّاني: أليس الأولَى بهِ أن يكونَ مع سندباد!
الرّجل: أترونَ ذلكَ القصرَ الكبير.. ذلك القصرَ كثيرَ الأضواء؟
الأول: نراه..
الرّجل: لماذا برأيكم يسكنُ هؤلاءِ مثلَ هذا القصرِ الفاره بينما أعيشُ وعيالي في المزابل؟
الثّاني: سؤالٌ منطقي!
الرّجل: حظوظ؟
الثاني: ربما.
الرّجل: ذكاءٌ وشطارة؟
الثاني: إحتمال.
الرّجل: خسّةٌ ونذالة؟
الثّاني: إستنتاجاتٌ معقولة.
الرجل: ولماذا يولدُ الملكُ ملكاً والأميرُ أميراً والجلاّدُ جلاداً؟
الأول: يكفينا تساؤلات فلسفية.. وأخبرْنا عن وجودِكَ هنا؟
الرجل: بلا مواربة.. جئتُ كي أسرِقَ القصر!
الثّاني: فعلاً.. أصدرَ الجهازُ صوتَ قيق!
الرّجل: كنتُ أراقبُ هذا القصرَ منذ شهر. عندَهم فلوسٌ كثيرةٌ، كثيرة. وعندي همومٌ كبيرةٌ، كبيرة. قلتُ في نفسي آخذُ قليلاً من فلوسِهِم الكثيرة كي أُخفّفَ قليلاً من همومي الكبيرة!
الأول: وهل صعُبَ على قابيلَ تبريرُ قتلِهِ لهابيل؟!
الرّجل: إذا أُوصِدَتْ جميعُ الطّرقِ عليكَ أن تجتازَ الحائط. وإذا تطلّبَ الأمر، تصعدُ على ظهرِ أخيك، أو تبحثُ عن حائطٍ أقلّ علوّاً..
الثّاني: وبذلكَ ينسجمُ المجتمع!
الرّجل: عندَ الغروبِ أراقِبُهم. متى يخرجون، متى يدخلون، ماذا يفعلون. عَلِمتُ من خلالِ مراقبتي أنّهم سيغادرونَ اليومَ مع آذانِ الفجرِ تماماً. في البُرهةِ التّي يقولُ فيها المؤذّن: اللّهُ أكبر! وبينما يتّجهُ المؤمنونَ إلى الصّلاة، أتوجّهُ إلى القصر.
الأول: تتخذُ من هذا المكانِ الرّوحي الطّاهر مقرّاً وغطاءً للسّرقة؟!
الثاني: رائع! مُبهر! مُدهش!
الرّجل: بصراحة، الجامعُ هو أفضلُ ملاذٍ للّصوص! لن يشكَّ فيكَ أحد! ثمّ إنّني نويتُ أن أتوبَ بعدَ هذهِ السّرقة مباشرة.
الثّاني: لقد بقبقَ الجهازُ من جديد!
الرّجل: قلتُ: بعد عودتي من القصر، أُخبّئ المسروقاتِ في الباحةِ وأدخلُ إلى الجامعِ أَتوضأُ وأتوب.
الأول: قيّدْهُ بالحبل، وألصقْ فمَهُ.
الرّجل: سؤالٌ إن أمكن.. اعتبرْني كلباً واعتبرْني سارقاً، ما الفرق؟
الأول: عقوبةُ السّرقةِ شهرانِ في السّجن وقد تخرجُ بكفالة. وعقوبةُ كونِكَ كلباً هي الموت.
الثّاني: قطع الرّقبة من هنا!
الرّجل: الموت أو شهران..
الثاني: ما هذا؟ هل نلعبُ معكَ اختيارَ الأفضل؟
الأول: قيّدْهُ جيداً..
الثّاني: حاضر.
(يقف رجل في الباحة وهو في قمة الثّمالة)
الأول: (عن السّكران) هذا المتطوّحُ يثيرُ الرّيبة.
الثّاني: (للسكران) مكانَك!
السّكران: أنا؟ أم هو؟ أم هما؟ أم هم؟ أم نحن؟ أم أنتما؟ أم كلاهما؟
الأول: سكران؟
السّكران: لا.. لا تنخدعوا بالمظاهر. إذهبوا إلى الجواهر.
الأول: في المسجد؟
السّكران: ثقْ سيدي لا فرق.
الثّاني: وقبلَهُ لص، وزيرُ نساء.
