الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جحلو … ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2021 / 9 / 29
الادب والفن


الصيف في اواخر ايامه ، وقد شاخ وتَعِب ، ولانت قبضته ، ودنت نهايته ، واصبح الجو يميل الى الطراوة ، واقرب ما يكون الى البرودة خاصة في ساعات الصباح الاولى حيث تكون البرودة اشد واقسى .. يبدو شتاء ذاك العام منذ بداياته يُنذر ببرد شديد لا يرحم … !
بيت صغير كأنه عش نملة .. يرقد امامه كلب عجوز قد وقف شعره من البرد .. تمد امرأة بيضاء طويلة رأسها من الباب ، وهي ترتدي اسود في اسود ، وتتلفت يسرة ويمنة ، وعندما سقط عليها ضوء النهار اضاء وجهها ، فبدا شاباً أبيضاً حلواً .. انها الارملة الشابة ام فلاح …
كان الشارع خاويًا ، الا من قلة من المارة ، وقد كوّرهم البرد على أنفسهم ، وهم في طريقهم الى بيوتهم .. ورغم برودة الجو .. تقف أم فلاح من وراء الباب ، وكأنها تبحث عن شخص ما .. قد يكون ولدها .. ثم تهتف بصوت خجول ناعم :
— جحلو .. جحلو …
وهي تواصل التلفت ، والبحث عن شخص آخر غير جحلو .. على طريقة اياك اعني ، واسمعي يا جارة .. !
ثم يعلو الصوت ويزداد حلاوة :
— جحلو .. جحلو .. وينك …
يسمع جحلو خليط الاصوات الغريب هذا الذي يشكل اسمه ، والذي اعتادته اذناه ، واعتادت موسيقاه ، ولا ندري هل هذا هو اسمه الحقيقي ام له اسم آخر غيره ؟! وكان في وقتها واقف يتبول على الحائط ، فيقطع بولته على الفور ، و يستجيب الى نداء امه مسروراً متهلل الوجه ، وابتسامة بريئة بلهاء تحتل وجهه …
يأتي جحلو طائراً كالبرق ، رافعاً ذيل دشداشته من الامام ، يطقطق لها اذناه بنخوة اعتاد عليها مع الجيران ، فكيف اذا كانت لامه ؟ وقف أمامها بانتظار الاوامر ، ولم تكن هناك في الحقيقة أي اوامر .. يسألها عن حاجتها ، لكنها تتجاهله ، ويبدو انها لا تسمع صوته ، ولا تحس بوجوده اصلاً .. فلا تجيب … !
تبدو هائمة مشغولة البال في عالم آخر من الخيال والاوهام .. تدور في رأسها دوامة من افكار متزاحمة ، وعواطف ورغبات محبوسة في قمقم .. تنتظر من يحررها ويطفئها ، ثم تعود الى بحثها ، وتحريك رأسها دون توقف يساراً ثم يميناً ، وتهتف كأنها تريد ان يصل صوتها الى اسماع شخص آخر ، ثم تعود مرة أخرى ، وتهتف وقد ارتعش صوتها :
— جحلو .. جحلو .. وينك حبيبي …
يستغرب جحلو من امه هذ التصرف ، فلم يسمعها تناديه بحبيبي من قبل ، فيرد مسروراً على الفور ، وهو يهرش مؤخرة رأسه :
— ها .. !
انا هنا يا أمي واقف امامك ، ألا تريني ؟
لا تجيب .. عيناها مركزتان على بيت الجيران ، يكرر عليها السؤال بالحاح ، وهو يحوم حولها كذبابة سخيفة لحوحة كلما طردتها تعود ثانيةً ، ولا يلقى
منها جواباً ايضاً كأنها لم تسمع السؤال ، ودون أي مبالاة لوجوده ، ولا كأنه واقف امامها كصنم من اصنام مكة .. !
يخرج في تلك اللحظة جارهم الارمل نوري من بيته .. رجل وسيم .. له شارب رفيع .. طول في عرض .. مجَرِّب .. لم يتزوج إلا بعد أن عرك الحياة وشق غبارها ، لكن زوجته توفيت في وقت مبكر ، وتركته وحيداً .. يمر من امامهم ، وكأن النداء قد وصله ، فلبى النداء ، وهو يُسقط رأسه على صدره متظاهراً بالخجل ، ومراعاة الجيرة وحرمتها .. لكن هذا لم يمنعه من النظر اليها .. بركن احدى عينيه ، ثم تستقر نظراته عند وجهها الصبوح …
