الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إضاءات على رواية أوتو للقاص العراقي خلدون السراي

رائد الحسْن

2021 / 10 / 2
الادب والفن


انتعشتْ وازدهرتْ في وادي الرافدين حضارات عظيمة وقامت دولٌ عديدة مثل: سومر وبابل وأكد وآشور وغيرها وتركت لنا ارثًا غنيًا، ومنها نصوص دينية واساطير تتحدَّث عن قصصٍ تقليدية ومقَّدسة تتكلم عن الآلهة، فالطبيعة الإنسانية منذ أمدٍ بعيد تبحث عن الهٍ أو آلهةٍ تستعين بهم لتصلي وتدعو إليهم لتتقبَّل قرابينهم وتطلب منهم لتباركهم وتسندهم وتساعدهم في حياتِهم العادية او في الملمَّات الصعبة، كظروفِ الطبيعة القاهِرة أو أن تطلبَ نصرتهم في المعاركِ الدفاعية للذَودِ عن مُدنهم وتجمُّعاتهم البشرية أو في المعاركِ الهجومية الثأرية أو حتى - العدوانية - التي كانت تسوَّق تحت أي مُسمَّى لإعطائها الشرعية وإضفاء المسوّغ القانوني لها.
ومِن آلهة وادي الرافدين هو الإله أوتو: (بحسب الأساطير السومرية هو إله الشمس والعدل وتطبيق القانون ورب الحقيقة، ذكر هذا الإله في ملحمة جلجامش وفي العصر البابلي القديم، هو الأخ التوأم لإنانا ملكة الجنة، معابده الرئيسية كانت في سيبار و لارسا، تم الإيمان بسكونه في الشمس وأنه المسؤول عن إشراق الشمس، وقد كان زوج الإلهة شيريدا أو أيا إلهة الخصوبة والجمال وألتي كانت المسؤولة عن تخصيب المزارع من خلال شمس أوتو، وقد أنجبا ولدين هما كيتو الذي يعني الحق وميشارو الذي يعني العدالة.)1
(نشأت الأسطورة من محاولات الإنسان إقامة علاقة مع الطبيعة من حوله، كانت تلك هي أول محاولة لتفسير الأشياء والظواهر، وعبرت عن اشتغال فكري محدود الأدوات عالي الخيال، وهو ما جعل الأدب يحتضن الأسطورة بكل رحابة وحماس، ورغم أن فن الرواية يعتبر حديثاً قياساً بالأجناس الأدبية من شعر ونثر، إلا أن توظيف الأسطورة اشتبك مع هذا الجنس الإبداعي الذي احتضنه وصنع منه سرديات ممتعة.
وقد رصد كتاب «النزوع الأسطوري في الرواية العربية المعاصرة» للدكتور نضال صالح عدداً من الأعمال الروائية الكبيرة والمميزة، التي صنعت حالة سردية مستمدة من الفضاء الأسطوري، منها: رواية «عودة الروح» لتوفيق الحكيم التي تتحدث عن الأساطير المصرية القديمة فيما يتعلق بالموت والحياة، وكذلك رواية «إيزيس وأوزوريس» لعبد المنعم محمد عمر، و«مارس يحرق معداته» لعيسى الناعوري، و«نرسيس» لأنور قصيباتي وغيرها، ثم كان التتويج والتناول الخلاق للتراث من قبل نجيب محفوظ، الذي أفردت له الكاتبة سناء شعلان دراسة كاملة بعنوان - الأسطورة في روايات نجيب محفوظ - )2
في هذا المنجز الأدبي، يوظف القاص الشاب خلدون السراي الأسطورة والموروث العراقي القديم في روايته أوتو.
أوتو بطل الرواية الذي يقوم برحلاتٍ عديدة في أماكنٍ ليست ببعيدةٍ عن المكان الذي أنشأتْه الاسطورة ويلتقي بشخوصٍ تعاني من مشاكل صعبة وأزمات حادة وظروف ليست بالهيّنة محاولًا حلّها واخراجهم من دوَّامتها وانقاذهم من أحوالهم البائسة، لكن يرى نفسه في كل مرَّة عاجزًا، ومُتألِّمًا لأنه غير قادر على تقديم يد العون وهو الاله الذي يطمح الى تحقيق العدل وإحقاق الحق.
