الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقاربة نقدية لطوفان الإدمان على المخدرات

مصعب قاسم عزاوي
طبيب و كاتب

(Mousab Kassem Azzawi)

2021 / 10 / 6
مقابلات و حوارات


حوار أجراه فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع في لندن مع مصعب قاسم عزاوي.

فريق دار الأكاديمية: ما هو برأيك المدخل الموضوعي الأكثر ملاءمة لمقاربة كارثة الإدمان على المخدرات التي تفتك بكل المجتمعات على امتداد الجغرافيا البشرية؟

مصعب قاسم عزاوي: هناك استعداد فطري لدى الإنسان لاتباع وتكرار أي سلوك قد يؤدي إلى مكافأة بالمفهوم الفيزيولوجي العصبي متمثلاً بزيادة الناقل العصبي الذي يدعى الدوبامين، والذي يرتفع بشكل طبيعي لدى قيام أي عضوية في مملكة الحيوانات الفقارية بأي سلوك قد يؤدي في المآل الأخير إلى تعزيز فرص تلك العضوية في البقاء على قيد الحياة، والتكاثر ونقل مورثاتها إلى الأجيال اللاحقة، والذي يمكن تسميته باختصار حفظ النوع بيولوجياً.
ومثال على ذلك ارتفاع الدوبامين عقب تناول أي كائن فقاري وجبة غنية بالمغذيات، أو عقب تلمسه قبولاً إيجابياً من محيطه الاجتماعي نتيجة لسلوك ما قد قام به، من قبيل الشعور بالرضا بعد مشاركته القطيع الذي ينتمي إليه الصيد الذي تمكن من الحصول عليه في يوم ما، أو لدى التواصل الحميمي مع كائن آخر يُشْعِر الكائن الأول بالطمأنينة والدعم الاجتماعي كما في التواصل الحميمي بين كل الكائنات الحية الفقارية (Grooming) الذي يمثل جزءاً مهماً من حيواتها، بالإضافة إلى التواصل الحميمي الجنسي الذي دونه ليس هناك إمكانية لحفظ النوع ومورثات الكائن الحي من الانقراض.
وذلك التوصيف الأخير هو المسؤول عن كارثة البدانة التي تجتاح الكثير من بقاع العالم، والتي تمثل في جوهرها ناتجاً طبيعياً للاستعداد الإدماني لدى بني البشر للإفراط في تناول الطعام الذي كان خاضعاً لقوانين الندرة والشح في سالف الأيام خلال تطور الإنسان بيولوجياً في مرحلة الجمع والصيد والالتقاط، والتي مثلت جل المرحلة التطورية التي قضاها بنو البشر في تطورهم بيولوجياً على امتداد سبعة ملايين من السنين، والتي لا تمثل حياة التمدن والتحضر الراهنة واقتصاد الوفرة السائد فيها ما لا يتجاوز رفة جفن لحظية في تلك المسيرة الطويلة، والتي على رغم محدوديتها الزمنية فإنها قد أنتجت تفارقاً لم تتمكن أدمغة البشر ببناها التطورية المصاغة بيولوجياً لأجل حفظ النوع من التكيف معها، وهو ما أدى إلى مشكلة نجمت عن اعتبار أي طعام مغذٍ وخاصة إن كان غنياً بالدهون والسكريات والأملاح وجميعها كانت شحيحة في غابر الأيام، وما ينتج عن تناوله من إفراز للناقل العصبي «الدوبامين» في الدماغ، بأنه مكافأة تستحق التوثيق في الدماغ، واتباع أي سلوك قد يؤدي إلى تكرارها لما لهذه المكافأة من أهمية في حفظ النوع من الاندثار جوعاً، وهو ما لا يتطابق مع واقع الحيوات المعاصرة في اقتصادات الوفرة، والتي أنتجت «إدماناً طعامياً» و «بدانة مستشرية» في كثير من المجتمعات وهي في جوهرها ظاهرة إدمانية بالتوصيف البيولوجي نتجت عن فعل بيولوجي مبتنى عضوياً في أدمغة البشر لا يمكن مقاومته إلا بفعل إرادي من بنى الدماغ الجديد والقشرة الدماغية بشكل واعٍ وإرادي، وهو ما قد يختلف بين البشر جراء اختلافات مورثية فيما بينهم، وجراء اختلاف البيئات الاجتماعية والتعليمية التي ينشؤون فيها، والتي لا تتيح الكثير منها تفتح الطاقات الفاعلة للدماغ المبدع والعقل النقدي الحر و«المناعة المعرفية» الضرورية لتمكين الفرد من التأمل و التفكر والاستبصار بقرارته، حيث أن معظم النظم الاجتماعية والتعليمية تؤسس لمبدأ الإنسان «الوديع» المُدَرَّبِ بشكل شبه حصري للاستحفاظ والاستذكار والترديد الببغائي واستلام التعليمات وتنفيذها دون التفكر النقدي بصحتها ومنطقيتها ونتائجها القريبة والبعيدة.