وعندما تراه ام فلاح تشهق بطريقة مسرحية رخيصة ، وكأنها قد تفاجأت ، فتغطي وجهها ( بشيلتها ) مدارية خجلاً انثوياً مصطنعاً ، وتفلت من شفتيها نصف ابتسامة آسرة .. ! يا للنساء .. ! ويا لمكر النساء .. !
وجحلو هذا هو ولدها الصغير ، واخر غرسة من المرحوم الذي غادر الدنيا قبل عامين ، وتركها مع اولادها الاثنين ، والحي على اي حال ابقى من الميت …
يعاجل جحلو امه ، وكأنه مصر على تقديم خدماته خاصةً بعد مناداتها له بحبيبي :
— ماما .. ها انا هنا …
مبتسماً في وداعة طفل ، ومحاولاً استنطاقها .. تلتفت اليه اخيراً ، وتقول وهي شاردة :
— ها … ؟!
تفتح عينيها كمن عاد من غيبوبة مؤقتة ، أو كأن أحداً قد دلق عليها سطل ماء بارد في ذلك اليوم الزمهرير …
دائماً ما تتلجلج ام فلاح وترتبك عند رؤيتها نوري ، وتتحرق شوقاً ، وتتمنى ان تقفز الان وفوراً في احضانه ، وتنهي الامر لعل هذا البركان المتقد في صدرها يخمد او يهدء .. لا يعيدها الى الواقع الا صوت ابنها الذي بدأت تضيق به ، فتدفعه بحركة من يدها لكي لا يُفسد عليها الجو الشاعري بصوته الذي استبشعته في تلك اللحظة ، وبدا لها وكأنه نباح مزعج .. يضجر الطفل هو الاخر … ولم ينتظر ردها ، فيدفع يده بوجهها ، ويقول برقة ومرح طفولي :
— أووو .. !
ثم يعود الى تكملة بولته التي تركها على النص !
جحلو هذا فتى قد قارب العاشرة من العمر نحيفاً شاحب الوجه هادئ الملامح ، يعيش مع امه واخيه فلاح الذي يكبره بخمس سنوات تقريباً ، ويشتغل عامل في ورشة للحدادة ، ويصرف على البيت .. الام لا تزال شابة جميلة ، وممتلئة حيوية ، ووراء ملامحها الهادئة كبت جنسي متوحش ، والجسد كالنبات النامي لابد من حصوله على الماء والغذاء ، وإلا لن يستطيع ان يمضي بشكل طبيعي في مشوار الحياة .. والماء متوفر بغزارة عند الارمل نوري لكن بالحلال …
يمكن ان يقتنع فلاح لانه كبير ويفهم ، وهو في كل الاحوال مسيره يتزوج ، ويستقل في بيت لحاله .. أين تكمن المشكلة اذن .. ؟ في جحلو المتعلق بأمه بشكل غير طبيعي ، والذي لا يستطيع عنها استغناءً أو فراقاً ، والمتعلقة هي ايضاً به .. على الاقل إلى اللحظة التي رأت فيها نوري زوج المستقبل ، وشريك الفراش ولذّاته …
وتمضي الايام ، والماء يتسلل من تحت اقدام جحلو .. لا يشعر بما كان يخطط له الاثنان .. وشيئاً فشيئاً تتكشف الاسرار ، وتبدو الامور في الآخر واضحةً جلية ، ثم تنفجر اللحظة بشكل مفاجئ ، ويتقدم نوري يطلب الزواج من امه التي اعتاد ان ينام في حضنها الدافئ كل ليلة ، ويشم رائحتها الطيبة دون منافس او شريك …
ويُفرض الزواج على جحلو .. المنزوع الارادة ، والذي لا رأي له بعد رأي امه وشقيقه الذي تفاجأ بالامر ، وأظهر غضبةً لينةً مهادنة ، لكنه وافق أخيراً على مضض .. وبما ان البيت صغير ، فكان الاتفاق أو الصفقة ان تنتقل الام وجحلو الى بيت نوري الواسع لان جحلو لايستطيع الابتعاد عن امه ، ويتركوا البيت الصغير لفلاح ليتزوج فيه …