استناد القاص على الأسطورة وتطويع شخصيتها الرئيسية – أوتو - لتتماهى وتنسجم وتتعاطى بإيجابية مع شخصيات تعيش في عالم واقعي، يعتبر من الأمور الصعبة، بحيث يُمزَج ما بين الخيال والواقع، ما بين الماضي المندثر والحاضر المتجدّد المتأزّم، يلتقيان وجها لوجهٍ ويستحضرهما ويضعاهما في زمكانٍ واحد، احداهما يمتدُّ عميقا بخيالِ الماضي السحيق والآخر يحيا بواقعِ الحاضر الراهن، يتطوَّر بأحداثٍ تتصاعَد ووقائع تتجدَّد وتفرز مُعطيات متغيّرة، وهنا يتطلّب براعة مِن القاص لجعل - الطرفين الرئيسيين في روايته - أوتو الاله الاسطوري من جهة والشخوص الآدمية الواقعية مِن جهة اخرى ، يبثُّ فيهما روحَ القدرة على التحاور والتفاعل والتعايش في أحداث يتفهّمان تفاصيلها، وبذاتِ الوقت يسعى القاصُّ دائما على احتفاظ كل طرف ببعده وخاصيته وكينونته المستقلة التي تميّزه عن الآخر، لتبقى دفّة الرواية تحت سيطرته لتشقّ عباب بحر السرد وصولا إلى شواطئ نهايتها، لتهب القارئ تلاقحًا وتلاقيًا للطرفين دون انصهار أو ذوبان لأيٍّ منهما، بين عبق الأسطورة التليدة مِن جهة و قوّة عطر حضور الشخوص الحية في زمننا الحاضر، من جهة أخرى.
عنوان الرواية يأخذك، منذ أوَّل وهلةٍ إلى عصورِ حضارة ما بين النهرين وكل ما وهبته للعالم وللإنسانية مِن سبق الإنجازات، ويجعلك تتنّفس تاريخًا عريقًا وأساطير كُتبت بعقلية داعبت حاجات ومتطلبات وأجواء ذاتية وموضوعية وبذهنية عبّرت عن إمكانيات وإبداعات وتفوّق خيال الانسان.
أجاد قاصّنا في اسقاط أحداثًا حقيقية وقعت في بلده الذي هو ذات بلد أوتو وصاغها على شكل رواية تُقرا على لسان الاله أوتو الذي استحضره من أعماق قعر يم التاريخ واستنطقه وبثَّ فيه الروحَ ليقوم برحلاته ليحاور شخوصًا ابتلاها القدر، أو القاص أرادها أن تكون مبتلاةً بحوادثٍ حكاها على ألسنتهم، وعشناها وكأننا معهم.
رحلات هذا الاله، سلطت الضوء على أهم حقيقة مؤلمة، ألا وهي ان الظلم مستمر وسيبقى مستمرًا، والعنصر الخيّر ليس بإمكانه - دائمًا - أن يقدّم المساعدة للمظلومين – مهما كان نوع الظلم الواقع عليهم - رغم رغبته الجامحة في التخفيف من آلامهم ومعاناتهم، وفي كلِّ زمان ومكان، المظلومين ينوحون ويتألمون وان اختلفت ملامحهم وان تعدّدت قصصهم وتلوّنت مظلومياتهم، ويبقى الظالم رافعًا سوط الظلم، يجلد به ضحاياه مُعبِّرًا عن ساديته الوحشية التي اقتناها مِن مصادر أسبغ عليها شرعية، أوهمَ بها الواهمين، وتقنّعَ بكلِّ أدوات وعوامل مكنَّته ومنحته القوّة على ظلمِ أخيه الانسان المَغلوب على امرِه الذي يساعده – دون أن يدري - في ايصاله لقمة الطغيان من خلال تمجيده ومنحه قدسية لا يستحقها وثقة لا يستأهلها.
انها قصص عديدة متداخلة برواية واحدة، تتخلّلها المُفاجئة وتضعنا في أجواءٍ عاطفية مَشحونة بأحاسيس متعدّدة ومختلفة... نتضامن مع ابطالها المغلوبين على أمرهم تارة، ونمقُت على شخوصِها المستهترين بكل القيم، أخرى.