وجميع المواد التي يتم الإفراط باستخدامها بشكل إدماني تعمل بشكل مباشر على زيادة إفراز الناقل العصبي «الدوبامين» بشكل صنعي عبر تعزيز آليات إفراز الدوبامين في الدماغ أو تثبيط آلية تفككه في الدماغ، أو بشكل غير مباشر عبر تعزيز إفراز أو تثبيط تفكك نواقل عصبية أخرى مثل الأستيل كولين، والغلوتامات المرتبطين أساساً بتعزيز النشاط البدني والعقلي، والسيروتونين المرتبط أساساً بالشعور بالطمأنينة والقبول الاجتماعي للفرد وتلمس معنى حقيقي لحياة ووجود الفرد في حياته، والإندروفين المرتبط أساساً بتثبيط الشعور بالألم الجسدي أو المعنوي، والأكسيتوسين المرتبط أساساً بالإحساس بالمحبة الحميمية الأسرية والاجتماعية والإحساس بقيمة وجود الإنسان وتفاعله مع الآخرين. وجميع تلك المفاعيل الناجمة عن فعل النواقل العصبية في الدماغ البشري لا تحتاج إلى كثير من الاجتهاد لتَكَشُّفِ عدم الاكتراث بها في سياق النظم الاقتصادية الاجتماعية المبنية على شاكلة الاقتصادات الليبرالية المتوحشة المعولمة التي تنظر إلى الإنسان والمجتمعات بمنظار اجتماعي دارويني بربري يحول المجتمعات إلى غابة البقاء فيها للأشد فتكاً وبأساً، والإنسان فيها إلى ما يتفاخر به بعض غلاة التفكير الليبرالي الوحشي في الغرب وهو أن يكون «كلباً يأكل كلباً»، لا قيمة في منظاره لأي ما قد ينظر إليه بكونه معنوياً إنسانياً إن لم يكن له قيمة تسليعية في اقتصاد السوق يباع ويشرى بها.
وبالنظر إلى سيرة البشر أنفسهم وهم الذين تفننوا بتقتيل بعضهم واختراع أسلحة التدمير الشامل البيولوجية والكيميائية والنووية واستخدامها، وهم على نفس القياس الذين ما فتئوا يزدرون حيوات و كرامة كل المستضعفين من بني جنسهم لصالح تحقيق أهداف سياسية أو اقتصادية أو غيرها، فإن سعيهم في غِيِّهم إيغالاً لاستنباط الكثير من أنواع المواد الكيميائية التي تستغل تلك الثغرة التطورية في بنى دماغ البشر المرتبطة بالسعي الدائم لأي ما قد ينتج عنه ارتفاع للدوبامين في الدماغ سواء كان ذلك مخدرات صنعية قاتلة، أو ماكينات للمقامرة، أو مواقع للتواصل الاجتماعي تعمل جميعها على استغلال نقطة الضعف تلك بشكل شيطاني تدميري، لا يقل في وزره الأخلاقي عن وزر صناعة أسلحة التدمير الشامل، و ما هو إلا فصل متوقع في طيات تلك السيرة المخزية البائسة؛ مع الإشارة الضرورية إلى أن معظم المخدرات التقليدية التي أصبحت شبه بائدة في سوق المخدرات العالمي راهناً تم تطويرها في سياق محاولة تصنيع مسكنات للألم وخاصة لألم الجنود جراء جروحهم البليغة في سياق تفنن بني البشر في تقتيل بعضهم على مر التاريخ.
ولا بد أيضاً من التنويه إلى أن حالة الإدمان حالة يومية لا بد من النظر إليها بشكل عقلاني وموضوعي ومنصف، فلا فرق بين الإدمان على مشتقات الكافيين من القهوة والشاي والمتة، وهي قريبة جداً في فعلها الكيميائي على المستوى العصبي في الدماغ من فعل الإدمان على الحشيش وعلى القات بدرجة أقل. ولا فرق من الناحية العلمية والفيزيولوجية بين الإدمان على التدخين ورافعات المزاج كالكوكايين والأمفيتامين وبين الإدمان على الحشيش والقات سوى أن المجموعة الأولى إدمانها جسدي يؤدي إلى اعتياد على المادة المخدرة، وإلى أعراض انسحابية قاتلة في بعض الأحيان في حال التوقف عن استهلاك تلك المادة المخدرة، عدا عن كون التدخين السبب الأول في أكثر من 90% من سرطانات الرئة على المستوى الكوني والكثير من أمراض الجهاز القلبي والوعائي والاستقلابي؛ بينما الإدمان على الحشيش والقات هو إدمان نفسي لا يرافقه أي إدمان جسدي فعلي يؤدي إلى اعتياد أو أعراض انسحابية قاتلة كما هو الحال في المجموعة الأولى السالفة الذكر.
