الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شئ عن المدينة

رياض قاسم حسن العلي

2021 / 10 / 1
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


تنشأ المدن من حاجة الانسان الى الاستقرار والامان وتلعب عوامل عديدة على نشأة المدينة اهمها هو قربها من مصادر المياه او على سواحل البحار والخلجان فالمدن العراقية والمصرية تعرف بأنها مدن مائية بأمتياز ويمكن القول انها مدن طينية وليست حجرية كمدن الشام مثلاً .
وتنشأ المدينة من جود تجمعات بشرية كبيرة قرر لها ان تعيش معاً لظروف عديدة ويلعب العامل الديني اثراً مهماً في نشأة المدينة كما في مكة المكرمة والنجف الاشرف وكربلاء المقدسة وتنشأ بعض المدن لأسباب عسكرية فالعديد من المدن الاسلامية الاولى نشأت بكونها معسكرات للجيوش لارابط أجتماعي بين السكان الا الرابط العسكري كالبصرة والكوفة .
والمدينة تخطط وتتكون من الاستعمالات البشرية ومن البيئة الجغرافية وبعض المدن الجديدة تخطط لأغراض سياسية مدعومة بافكار أيديولوجية واضحة بحسب النظام الحاكم لكن بشكل عام فأن المدينة تنشأ من حاجات الانسان واجمل المدن هي التي يبنيها الانسان بدون اي تدخل ايديولوجي او سياسي او قرار اداري.
ولا يعني وجود مدينة ما انها مكان حضاري فالتحضر والتمدن مفاهيم فلسفية تنطلق من الانسان وليس من البناء فكثير من المدن يعيش فيها الانسان بنفس افكار البداوة والتخلف فأغلب مدن العراق حالياً تخلو من التحضر الثقافي وتغلب عليها النزعة الريفية بصبغتها البدوية وهذا ناتج عن نزوح غير مخطط له من الريف الى المدينة بدء منذ تأسيس الدولة العراقية وأستمر لغاية اليوم.
والمدينة تنشأ مع نشوء الدولة والسلطة ورغبة الانسان في العيش بمكان آمن ومستقر يلبي له حاجياته الضرورية والكمالية معاً ويخضع فيها للقانون دون تدخل وسائل الضبط العرفية والعشائرية وفي الفكر الاسلامي سعت الدولة الاسلامية الى انشاء المدن كتعبير عن السيادة السياسية والعسكرية والرغبة في انهاء حالة البداوة والتعرب التي تقف بالضد من فكرة السلطة والدين.
وبعض المدن تنشأ من لاشئ واخرى هي استمرار لمدن سابقة وتاريخية وغالباً ماتكون الاولى هي مدن استثمارية او سياسية او سياحية لا تبنى من اجل الانسان بل من اجل الدولة والطبقة الحاكمة او رأس المال بينما الثانية هي مدن انسانية بمعنى ان الانسان هو من اوجدها بناءا على تواصل تاريخي وثبات اجتماعي واستمرارية بشرية.
ولن تجد عبق التاريخ وروح الانسان الا في المدن القديمة كالقاهرة ودمشق وبغداد وصنعاء ولن تجد الحداثة ومابعدها الا في المدن الجديدة كدبي وابو ظبي والدوحة .
المدن العتيقة تتميز بشوارعها الضيقة والمتسخة وهي مدن مليئة بالناس واحدث بناء فيها يتجاوز السبعين عاماً والبشر فيها هم انفسهم من سكنوها عبر عشرات السنين في عوائل ممتدة لذلك تجدهم يتواصلون فيما بينهم بشكل واضح في كل المناسبات بينما المدن الجديدة تجد شوارعها عريضة ونظيفة لكن سكانها من كل بقاع الارض لأنها جاذبة وفي النفس الوقت لايحدث بين سكانها اي تواصل اجتماعي لذلك يقال ان من يعيش في المدينة الجديدة يعاني من اغتراب اجتماعي.
فمن يزور خان الخليلي سيعجب من كل تلك الضجة التي حوله بينما ستبقى عيونه شاهقة في السماء لارتفاع البنايات في دبي لكنه لن يجد رائحة التاريخ في تلك البنايات .
في بغداد مثلاً نجد انها نشأت بسبب قرار حاكم اراد منها ان تكون عاصمته الادارية في نزعة مركزية متوارثة وسرعان ما تجمع حولها الناس وتحولت الى مدينة حضارية انسانية لا تعبأ كثيراً لمركزية الدائرة التي تحتوي على قصر الحكم وادارات الدولة بل صارت لها مركزيتها الاخرى من خلال الاسواق والمظاهر الثقافية الاخرى التي بقيت لسنوات طويلة حتى اطيح بها من خلال الغزو المغولي. وفي العصر الحديث وبعد تأسيس العراق السياسي بدأت بغداد تأخذ طابعها الجديد غير متناسية ارثها القديم وهذا الارث يقسم الى قسمين الاول هو تراث قديم من عهد الدولة العباسية وارث متقدم نسبياً يتمثل بالمحلات القديمة التي نشأت على أمتداد القرون العشرة الاخيرة وهي المحلات السكنية التي تتميز بضيق ازقتها تفادياً لغزو رجال المحلات الاخرى وتفادياً لاشعة شمس بغداد الحارقة وتفتقر بغداد القديمة لأي معلم معماري واضح ومتميز باستثناء المدرسة المستنصرية والقشلة وهذه الاخيرة حديثة قياساً بالمستنصرية.