سلَّط القاصُ فيها الضوءَ على مشاكلٍ عديدة :( التشوهات الخلقية الولّادية، استغلال رجال الدين لمكانتهم، زواج القاصرات، ظلم الأنظمة القمعية، العقم وعدم الانجاب، تصفية المعارضين، وغيرها)
رحلات عديدة لو تحدّثنا عن كلِّ جمالياتها ومهارة كاتبنا، الذي أجادَ توظيف الكلمات والمعاني ووضعها في سياقاتها المناسبة، لكتبنا صفحات كثيرة، لكننا سنسلط الضوءَ على جُملٍ أعجبتنا مِن حيث المعنى والمبنى، توضّح البراعة والحنكة في سردِ الحدث واختزاله وتصويره بجمالية أخاذة واضفاء الحِكمة على بعضها، بحيث تجعلك تحيا الواقعة مُستمتعًا بفصولها، حاضرًا مع شخوصِها.
ففي الرحلة الأولى نقرأ:
ص22:
(هكذا انتهت حياة الحاكم الذي ظلم شعبه لعشرات السنين، انتهت على يد مجنون لم يسبق له قتل حشرة، من يتوقع ذلك؟)
فعلًا من يتوقع أن يموت حاكم ظالم على يد مجنون، لم يخطط لذلك؟ مجنون بسيط فقير، لكنه القدر الذي مكَّنه مِن فعل مالم يقدر فعله الاصحاء، ضعيف بادر بفعلته مالم يقم به الأقوياء، وحجارة سدَّدها في مَقتلِ الحاكم، لم يرمِها رماة تدرّبوا على أفضلِ الأسلحة وأدقَّها، نهاية غير متوقّعة لحاكمٍ أنَّ الناس مِن ظلم حكمِه لعشراتِ السنين.
ص23:
(لا أعلم لماذا عندما جلست تذكرت الألواح، بات القلق يساورني، رميها في النهر سيجعلها تطفو على سطحه، كيف نسيت ذلك وأنا قطعت وعدًا لها..)
هذا الكلام هو عن لسان الاله أوتو، يتحدث مع نفسه ويساوره القلق، لأنه خشي على الالواح الطافية لئلا يسحبها أحدهم ويستخدمها، ندم على طريقة التخلص منها، خوفا من ان تدخل معاناة جديدة بعد ان وعدها خيرًا... وهنا الكاتب يشدّنا في تلك اللحظة ويجعلنا نتأمل بمحبة الاله وحرصه، وبذات الوقت جعلنا نسرح بخيالنا مع الالواح، ما عساها ستكون، والى اين ستؤول؟
ص24
(العيش في الوهم أحيانًا أعظم من المعرفة)
حكمة جميلة فعلًا، كم انسان عاش في أوهام وخيال وأكاذيب، ليحمي نفسه من معرفةٍ قاتلة وصدق مؤذٍ لكيانه... كم شخص فضّل النوم بأحلامٍ وردية زائفة، يستمتع بلذّتها على النهوضِ بواقعٍ مرير يخاف مِن كوابيسه.
في الرحلة الثانية نقرأ:
ص36
(آه لو تعلم كم شعرت بالقرف من نفسي حين قال ذلك الشاب وهو يحاول تبرئتي: نحن لا نتشرف بوجود الجبناء بيننا خاصة أمثال هذا الأمعة.)
جبان، أمعة، كلمتان جارحتان، حملتْ معهما بشائر البراءة... وصفٌ جميل ودقيق، لِما يختلج النفسَ البشرية – حينها -، ورغم الموقف المتأرجح بين الشعورِ بالجُبن والإحساس بالظلمِ في آن واحد، لكن رجولته انتفضتْ وأحسّ بالقرَف مِن نفسه مِن كلام الشاب الممزوج بدلائل براءته مِن ظلم التُهمة، مع إدانةٍ مِن شابٍ يمثّل آخرين، وقفوا ضد الظلم.
ص41
(ليرد وبكل هدوء: لم تتوقف عن الصراخ فقط، بل عن التنفس أيضًا!)