ولذلك فإن النظرة المحقة إلى طوفان الكوارث الإدمانية في المجتمعات على المستوى العالمي يجب أن تنطلق من أنه واقع مختل ناتج عن تطور الإنسان بيولوجياً للحفاظ على نوعه في بيئة الجمع والصيد والالتقاط التي تخالف شروطها شروط الحياة الراهنة، وهو ما تم مفاقمته باستغلال نقطة الضعف التطورية تلك في اقتصاد الرأسمالية المتوحش المعولم الذي حول البشر من مستهلكين عرضيين بين الفينة والأخرى لما قد يملأ بطونهم حتى عراها، أو لرشفة قهوة أو شاي لم يعرفوها قبل القرن الخامس عشر، أو نافخين أو ماضغين لبعض ما توفر من تبغ في بعض المجتمعات في أمريكا اللاتينية قبل حلول طاعون الغزاة الأوربيين عليها، لتصبح جميعها ظواهر إدمانية يومية أنتجت بدانة مفرطة جراء استغلال نمط الإنتاج الرأسمالي المعولم لنقاط ضعف الإنسان عبر نمط الوجبات السريعة التي تضرب بعنف على ميل الإنسان الغريزي لاستهلاك كل ما هو غني بالدسم والسكريات والأملاح بغض النظر عن عقابيل ذلك الصحية، بالإضافة إلى تحويل المليارات من البشر إلى مدمنين على التدخين والقهوة والشاي والذي لأجله قام البريطانيون بغزو الصين في العام 1839 لأجل إرغامهم على فتح أسواقهم لتصدير خشخاش الأفيون إلى الصين، ورفع حظر استهلاك مواطنيها لتلك المخدرات التي كانت الناتج الوحيد الذي كان يمكن إيجاد سوق له في الصين التي كانت تزرع وتنتج كل ما يحتاجه شعبها دون الأفيون الذي كان محظوراً إنتاجه أو استهلاكه. وهو الواقع التاريخي الذي يعيد نفسه في الحروب الاقتصادية التي تشنها الاقتصادات الغربية على أي دولة نامية تحاول الحد من تدفق التبغ المصنع غربياً إلى أسواقها، ولجم الدعاية والتسويق له، أو حتى التحذير من عقابيله المرضية المهولة من سرطانات وغيرها على علب سجائره كما هو الحال في الغرب.
ولذلك أعتقد أن الخيار الأخلاقي والعلمي والإنساني يقتضي النظر بمنظار شمولي واحد إلى الظاهرة الإدمانية طبياً واجتماعياً يعيد تعريف المدمنين بكونهم ضحايا أخطاء تاريخية واجتماعية في تعريف الإدمان وتجريم المدمنين والمعاملة التفريقية غير الأخلاقية بين أنواع الإدمان أدى إلى تحويل الكثير من أولئك الضحايا إلى مجرمين، وهم في الحقيقة يستحقون كل الدعم والمساندة من محيطهم الاجتماعي الأسري والأعرض منه في المجتمع. وكمثال مبسط على ذلك نشير إلى المخدر الإدماني المعروف باسم «Ecstasy» والذي ينتج عنه ارتفاع في الناقل العصبي السيروتونين وبشكل أكثر الناقل العصبي الأكسيتوسين في الدماغ إلى درجة يمكن إدراكها بشكل طبيعي عند وجود الفرد في محيط اجتماعي وأسري حميم محب ومتعاطف ومتفهم دون ترك الفرد للتحول إلى «مجرد شيء» في محيطه الاجتماعي الأسري والعاطفي الحميم ليس له من نصير سوى هاتفه المحمول في أحسن الأحوال، ومعزولاً لوحده ليواجه عسف المجتمعات التي الكل فيها «كلب يأكل كلباً» بحسب نهج الرأسمالية الليبرالية المعولمة.