الأول: هل نحن في ماخور؟
السّكران: أيّ إناءٍ قابلٌ لأن يحتوي على أيّ سائل.
الثّاني: عيناهُ غريبتان، وجسدُهُ يرتعشُ بشكلٍ مريب!
السّكران: جسدي يرتعشُ، لسببٍ خطير.
الأول: ما هو؟
السّكران: في عائلتي مرضُ الرّعاش الرّباعي.
الأول: رباعي؟
الثاني: بُقبق، بُقبق!
السّكران: بمعنى لا أستطيعُ السّيطرةَ على أعصابي.. وأكادُ أقع.
الثاني: ولماذا رُباعي وليسَ خُماسي أو سُداسي؟
السّكران: لأنّني لا أتحّكمُ بأطرافي الأربعة. يدي، اليمنى واليسرى، قدمي اليمنى واليسرى.
الأول: هل سترقص؟ إحترمِ المكانَ المقدّس!
السّكران: تظنُّني أرقص؟ أكبرُ دليلٍ على خطأ هذا التّصوّرِ هو غيابُ الموسيقى. الرّقص بلا موسيقى غباء.
الأول: أنتَ الحيوانُ الذّي نبحثُ عنه.
السّكران: حيوانٌ فقط؟ أُنظرْ إليّ هل تعتقدْ أنني أنتمي إلى الإنسانية.
الثّاني: فيما لا يُظهرِهُ كشفٌ عمّا يُحاولُ ألّا يُظهرَهُ!
السّكران: إتهموني بما تشاؤون.. أنا أتهمُني بكوني لستُ أنا.
الثّاني: نُكرانُكَ لذاتِكَ لا يُبرّرُ دَنَسَ ذاتِك!
السّكران: لقد رأيتُ وسمعتُ وأحسستُ بما جرى للأخوينِ المُنصرمين. وأُريدُ أن أقولَ شيئاً. أنا رجلٌ مهمٌ. مهمٌ جداً. وفي حالةِ المساسِ بي ستدفعونَ الثّمنَ غالياً.
الأول: (يلطمه) كهذا؟
الثّاني: (يلطمه) وهذا؟
الأول: (يلطمه) أم تقصدُ هذا؟
الثّاني: (يلطمه) أو تُراكَ تقصدُ هذا..
السّكران: إستوعبتُ الأمثلة.. يكفي. لكن في قلبي سؤالٌ خطير.
الأول: وهو؟
السّكران: هل تستطيعانِ أيها الجميلانِ الرّائعانِ المُهندمانِ أن تشرحا لي مِنَ الأوّلِ وبالتفصيل أصلَ المُعضلة؟ لطفا!
الثّاني: نحنُ نطاردُ كائناً غريباً. إبنُ الوغد، ولجَ المسجدَ الكبير. بعدها، بدأتْ سمّاعاتِ المنارةِ تُصدرُ نُباحاً شديداً. ثمّ دخلَ المسجدَ الدائري، فأصبحَ حماراً ينهقُ بأقبحِ صوت.. هدّمتِ الفرقةُ المجوقلةُ أيّ مسجدٍ دخلَ إليهِ. وقد لمحناهُ يتسلّلُ إلى هنا على شكلٍ كلبٍ أسود.
السّكران: ربما هَربَ إلى مسجدٍ آخر!
الأول: هذا هو آخرُ مسجدٍ في البلد!
السّكران: سينقرضُ اللهُ إذن!
(الأول يصفعه)
السّكران: أعترِف.
الثاني: وجدناه أخيراً..
(يصفعه الثّاني)
السّكران: أعترِف..
الأول: أَخبرِ المقرَّ العام أنْ تدخلَ الفرقةُ التّاسعةُ بأكملِها.
السّكران: مهلاً..
الثّاني: رجعتَ بكلامِكَ ككل الرّجالِ الذّين ليسَ لديهم كلمة!
السّكران: أعترِفُ.. أعترِفُ.. أنّني احتسيتُ الخمر.
الأول: يعني أنكَ غائبٌ عن الوعي.
السّكران: بالضبط!
الأول: وتنطِقُ بما لا تعلم.
السّكران: تماماً!
الأول: وكذبتَ حينَ قُلتَ رعاش رباعي؟
السّكران: فعلتُ ذلك.
الأول: وما يُدريني أنّكَ لم تكذِبْ حينَ قلتَ إنّكَ سكران؟
السّكران: صحيح.. حجتُكَ مُفحِمة!