انه هدوء المفجوع، بكلِّ تأكيد في تلك اللحظة التي كان يروي مأساته، تسارعت وتراقصت أمام أعينه حركة صور تضجّ بالألم وتنضح بدموع القلب، أراد له ولابنته الأمان، فبدل أن تتوقف عن الصراخ، توقفت رئتاها عن التنفس، يا لها من كلماتٍ بليغة ومعاني صور حية، تجعلنا نحيا دقيقة – التوقف - بكل لحظاتها المُرّة.
في الرحلة الثانية نقرأ:
ص49
(كان فرحان يحب مناداتي بابتسامتي وأنا أناديه بفرحتي على الرغم من أن ابتسامتنا وفرحتنا لم تولد بعد!)
الزوجان فرحان وابتسام، انتظرا طويلًا ل - فرحة أو فرح - يلد، ليملأ بيتهما... نعم، الطفلُ هِبةً مِن السماء وهو ثمرة الزواج وفرح الزوجين، وكم من عائلة هوَت جدران حياتها الزوجية لسببِ عدم وجود طفل يملأ حياتهما بالبهجة، وكم مِن زوجٍ أو زوجة ضحَّت وصبرَت وفضَّلت سعادة الطرف الآخر والبقاء معه إلى آخر العمر على الطفل الذي لم يأتِ، انها الحياة وانها عطية الله وارادته.
ص69
(لأن من يعيش هناك عليه أن يوافق على أحد خيارين: أما ان يقف بوجه المدفع ليقتل، أو يقف خلف المدفع نفسه ويقتل ضميره وحياءه بكامل إرادته ليعيش مع بقية القطيع)
هما خياران لا ثالث لهما، أما مقتول أو قاتل، ليس للآخر فقط بل لضميره أيضًا، أما أن يقف مع القلة المناهضة الثائرة؛ فيُقتَل، أو يقف مع القطيع مُقادين مُضحّين بضميرِهم مشاركين لجلادِهم؛ فيقتل، يا لها مِن محنة كبيرة يحياها الانسان، في حياة تضيّق عليه خياراته وتحصرها وتنتزع منه أي خيار يعينه ليبقى انسانًا حقيقيا يعيش انسانيته الحقة.
ص82
(كي لا ترى أو تسمع ما حدث مرة أخرى كما حدث في الليلة السابقة وضعت شريطًا أسود حول عيني صديقتي الدمية)
براءة الطفلة ونقاؤها تلوَّثَا بزواجٍ ليس لأنها قاصر فحسب، بل لأنهم زوَّجوها برجلٍ مُسن بعمر جدها... خجلت مِن صديقتها الدمية، وحتى لا تنتبه لِما حدث مِن أمرٍ مُخجل؛ فوضعتْ شريطًا بلون الحزن والقهر والحياء حول عينيها... كم فتاة ضاع مُستقبلها وأفنت حياتها بسببِ زيجة مِن هذا النوع، أين حق الانسان في اختيار شريك حياةٍ يرافقه ويقضي معه أكثر من نصف عمره؟ كم فتاة ظلموها أهلها وعاشت البؤسَ والحرمان والضياع، انها صرخة يرفعها القاص على فم ولسان القاصرة المسكينة.
ص104
وتُختَتم الرواية بنهاية مفتوحة
(آه ... يا لخيبتي، سأعود وليحصل ما يحصل، سأعود بنفس الثقة التي جئت بها، يجب أن أكون صريحا معهم وأخبرهم بما حدث معي بالتفصيل ولن أكذب ... أجل لن أكذب)
انه تأوّه الخيبة الممزوج بإصرار الصادقين مع أنفسهم، والعودة بذاتِ الثقة التي جاء بها أوتو، سيقول الحقيقة كاملة؛ فنجاحه لم يُكمِن في رحلةٍ موفَّقة، بل بالصدقِ والصراحة والاتّضاع والاعتراف بالفشل ومواجهة الذات والآخرين بكلِّ سلبياتِ القدر والدنيا... فمفتاح السعادة وتحقيق العدالة يبدأ بالصدق، أجل الصدق ونبذ الكذب، فالصدق مفتاح النجاح والوصول للحقيقة؛ فمَن يمتلكه يمتلك مفاتيح الأبواب المغلقة.
1.. موسوعة ويكيبيديا
2.. الرواية والاسطورة / علاء الدين محمود – صحيفة الخليج الالكترونية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس


.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني




.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/