وكمثال آخر نشير إلى المخدرات التقليدية كالمورفين والهرويين، والتي تأثيرها الشمقي عبر تحقيق نشوة ناجمة عن تدفق الدوبامين في الدماغ محدود جداً، بالمقارنة مع المخدرات من فئة الكوكايين التي تعمل بشكل انتقائي لزيادة نسبة الدوبامين عبر تثبيط تفككه في الدماغ، حيث أن المورفين والهرويين أساساً مسكنان للألم الجسدي والنفسي حيث أن الألمين النفسي والجسدي من الناحية العصبية في الدماغ لا يفترقان إلا لماماً؛ وهو ما يقود إلى الاستنتاج بأن الهروب إلى استهلاك المورفين والهرويين أساساً هو لتهدئة ألم ومعاناة نفسية مقيمة في وجدان الفرد المدمن، والتي كان من الممكن تحقيقها بشكل يوازي أو يزيد عن فعل جرعة المورفين التي يستهلكها عبر التعاطف والتعاضد الاجتماعي مع معاناته من محيطه الأسري والاجتماعي الذي تركه يحترق في معاناته وحيداً دون تمكنه من الحصول على التعاطف الوجداني الفطري بين بني البشر، والتي تستطيع تحريض أدمغتهم حين تراحمهم وتعاطفهم فيما بينهم وقت الشدائد لإفراز النواقل العصبية من فئة «المورفينات الداخلية»، وعلى رأسها الناقل العصبي البروتيني «الإندورفين» والذي يعمل كمسكن ألم يفرزه البدن والدماغ ذاتياً، ويفعل فعل المورفين أو أكثر في تسكين المعاناة النفسية والجسدية في بدن أي إنسان. ولا بد في هذا السياق من الإشارة إلى أن المجتمعات المعاصرة بتركيبتها القائمة على تكريس تسلط وهيمنة فئة بشرية على أخرى، والتقاليد الضرورية لتوطيد ذلك أسهمت في تحويل البشر إلى كائنات شبه مستقيلة من حقيقتها البيولوجية كحيوانات اجتماعية بامتياز، تحتاج للتواصل الحسي الملموس فيما بينها كما تفعل كل الحيوانات الأولية الأخرى وهو ما لا تستطيع توفيره «حضارة» التواصل الافتراضي بين البشر عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي الشيطانية التي تستغل كل نقاط ضعف بني البشر، واستعدادهم الفطري لتحقيق الرضا والقبول الاجتماعي، وما يرتبط به من زيادة لإفراز الدوبامين في الدماغ عبر زيادة عدد «الإعجابات الافتراضية» التي جلها من نتاج الذكاء الاصطناعي لضمان «اصطياد الزائر» عبر تحويله إلى مدمن لوسائل التواصل الاجتماعي باستغلال الميل الفطري لدى بني البشر لتعزيز قبولهم اجتماعياً.
وقد يستقيم الإشارة إلى أن البشر الحاليين محرومون من الفضائل التي تنطوي عليها بيولوجيتهم الطبيعية، من قبيل حقيقة أن العناق الودود بين بني البشر والتواصل الحميمي العطوف غير المشوب بأي نوازع انتهازية كفيل بأن يؤمن مؤونتهم التي يحتاجونها من السيروتونين والأكسيتوسين والدوبامين في كثير من الأحيان، ويعزز من مناعتهم البيولوجية تجاه مغريات الإدمان، بالإضافة إلى تعزيز قدرات جهازهم المناعي لمقاومة الأمراض وهي ميزة مضمرة أخرى تكاد تذوي في سياق أزمة «التمدن الزائف» التي يكابدها بنو البشر.
وقد يكون نزع الصفة الجرمية عن بعض ما يتم تصنيفه في خانة المخدرات من قبيل الحشيش والقات بشكل ممنهج ومنظم اجتماعياً هو الحل الأبسط الذي يمكن اتباعه لتخفيف كارثة وباء الإدمان الذي يجتاح كل المجتمعات عالمياً، وذلك حيث أن حظر المخدرات الكتلية التي لها حجم كبير من قبيل الحشيش والقات سوف يؤدي إلى تكيف الشبكات الإجرامية مع ذلك بالتحول إلى تهريب أنواع من المخدرات الصِّغَرِيَّةِ التي تكفي بضعة ميللي جرامات منها لإحداث آثار مضاعفة عن تلك التي تحدثها المخدرات الكتلية كالحشيش، والذي ينحصر الإدمان عليه بكونه اعتياداً نفسياً دون أي عقابيل جسدية تذكر تجعله أقل خطورة بكثير من الإدمان على التدخين أو مشتقات الكافيين كالقهوة والشاي كحد أدنى.