الأول: أنتَ الطّريدةُ التّي نبحثُ عنها.
الثاني: إنتهت المهمة!
السّكران: ماذا؟ أيّ طريدة؟ التّي ستُعدم؟ أنا سكران. لا أدري هل دخلتُ بيتَ دعارةٍ أو ديراً أو معبداً أو مسجداً.. لا يختلفُ الأمرُ كثيراً عندي. ما يَهمُّني مكانٌ أرتشفُ فيهِ الخمرَ ليسَ إلا.
الثّاني: أظنّكَ أذكى من ذلك.
السّكران: أيّ ذكاء! لقد أغلقوا البارات وأماكنَ اللّهوِ والفُسوق. حتى إحتساء الخمرِ سرّاً ممنوع. فماذا أفعل؟ أضعُ الشّرابَ في قنينةِ عصير. أُضيفُ عليهِ عصيراً ملوناً فيبدو عصيراً حقيقياً.. وأُخفيهِ تحتَ ثيابي.. وبينما يتعبّدُ الأخوةُ المتعبدونَ أشربُ العصير.. هذا كلُّ ما في الأمر. هل شُربُ العصيرِ جريمة؟ أخبرْني. أخبرْني أنتَ يا صاحبَ الأنفِ المُفلطح.. هل شُربُ العصيرِ في المسجدِ جريمة؟
الأول: (يصفعه)
السّكران: أعترِف..
الثّاني: شيطانٌ رجيم!
السّكران: أعطيتَني أكبرَ من حجمي.. مَهمّتي في الحياة أن أُخفي عقلي، أن أَطمرَهُ في الوحل. أنا لا أحتاجُ إليه، ماذا أفعلُ به؟ الحياةُ بلا عقلٍ أسهلُ وأفضلُ وأجمل. العقلُ عناءٌ لا يُحتمل. لستُ قادراً على البقاءِ واعياً أكثرَ من ساعة.
الأول: لعبةٌ قديمة! إعترافك بذنبٍ صغيرٍ صغير هو من أجلِ التغطيةِ على ذنبٍ كبيرٍ، كبير!
الثاني: أنت هو!
السّكران: حتى لو كنتُ أنا هو، فهو ليسَ أنا. إفهمني أَرجوك.
الأول: فهمناك!
الثّاني: لا تتحرّك!
السّكران: كي أُثبتَ حُسنَ نيتي سأُشيرُ عليكم إلى هناك.
الأول: الزّاوية؟
السّكران: أجل.
الثّاني: ما بها؟
السّكران: ما ظننتموهُ خِرقةً قد يكونُ ما تبحثونَ عنه! لقد رأيتُهُ يتحوّلُ إلى أربعةِ أشكالٍ مُخيفةٍ من مُتسوّل إلى لصٍ إلى تاجرٍ إلى قبطان!
الأول: من كلامِ المجنون تنبثقُ الحقيقة.
الثّاني: لقد توّقفَ الجهازُ عن البقبقة!
السّكران: ثِقْ بي! إنهُ يتحوّل.. ها أنتَ نفسُكَ تتحوّل.. وأنت الآخر.. ألم أقلْ لك؟
(يذهب الأول والثاني بعد أن يرديا السّكران أرضاً بضربة مزدوجة)
الثّاني: (ممسكاً الشّحّاذ) يال رائحته!
الأول: أهو جثة أم إنسان؟
الثّاني: كأنّهُ إنسان مُجّثث!
الأول: إستيقظ يا هذا.
الشحاذ: قبل أن تهرسوا جثتي التّي أكلتْها الأرصفةُ بالهراوات، أعرّفُكم بنفسي.. دكتوراة فلسفة قبلَ أنْ يأكلَ السّجنُ شهاداتي العليا وتأخذَ الصّعقاتُ الكهربائيةُ عقلي ويصبحَ موظّفُ الخدمةِ رئيسي في العمل.
الأول: لسنا في محاضرة سعادةَ الدكتور. لدينا ما هو أهمّ. ماذا يقولُ الجهاز؟
الثّاني: بقبق!
الشحاذ: تدري؟ لقد قرّرتُ أن أتغيّر.. أن أُصبحَ حرباءَ متلونة.
الثّاني: مسكنا رأسَ الخيط. اكتشفناه.. كانَ إنساناً وصارَ حرباء ملوّنة!
الأول: إقبضْ عليه.