وفي ليلة العرس ظلت ام فلاح تتأمل وجهها الجميل في المرآة ، تتحسس رموش عينيها برفق ، تراجع كحلها ، وتتأكد من تورد وجنتيها ، ثم زادت من فتحة رداءها عند الصدر ليظهر مفرق نهديها الناصعي البياض .. كل ما فيها بدا ناضجاً فائراً جاهزاً يكاد يمزق الفستان ، وكانت ليلة من ليالي العمر التي نسيت فيها جحلو ، وابو جحلو وكل الدنيا ، وغابت في ملكوت من اللذة والمتعة والنشوة …
وبعد انتهاء مراسم الزواج تعود الحياة الى ايقاعها الاعتيادي ، وتظهر سطوة الزوج على امه ، وعلى البيت كله واضحة .. اشياء كثيرة لم يفهمها جحلو منذ أن احتواه بيت واحد مع زوج امه .. ! لم تطاوعه نفسه ان يحب أو يتقبل هذا الرجل الثقيل الذي اغتصب مكانه الدافئ في أحضان امه الغالية … !
وبمرور الايام شعر ان قلب امه بدء يتغير ، ويميل اكثر الى الزوج الجديد الذي هامت به عشقاً ، واختفت نبرتها الودودة فجأةً ، وعندما حبلت ابتعد قلبها اكثر .. وظل يحس يوما بعد يوم ان قلب امه يزداد بعداً ، وناحية الرجل ونزواته وشبقه يقترب اكثر … حتى جاءت اللحظة التي شعر فيها ان الرجل قد اخذ منه امه كلها .. كما اخذ الموت منه اباه كله … !
وبعد فترة بدء الزوج يضيق بجحلو ، ويحاول بشتى الطرق أن يبعده عن الجو العائلي الجديد الذي اصبح فيه دخيلاً ، فاقترح على الام ان يترك المدرسة ، ويلتحق بورشة لصديق له لتصليح السيارات ، ويتعلم صنعة افضل من الدراسة التي يبدو انه يتعثر فيها ، رفض الطفل ان يترك مدرسته فاستجار بامه التي ايدت راي زوجها ، فانهارت فجأة كل آماله ، وفقد ثقته في كل شيء …
وعندما اثمر الزواج عن مولود جديد انقطعت تلك الشعرة الواهنة بين الولد وامه ، وبات يشعر بأنه اصبح مجرد اضافة لا لزوم لها .. فائضاً بل عقبةً .. فكانت امه توبخه وتعاقبه على ابسط حركة طفولية منه ، ولا تسمح له بالاقتراب من الطفل الجديد ، ودائمة التحذير له من أن يحدث أي ضجة قد توقظ الطفل من نومه …
تتحجر دموعه في عينيه ، ويراوده احساس غامر بالقهر ، وهو يرى معاملة امه له وقسوتها عليه .. ! واحيانا ينزوي ، ويبكي بكاءً مراً ، ولاول مرة يشعر باليُتم ، وبأنه اصبح فعلاً يتيماً تائهاً .. في بيت جديد لا يعرف افراده ، وعالم جديد لا يعرف ناسه .. يخطر على باله أبيه عندما كان يضمه الى صدره بحنان ، وانفاسه التي تلفح وجهه …
ويختفي جحلو فجأةً ، وكأن امه لم تلده .. !
يبحث عنه شقيقه فلاح في كل مكان ، لكن الولد وكأنه فص ملح وذاب .. انتشرت الاقاويل والاشاعات فمنهم من يقول بانه هام على وجهه في أرض الله الواسعة ، ومنهم من يؤكد بأنه حتماً مات في مكان ما ، أو قد يكون أحدٍ قد اختطفه …
يسمعون نهنهات الأم التي حمّلها البعض المسؤولية عن هروب الطفل ، لكنها تقول انها لم تفعل شيئا أكثر من أنها أخذت حقها الطبيعي في الزواج على سنة الله ورسوله .. ويبقى سر اختفاء جحلو لغزاً محيراً حتى اللحظة … !!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. في ذكرى رحيله الـ 20 ..الفنان محمود مرسي أحد العلامات البار


.. اعرف وصايا الفنانة بدرية طلبة لابنتها في ليلة زفافها




.. اجتماع «الصحافيين والتمثيليين» يوضح ضوابط تصوير الجنازات الع


.. الفيلم الوثائقي -طابا- - رحلة مصر لاستعادة الأرض




.. تعاون مثمر بين نقابة الصحفيين و الممثلين بشأن تنظيم العزاءا