وإتاحة تلك المخدرات الكتلية الرخيصة كالحشيش والقات بشكل مقنن ومنظم يضمن عدم الاحتكار والاستغلال للمستهلكين بالإضافة إلى تحديد الكميات التي يمكن استهلاكها سوف يؤدي بشكل عملي وفق قوانين الرأسمالية نفسها إلى تقليل استهلاك المخدرات الصِّغَرِيَّةِ والصنعية منها التي تفنن المجرمون في أشكالها وألوانها ومسمياتها وأسعارها الفلكية حيث أن العملة الرخيصة سوف تطرد العملات الباهظة الثمن وفق المبدأ الرأسمالي المبسط، وهو ما قد يوفر على المجتمعات بشكل عملي المعاناة المهولة لإدمان أبنائها على تلك المخدرات الصنعية الصِّغَرِيَّةِ.
ومن ناحية أخرى فإن السعي لإيجاد حل جذري أو سياسات تخفف من حدة طوفان الإدمان وعقابيله الاجتماعية يجب أن ينطلق أساساً من السعي لعلاج الأسباب الاجتماعية التي أدت إلى ذلك الطوفان، حيث أن انعدام الآفاق والبؤس المقيم والبطالة المستشرية والإحساس بغياب أي معنى حقيقي لوجود الفرد في حياته وأي أهداف مرتبطة بذلك تمثل خلاصة أهداف ذلك الفرد في سيرورة حياته، لا يمكن أن تؤدي إلا إلى حالة من الألم والمعاناة النفسية العميمة في أدمغة الأجيال التي تكابد كل تلك الأهوال التي قد تبدو للكثير منهم بأنها تمظهر عياني مشخص للجحيم الأخروي في الحياة الدنيا. وذلك النموذج من الألم النفسي المقيم في دماغ الإنسان يعادل ويتجاوز في الكثير من الأحيان الآلام المحرضة فيزيائياً في الجسد، وكلاهما ينتجان من تحفيز نفس المراكز الدماغية، بما يعني أنه من الناحية الفيزيولوجية الدماغية لا فرق عملياً بين ألم جسدي وآخر نفسي، ويعني أن الآلام النفسية قد تكون مبرحة في دماغ صاحبها بنفس المستوى الذي تكون عليه أشد الآلام الجسدية؛ وهو ما يفتح كل الأبواب على مصاريعها عند كل أولئك الذين يكابدون كل أشكال وتلاوين وصنوف التعذيب النفسي في حيواتهم المغلقة الأبواب للبحث عن أي وسيلة لتخفيف أوجاعهم النفسية بنفس نموذج السعي المحموم الذي يسعى إليه كل إنسان يكابد ألماً جسدياً مبرحاً لتسكين عذاباته، والذي للأسف الشديد لما تصل كشوف البشرية إلى مسكنات للألم الجسدي والنفسي أقوى من تلك ذات الفعل الإدماني وبشكل خاص المشتقة من الأفيون، والتي ليس سواها من دواء لأجيال بأكملها غارقة في حالة من السقام الجمعي الذي لا شفاء منه بنظرهم المحزون، و الذي يرقى في كثير من المجتمعات الحطامية إلى درجة الاكتئاب الجمعي الراسخ الذي يُصَيَّر الإنسان فيها إلى ساع ممسوس ليس له من هدف في حياته سوى السعي لتخفيف أوجاعه و قروحه المعنوية و النفسية بأي شكل كان حتى لو كان إدماناً على السم الزعاف بعينه.
وفي نفس ذلك السياق الأخير تجدر ملاحظة التفارق الملحوظ بين معدلات الإدمان القائمة في الدول الغنية وتلك الأخرى في الدول المفقرة المنهوبة والتي هي دائماً أعلى من تلك الأولى في الغالبية المطلقة من الحالات والإحصائيات، وهو ما يدل على أن حالة انعدام الأفق للأجيال الشابة في الدول النامية تمثل الزناد القادح لاستشراء ظاهرة الإدمان، بينما الحال مختلفة في الدول المتقدمة، على الرغم من استفحال ظاهرة الإدمان في مجتمعاتها، بشكل لا يرقى إلى مستوى الدول النامية في غالب الأحوال، إذ أن هناك مداخل للأجيال الشابة للاجتهاد والعمل الدؤوب لإيجاد قيمة ومعنى وهدف في حيوات أفرادها، مما قد يتيح لأي منهم على الرغم من الصعوبات الجمة التي قد يواجهها فرصة لاتخاذ قرارات فاعلة وواعية ترتبط بمستقبله وحياته وسبل ترقيتها وحفظها، في تفارق عن حالة الألم والمعاناة النفسية المقيمة التي يعاني منها جل الفئات الشابة في الدول المفقرة المنهوبة والذين لا خيار فيزيولوجياً لهم من الناحية الواقعية سوى السعي المحموم لتسكين آلامهم النفسية عبر أي طريق حتى لو كان طريق الإدمان الذي لا عودة منه.