الثّاني: لكنّ رائحتَهُ خانقة.
الاول: قُمْ بواجبِك.
الثّاني: هو واجبُكَ أنتَ أيضا.
الاول: لدي اقتراح.. أغلقْ فمي بإصبعِكَ.. وأنا أُغلِقُ فمَكَ بإصبعي.. يُصبحُ لديكَ يدٌ خاليةٌ ولي يدٌ خالية.. بهِما معاً نقبضُ عليه.
الثّاني: هيا..
الشحاذ: أعِدُكم أنّني سأعرفُ ما تبحثونَ عنه.
الأول: وكيفَ تفعلُ ذلك؟
الشحاذ: سأكونُ عيناً لكما.. أخدعُهم وأَتجسسُ عليهِم.
الأول: أنتَ لا تخدعُ دجاجة.
الشحاذ: أحسنت. من يظنُّ أنّ مثلي يُمكِنُ أن يفكّرَ أو يخدع؟ وهنا تتنكّرُ الخديعة.
الأول: ما رأيك؟
الثّاني: قد يضعُ سرّهُ في أتفهِ خَلْقِه!
الأول: لكن إيّاكَ والمخادعة! نحنُ في مهمةٍ رسمية، وخداعُنا جريمة! هل فهمت؟ حينما تكتشفُ من هو، حرّكْ يدَكَ هكذا وهكذا باتجاه ِالمطلوب. فهمت؟
الشحاذ: إستطعتُ فهمَ معادلاتِ آينشتاين. لن تصعُبَ عَلَيّ هذه!
الأول: إذهبْ إليهم.
(ينطلق الشّحاذ إلى الثّلاثة المنطرحين على الأرض)
الشّحاذ: إسمعوني. أنا ضعيف في الرّياضيات. كم عددنا؟
الرّجل: أنت مجنون.
الشحاذ: أعقلُ الأجوبةِ تلدُها أكثرُ الأسئلةِ جنوناً..
الشيخ: نحن أربعة.
الشحاذ: وكم عددُ البغلين؟
السّكران: مُثنى والمثنى إثنان.
الشحاذ: وبكلّ بساطةٍ نحنُ الأربعة، اليائسونَ من الحياة، عديمو الفائدةِ، الذّين لا يخسرونَ شيئاً وإن خسروا حياتَهم، نستسلِمُ لهما!
الرّجل: يُمثلانِ القانون!
الشّحاذ: القانونُ نفسُه الذي أسكنَ هؤلاءِ في قصرٍ شاهقٍ ورمى بكَ في جُحرٍ خانق؟!
السّكران: دعوني أُراجع ما فاتني. من أكبر ممن؟ الأربعة أم الإثنان؟ أكيد الأربعة.
الشيخ: لكن في عالِمنا الفوضويّ هذا ربما الصّفرُ أكبرُ من الألف.
الرّجل: والغنيّ الواحدُ يعادلُ ألفَ نعالٍ مثلي!
الشيخ: حتى في عالم الرّياضيات إثنان أكبر لأنّ لديهم هراواتٍ وتحميهم فرقةٌ مُجوقلةٌ وأُخرى مُدرعةٌ في الخارج. العددُ لا ينفعُ في الحُكم!
الشّحاذ: مرّةً هجمَ أسدٌ على قطيعٍ من الجواميس. هربوا أمامهُ فزادَت ثقتُهُ بنفسِهِ واندفعَ مُهاجماً. من بينِ الجواميسِ الهاربةِ توّقفَ أحد الذكور وقرّر ألا يهرب. إستدار. نفخَ من منخريه. واندفعَ باتجاهِ الأسد. بغرورٍ، إنتصبَ الأسدُ واستعدّ للهجومِ المضاد. وفي لحظةٍ خاطفة كان الأسدُ يتشقلّبُ في الهواء ودمُهُ يتناثرُ على العشبِ الأخضر.
الشيخ: أنا رجلٌ عجوز!
الشحاذ: وهذا سببٌ كافٍ أن تطلّقَ الحياةَ بالثلاثة وتقتحِم.
السّكران: لستَ أقلّ من الجاموسة!
الرّجل: هما قويان.
الشحاذ: والإنتصارُ باهتٌ إن لم يكنْ على قوي!
السّكران: نتذرعُ بالعُمرِ والعجزِ وقوّةِ الآخر؟ ليتنا نمتلكُ عقلَ الجواميس!