لكن السلطة الجديدة سعت الى انشاء مدن جديدة داخل بغداد اتسمت بالطابع الافقي الامتدادي لكنها بقيت بلا تمييز عن غيرها من المدن الجديدة في كل البلد فهي مجرد تجمع سكاني في وحدات سكنية كونكريتية لاروح فيها والعراقي بطبيعته لايحب السكن العمودي لذلك تتجه الحكومات الى التجمعات السكانية الافقية التي ستعاني فيما بعد من ضعف في الخدمات والبنى التحتية وانفجار سكاني واضح.
وتعرضت محال بغدادية قديمة الى التشويه كمحلة الشواكة التي هدم جزء كبير منها من اجل بناء شارع حيفا وعلى الرغم من جمال معمار هذا الشارع وحداثيته الصارخة لكنه لا يتلائم مع الاماكن المحيطة به حيث بقيت خلفية الشارع على حالها من الاهمال عكس ماحدث في محلة سوق حمادة التي اعيد بناءها بنفس الطراز القديم .
ولم يتبق من بغداد القديمة الا ذلك المربع الذي يمتد من بداية شارع الرشيد الى ساحة باب المعظم مع الاخذ بنظر الاعتبار محلة البتاووين التي شارفت على الانهيار.
ومما يلفت الانتباه الى المدن العراقية الجديدة بشكل عام هو افتقارها الى التميز العمراني والى اللمسة الجمالية فكل البيوت والعمارات والمحلات التجارية والاسواق هي نفسها في كل مكان.
في دبي التي لم تكن ذات شأن قبل خمسين عاماً نجدها بنيت على طراز غربي بالكامل الا في بقعة واحدة حيث اتخذ المعمار المحلي فيها بشئ من الاستحياء وهذا ينتج عن أن دبي ليست مدينة تاريخية بل هي مدينة استثمارية سياحية لم تبنى من اجل الانسان المحلي بل من اجل الوافد لذلك هي مدينة بلا روح على الرغم من انها توفر كل وسائل الراحة والبذخ للساكن فيها ودبي بنيت بقرارات سيادية وبتخطيط يراعى فيه التوسع المعماري المادي العمودي فدبي مدينة حداثوية بامتياز تقدم للأنسان كل ما يحتاجه من رفاهية عصرية لكن الوافد اليها يفكر بالخروج منها حال انتهاء حاجته منها.
في القاهرة نجد التميز المعماري في المدن القديمة نسبياً فباستثناء القاهرة القديمة يمكن لنا مشاهدة القاهرة الجديدة التي بنيت في القرن التاسع عشر مازالت موجودة في وسط البلد الذي كان والى وقت قريب الشريان الحيوي للقاهرة وتتميز منطقة وسط البلد بمعمارها الذي يقترب من المعمار الاوربي وخاصة الباريسي والايطالي لكن روح القاهرة الحقيقي يبدء من تلك الحواري العتيقة في العتبة وخان الخليلي والسكاكيني على الرغم من الاهمال الواضح والازدحام السكاني الفضيع الذي تعيشه بينما اسوء تجمع بشري في القاهرة فهو أمبابة فلا عمارة متميزة ولا شوارع نظيفة ولا أثر جمالي في أي شئ.
لكن يمكن القول ان القاهرة هي اكثر مدينة في الشرق بشكل عام متصالحة مع نفسها ولم تتعرض للتشويه المعماري .
ولكل مدينة فلسفة خاصة بها وهذه الفلسفة تقوم على الهوية والذاتية والخصوصية وعادة ما تهيمن مدينة ما على باقي المدن تبعاً لمركزيتها وتأثيرها السياسي والاقتصادي والديني والاجتماعي حتى ان بعض المدن تكون مهيمنة على العواصم كما في تركيا والولايات المتحدة والامارات العربية والمغرب والصين واخرى تكون متساوية مع العواصم في تلك الاهمية وبعض المدن تحولت الى دول مثل موناكو والكويت فهذه الاخيرة هي مدينة ساحلية نشأت من قبل الصياديين ورغبة بعض حكام الاحساء بجعلها مخزن للأسلحة لكنها سرعان مانمت وتكونت لبنة المدينة التي سيغلب عليها طابع التجارة والصيد فكما ان الميناء هو الذي منح دبي مكانتها الدولية فأن ميناء الكويت منحها امتيازاً بسبب تدهور الاوضاع في البصرة القريبة والتي سرعان ما انهارت ولم يبق منها الا الاسم التاريخي فقط.
والهوية عادة ماتكون للمدن القديمة فليس للمدن الحديثة هويات وخصوصية خاصة تلك التي تنشأ وتتكون بقرار من السلطة الحاكمة وهذه الهوية تنشأ بمرور الزمن وربما حتى المدن الجديدة ستكون لها هوية وذاتية بعد سنوات طويلة من نشوؤها.
وبعض المدن تزحف مكانياً بحيث تنسى مكانها القديم وتبدء في التكون بمكان قريب كالبصرة مثلاً التي بدءت في مكان ثم تحولت الى مكان ثاني وهذا التبدل يحدث عادة بعد انتهاء او انقراض اسباب نشوء المدينة في المكان القديم .
وثمة مدن انشأت بقرب المدن القديمة التي انحسر عنها الاهتمام والمركزية السابقة وتأخذ المدينة الجديدة نفس ادوار المدينة المجاورة وتنافسها في اغلب الاحيان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تظاهرات في جامعات أميركية على وقع الحرب في غزة | #مراسلو_سكا


.. طلبوا منه ماء فأحضر لهم طعاما.. غزي يقدم الطعام لصحفيين




.. اختتام اليوم الثاني من محاكمة ترمب بشأن قضية تزوير مستندات م


.. مجلس الشيوخ الأميركي يقر مساعدات بـ95 مليار دولار لإسرائيل و




.. شقيقة زعيم كوريا الشمالية: سنبني قوة عسكرية ساحقة