وقد يكون الحل الأكثر عملية وبساطة لوقف طوفان الإدمان على المستوى الكوني هو وقف عمليات غسيل الأموال المنظمة التي تقوم بها كبرى المؤسسات المالية العالمية جهاراً نهاراً ويتم الكشف عنها بين الحين والآخر في الصحافة العالمية من باب سد الذرائع، حيث لا يمثل ما يتم الكشف عنه سوى قمة جبل الجليد، والتي يتم معالجتها عبر معاقبة شكلية لهذه المؤسسة المالية العملاقة أو تلك كما حدث مع مصرف ((HSBC والبنك الألماني (Deutsche Bank) حيث تنتهي الفقاعة بدفع غرامة مالية محدودة ليس لا وزن فعلياً لها بالمقارنة مع القيمة السوقية المهولة ورأس المال المالي الذي تسيطر عليه أي من تلك المؤسسات المالية العملاقة التي تعمل عبر أذرعها وفروعها وشبكة شركائها الأخطبوطية على المستوى الكوني لمأسسة وأتمتة عمليات غسيل الأموال بشكل حرفي متقن، لا ضير في عودته إلى الأشكال البدائية له حين تستدعي الضرورة ذلك كما في قصص أكوام وأكياس الدولارات التي يتم إيداعها في فروع تلك المؤسسات المالية في دول أمريكا اللاتينية دون أن يسأل أي موظف فيها أولئك المودعين عن المصدر الذي تحصلوا عن طريقه على تلك القيمة المهولة من الأموال السائلة.
وبشكل أكثر تدقيقاً لا بد من مكافحة غسيل الأموال القذرة بشكل يعيد تعريف تلك المهمة ويغير وجهتها من فعل موجه مبئر على المساكين المفقرين الذين قد يصبح أي منهم كبش فداء لإظهار صلادة والتزام النظم السياسية في أرجاء المعمورة بمكافحة الأنشطة اللامشروعة، بينما هي مغرقة في التفنن في إبداعات غض النظر عن ممارسات الأقوياء والأثرياء الذين تكفي سلطتهم ومكانتهم المالية لتجعلهم في مكانة القديسين المنزهين عن الخطل والزلل، وهم الذين لا يفوتون هنيهة للتفكر والتدبر في آليات مبتكرة لتزويق كل أشكال الاحتيال المالي والمداهنات وغسيل الأموال وإظهارها بلبوس ومسميات وألقاب غرائبية على طريقة ومنهج «المشتقات المالية» أو باللغة الإنجليزية «Financial Derivatives» و«المعاملات المالية المعادة التعبئة» أو باللغة الإنجليزية «Repackaged Financial Transactions» أو «الأسهم والملكيات المهيكلة» أو باللغة الإنجليزية «Structured Shares and Equity» والتي لا يعني أياً منها شيئاً سوى فنوناً من النصب البهلواني العجيب لإخفاء الهوية الحقيقية للآليات الرأسمالية الوحشية التي تتم بها صناعة الثروات المالية بشكل غير أخلاقي وخلبي في الغالبية المطلقة من الأحيان، وبشكل إجرامي في كثير من الأحايين.
وهو ما يستدعي أيضاً وقف استخدام سيف ومقصلة مكافحة غسيل الأموال لتجريم أي معارض أو ناشط أو صحفي أو منظمة مجتمع مدني بادعاءات واهية ومختلقة ومصطنعة حول مبالغ مجهرية تم تبادلها بين مفقرين يحاولون التعاضد فيما بينهم للبقاء على قيد الحياة، وهو ما قد ترى فيه السلطات «جريمة فحشاء» تهدف إلى إخفاء «أهداف تخريبية مضمرة» تسعى لإخفاء المصدر الحقيقي لما تم تبادله بين المستضعفين، وتحولهم بقوة القمع لا المنطق إلى متهمين بغسيل الأموال، أو في بعض الأحيان لزيادة الجاذبية الإعلامية الضرورية إلى مادة دسمة و«خبر عاجل» ينطوي على الإعلان عن القبض على «أكباش الفداء الضروريين» الذين يتم تحويلهم إلى ممولين «لغيلان الإرهاب» كما في الأخبار التافهة التي تملأ صفحات وسائل الإعلام المتسيدة، والتي لا بد منها لإملاء تلك الصفحات وإشاحة مآقي النظارة عن أسباب عوار المجتمعات المؤوفة التي تحولت إلى سجون كبيرة يعيشون فيها.