الشّحاذ: نستطيع.
السّكران: لقد نبّهتَني إلى مكمنِ قوّتي.
الشحاذ: وما هو؟
السّكران: إنّهُ اليأس. يخلقُ الشّجاعة.. خاصةً أنّ الخمرَ تُعطي المرءَ شجاعةً مُضافة.
الرّجل: إذا اليأسُ يخلقُ الشّجاعة فأنا أشجعُ إنسانٍ في العالم.
الشيخ: طيّب.. لكن.. لا تنتظروا منّي إلا الهربَ إن دافعا عن نفسيهما ..
الرّجل: بدأتُ أقتنع بالحل.
الشحاذ: نحيطُهم على شكلِ دائرة.
السّكران: بالضبط، ونهجمُ هجمةَ رجلٍ واحد.
الشيخ: هجمةَ ثلاثةِ رجال.
الرّجل: نضربُهم، نفتحُ الباب ونهرب!
السّكران: قد ننالُ ضربةً أو ضربتين!
الشحاذ: أفضلُ من أن تنالَ أربعَ ضرباتٍ ثم تذهبُ إلى المشنقة.
الرّجل: يجبُ أن نزرعَ الرّعبَ في قلبيهما.
السّكران: كيف؟
الرّجل: نبالغُ في رفعِ أكتافِنا.. نفتحُ صدورَنا كي تبدو أعرض.. نُباعِدُ بين سيقانِنا.. نُلصقُ الحاجبَ بالحاجبِ دليلاً على الغضبِ والتصميم.. نزمُّ شفاهَنا.. نُقلّصُ أجسادَنا بشدّة. ونتّجهُ إليهم.
الشّيخ: إنّهما مخيفان!
الشّحاذ: في منطقتِنا رجلٌ خسيس. لديهِ أسلحة. معهُ رجالٌ كثيرون. كان يتمادى على الجميع. يرتعدُ منهُ الجميع. في يومٍ ما، أصابَهُ طفلٌ صغيرٌ بحصاةٍ صغيرةٍ فقأتْ عينَهُ اليمنى. ظلَّ يتلفتُ كلّما خرجَ من بيتِهِ حتى أصابتْهُ حصاةٌ صغيرةٌ أخرى فقأتْ عينَهُ الثّانية. ستجدونَهُ الآن على الرّصيفِ يستجدي لقمةَ الخُبز.
(يتحرك الرّباعي بتصميم في اتجاه الأول والثاني)
الأول: ما بكم؟
الأول: لماذا تتجهونَ نحونا؟
الثاني: هل إعترفَ أحدُكم أنّهُ الحمار، أو القرد، أو الكلب؟ أو...
السّكران: أليسَ الكائنُ الغريبُ قادراً على أن يتلّبسَ بالبشر؟
الثاني: يستطيع.
الشحّاذ: ويٌمكنهُ أن ينقسمَ إلى إثنين؟
الثّاني: يُمكنهُ!
الشّحاذ: نظنُّ أنّ أحدَكما هو ما ذكرت.
الشيخ: أو كلاكما.
السّكران: سنقبضُ عليكما، نرتدي ملابسِكما ونُسلّمكما إلى الفرقةِ المُدرعة العاشرة!
الشّحاذ: أين تهربان.
الرّجل: الشبابيكُ مُغلقة!
الشيخ: والبابُ أعمى!
(يسقط الجهاز من يد الثاني)
الرّجل: كرتُكَ البلوريةُ تهشّمت!
(صوت بقبق قيق بقبق)
الأول: إبتعد!
الثّاني: إبتعدوا!
الأول: قف!
الأول: قفوا!
الثّاني: لا حركة!
الأول: لا نَفَس!
الثّاني: لا نأمة!
الثّاني: كلا.
الأول: أترُكْني.
الثّاني: أتركونا.
(يهرب الرّجلان العملاقان، يتبعهم الرّجال الأربعة. صوت سقوط الباب. حينما يخرجون من الجامع نسمع صوت: عَو عَو عَوو عَووو، يبدأ منخفضاً وخافتاً ثم يرتفع رويداً رويداً في الفضاء)
....................
نشر هذا النص ضمن كتاب (شيزوفرينيا) الصادر عن دار أحمد المالكي، بغداد 2021.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با


.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية




.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-


.. المغربية نسرين الراضي:مهرجان مالمو إضافة للسينما العربية وفخ




.. بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