وفي نفس السياق، لا بد أيضاً للحد من طوفان الإدمان الكوني، العمل لوقف سبل الإمداد لصناعة الكثير من مشتقات المواد المخدرة، وخاصة فيما يتعلق بزراعة الأفيون في مناطق شاسعة من أرجاء الكرة الأرضية، وخاصة تلك الدول التي تم تحويلها إلى دول فاشلة بامتياز سواء عبر ما تعرضت له من تهشيم منظم بالآلة العسكرية الرأسمالية الوحشية المعولمة أو عبر آليات اقتصاد السوق القائمة على إغراق الأسواق المحلية التي تم فتحها بالقوة العسكرية أو عبر التخويف بها، بالمنتجات الزراعية المدعومة من قِبَل الحكومات الغربية وخاصة تلك الأمريكية، والتي أدت إلى كساد شبه كلي للزراعات المحلية التي لا تستطيع منافسة المنتجات الزراعية المدعومة من قِبَل الحكومات الغربية، وهو ما أدى إلى إرغام الكثير من المزارعين في دول العالم الثالث للسعي إلى التناغم مع قوانين الاقتصاد الرأسمالي المتوحش والبحث عن المنتج الزراعي الذي يمكن لهم إنتاجه ويمكن أن يجد له سوقاً لتصريفه وفق نهج تلك القوانين المتوحشة، والذي يبدو أن استخلاصات المجرمين الأوائل في استنباطاتهم إبان شنهم حرب الأفيون في العام 1839 على الصين لإرغامها على استيراد المنتج الوحيد الذي لم تكن تنتجه لما له من أضرار على شعبها، لا تزال صالحة وفق قوانين الرأسمالية العولمية المتوحشة التي ليس في قائمة أهدافها سوى هدف واحد اسمه «الربح السريع» بغض النظر عن أي خسائر جانبية لا بد من حدوثها لتحقيقه، حتى لو كانت حيوات مجتمعات بأكملها بيولوجياً وبيئياً، وهو ما يبرر ويفسر نزوع الكثير من أولئك المزارعين لزراعة خشخاش الأفيون سيراً على هدي «المبشرين الأوائل» بقوانين الرأسمالية الإمبريالية المتوحشة، والتي لا حل لتوازنها المختل المؤوف إلا بإعادة الاعتبار لحق المجتمعات في الدفاع عن صناعاتها الوطنية وحمايتها، ودعم نتاجها الوطني وخاصة الزراعي لضمان حياة كريمة لكل من ينخرط في صيرورة ذلك الإنتاج وعدم اضطراره للخضوع لقوانين «الانفتاح الاقتصادي بالقوة» والوقوع بين خياري الموت جوعاً أو زراعة خشخاش الأفيون كسبيل أوحد للبقاء على قيد الحياة لإنسان لا يعرف سوى الزراعة حرفة ومهنة.
ولا بد أن لا يتم إهمال حقيقة استفادة معظم الأجهزة الأمنية على المستوى العالمي وخاصة في دول الجنوب المفقر المنهوب، وبشكل بارز في العالم العربي، من دورها الوظيفي المناط بها لحماية وتكريس هيمنة الأقوياء الأثرياء على المستضعفين المفقرين، سواء بشكل منمق بتزويقات اللعبة الديموقراطية الشكلية في الغرب، أو على الطريقة الفظة الهمجية للأجهزة الأمنية العربية، والذي في مقابله تحصل على يد مطلقة في الفساد والإفساد، والإثراء غير المشروع، والذي ليس من طريق أسهل لإدراكه سوى أخذ دور «الرجل الكبير» الذي لا بد إرضائه عبر دفع «الإتاوات» اللازمة من كل المشتغلين بالأنشطة اللاشرعية سواء كانت صناعة وترويجاً للمخدرات بصنوفها، و ما كان على شاكلتها كالدعارة، وتجارة الأسلحة.
وهو ما يعيدنا إلى أن الاستبداد هو أس معظم علل وعيوب المجتمعات حيث لا يولد البشر أشراراً أو أخياراً وإنما حيوانات اجتماعية مبرمجة تطورياً للحفاظ على نفسها وذريتها من الفناء بأكثر الوسائل نجاعة في ذلك حتى لو اقتضى ذلك تحول كل منهم إلى «الشيطان الرجيم» أو وفق النهج الرأسمالي الوحشي المعولم إلى «كلب يأكل كلباً» في مجتمع هو غابة محضة البقاء فيها للأكثر فتكاً وضراوة، وليس في قاموس الاستبداد والهيمنة أشد ضراوة من «أجهزتها الأمنية» وأدواتها القمعية.
ويلتقي مع نفس السياق الأخير الإشارة الضرورية إلى أن معظم المليشيات والتنظيمات العسكرية وشبه العسكرية المستشرية في الدول الفاشلة التي هشمتها آلة الرأسمالية الوحشية المعولمة لإدماجها بالقوة في عداد المجتمعات المستباحة والمسروقة بقوة الحديد والنار، والكثير من هذه الدول يقع في منطقة غرب آسيا والقارتين الإفريقية والأمريكية الجنوبية، تقوم بتمويل وجودها وعملياتها وكوادرها عبر الانخراط العميق في زراعة وصناعة والاتجار بالمخدرات، حيث أنها السبيل الوحيد الذي يدر دخلاً كافياً يضمن بقاءها في ظل الهشيم الاجتماعي الذي تنشط فيه، والذي يفرض جهوداً مضاعفة لا يمكن لعاقل أن يقلل من حجمها الجلمودي والتي تقتضي رتق جروح المجتمعات المهشمة بمفاعيل الآلة العسكرية الإمبريالية، واستئصال البنى الاجتماعية الطفيلية التي اشرأبت في ظل تغييب قدرات المجتمع على منعها من الإطلال بوجها القبيح إلى العلن، وهي المهمات التي دون القيام بها سوف يبقى البشر «المواطنون في غابر الأيام» فريسة سهلة لكل الفئات الطفيلية الغازية للمجتمع التي تجتاحه عمقاً وسطحاً عبر مفاعيلها الجهنمية و التي تنطوي دون تغاير على هدف تحويل كل أولئك البشر إلى مدمنين محتملين لا بد من تسويق نتاجها الشيطاني لهم أسوة بما تفعله الشركات العابرة للقارات التي ما فتئت تسوق كل ما هو مضر بالإنسان وعلى رأس قائمته الترويج للتدخين الذي أصبحت الغالبية المطلقة في الكثير من الدول النامية من مستهلكيه الإدمانيين غير القادرين على الانعتاق من حبائله.
وأخيراً لا بد من التطرق إلى الغياب شبه المطلق لدور مؤسسات التعليم بمختلف مستوياتها في التنوير وتشكيل «المناعة المعرفية» للإنسان التي تمكنه من استخدام قدرات الدماغ الجديد في بني البشر الذي يميزهم عن باقي الحيوانات في مملكة الثدييات، عبر تفعيل قدرته على التحليل والتنقيب المجتهد عن الحقيقة، ومحاكمة ما يرد إليه من معارف لفرز الغث عن السمين منها، وهي القدرات الوحيدة التي تمكن المتحصن بها معرفياً من الدفاع عن نفسه بقدراته الذاتية البسيطة لمحاولة عدم الانجراف مع سيل ظاهرة الإدمان. وهو الواقع المأساوي المكرس بشكل شامل عمقاً وسطحاً في غالب النظم التعليمية على المستوى العالمي، وبشكل أكثر بؤساً وسوداوية في العالم العربي، حيث ينحصر دور العملية التعليمية في منطق اقتصاد السوق الذي يسعى إلى تحقيق أهداف «الربح السريع» بأقل التكاليف وأقصر المدد الزمنية، و هو ما يفصح عن نفسه في عملية «التدريس لأجل تجاوز الامتحان»، وتعليم المهارات الأساسية التي تمكن المتخرج من العمل كبرغي لا بد منه في عجلة الإنتاج لأجل تحقيق «الربح السريع»، والذي لا قيمة مضافة في سياقه يمكن أن تنتج عن مهارات وخبرات «العقل النقدي» و«المناعة المعرفية»، وفي حالة الكثير من مجتمعات العالم العربي فإن نتاج العملية التعليمية لا يرقى حتى إلى درجة «صناعة البراغي الصالحة» للعمل في جسد الإنتاج وفق قوانين اقتصاد السوق المتوحش، وإنما يتدرك إلى حضيض السعي لتحصيل الشهادة العلمية بأي شكل كان لتعليقها على الجدار والتباهي بها، والدخول بناء عليها في جسم البطالة المقنعة في أحسن الأحوال غير الانتهازية، أو الانخراط في جسم الآلة البيروقراطية القمعية للدول الأمنية العربية للترقي في دور وظيفي كجلاد أو بصاص أو رقيب أو محتسب للحفاظ على ديمومة الاستبداد وتغول الدولة الأمنية على كل تفاصيل المجتمع وبشره عمقاً وسطحاً، وما يجلبه ذلك من منافع انتهازية له وشرور على مجتمعه ليس أقلها استشراء الإدمان فيه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الخبز يعيد بارقة الأمل الى سكان غزة | الأخبار


.. التصعيد الإسرائيلي الإيراني يضع دول المنطقة أمام تحديات سياس




.. العاهل الأردني: الأردن لن يكون ساحة معركة لأي جهة وأمنه فوق


.. هل على الدول الخليجية الانحياز في المواجهة بين إيران وإسرائي




.. شهداء وجرحى جراء قصف قوات الاحتلال سوق مخيم المغازي وسط قطاع