الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


(غذاء السمك لمؤمن سمير) الشعر بوصفه اجتهاداً جمالياً تحرر من السياق بقلم/ محمد يونس(العراق)

مؤمن سمير
شاعر وكاتب مصري

(Moemen Samir)

2021 / 10 / 7
الادب والفن


* تناصات المجاز السطري :
بعدما طرحت الدادائية التفسيرات الجديدة للشكل، قد تمكنت من هدم الشكل القديم للكتابة الشاعرية الرومانسي والغنائي، وحلت محله أشكال توصيفية لمعنى الشعري، وقد تأثرت الأنواع الشعرية الموزونة والأخرى التي تمتلك موسيقى بدلاً من الوزن، وتشكَّل انهيار الشكل القديم بسبب موجة الحداثة الجديدة العاتية، في إحداث تحولات في نفس الحس الشعري والذائقة أيضاً, وكما تغير الوعي الشعري واختلفت مفاهيمه، واختلف الوعي الجمالي للشعر.. وأكثر ما تغير لسانيات اللغة الشعرية، حيث لم تعد تلك اللغة العذبة والشفافة, واستبدلتها لغة جريئة لا تهتم أن تضع المعنى في عنق زجاجة وترمي به الى البحر، وتلك اللغة ليست في الموازين الشعرية إلا طارئ حساس وملتبس، فتلك اللغة غيرت الموازين بعدما جعلت القبح يكون مضموناً جمالياً، وقد منح الشعر النثري تلك اللغة الحرية التامة في خلق صور شعرية جديرة بها ولا يهم أن تعارض الذائقة العامة أو المنطق الشعري التاريخي، وقد تكون الكتابة الشعرية الجديدة انحرفت عن المسار العام كثيراً، لكن ربما كي لا تكون تكراراً مملاً، ومن النماذج التي اهتمت بتلك اللغة هو مؤمن سمير في الإشارات الواضحة في منجزه الشعري، حيث أُولَى صفات الهدم للشكل القديم لديه تمثلت في الكتابة السطرية، والتي هي مستعارة من جنس أدبي مجاور وما كان الشعر الحساس يهتم بصيغ الكتابة تلك على اعتبار ألا تُلائِم حساسية الصور الشعرية وايقاعاتها ذلك النسق من الكتابة، لكن نسق الكتابة عند مؤمن سمير في مجموعة – غذاء السمك(1) – والتي تلوح لنا من العنونة أن الشعر لم يعد ذلك الأنيس الحسي والوجداني، بل أصبح ذلك القرين الجوهري الغريب التوصيف، وسحب الشعر إلى صيغة اليومي الملتبس والمألوف اللا مألوف، حيث صيغ الكتابة الشعرية أحياناً تستعير مجاور زمني بدلا من الإيحاء، وذلك أحد التغيرات في مضامين الكتابة الشعرية، ففي نص افتراضي بصيغة الكتابة السطرية يقدم لنا الشعر بصورة ما بعد حداثية مجازاً إدهاشياً في نمط الكتابة في قصيدة ديوان – غذاء السمك- :
قبضة من الفولاذ كانت تظهر لتدوس الضحكات الى الداخل
حتى تنعجنَ وتضيع ملامحها في عيني
و كلما خَرَجت مرتعشة للتنفس
لا تعود لمقرها الأسود، بل تنطلق في الهواء وتختفي
من السمات التي يتغير بها الشِعر وتكون له حرية أوسع هي تلك التغيرات الفنية في بنية شكل القصيدة، فابتكار شكل جديد يعني خلق ذائقة جديدة، وذلك ليس إحالة بالمعنى العام، حتى وإن كانت ترد في التفسير لها، لكن الذائقة أوسع من المنطق العام للشعر، فهي اختلاف بين فهم سابق وفهم لاحق، وأعتقد أن مؤمن سمير قد حقق لنَفَسه الشعري ذائقة حرة، وهي هنا تتناسب مع أفق ما بعد الحداثة في منطقها الحُرّ بميتافيزيقا موضوعية ليس وفق المنطق العام السابق، بل بمنطق شخصي جديد، وقد امتلك مؤمن سمير منطقه الشعري الخاص بطروحاته للشعر شكلاً وموضوعةً، والشكل الذي قدمه هو بذاته مضموناً شعرياً، إضافة إلى نَفَس القصائد ،الذي افترض لقصيدة النثر مجازات لا تتصل بمنطقة الخبرة، بل هي اجتهادات جمالية تحررت من السياقات العامة، لتكسب ذوقها العام حساً طرياً جديداً على عملية التلقي، وفي بنيته النصية الممتدة أفقياً من خلال وحدة النص العام، و شاقولياً من خلال المنصوصات المتعددة داخل بنية النص العام، فالشكل في قصيدة مؤمن سمير هو تركيبة متعددة للجمل الشعرية، وتلك الجمل الشعرية في الإحالات اللسانية تمثل وحدات نصية متصلة من جهة ومنفصلة من جهة أخرى، حتى في أقصر نص شعري، وفي نص جدير بالتحول من نسق الكتابة الشجري، أي أن القصيدة كما أغصان متوالية تنازلياً على جسد الورقة، ليقدم أنموذجه الشعري التداخلي بين المقصوص والمنصوص شعراً، فنص – "بيوت" قصة بقلم ... – ، يقترب جداً من نسق كتابة أنطوان أرتو وريني شار، حيث النص يحتمل تداخل أنواع ادبية لكن يبقى ينتمي مفاهيمياً لقصيدة النثر، ونبين أدناه التداخل والانتماء كل على حدة:
دخلتُ الغرفة فوجدت كومة من الرمل فوق المكتب،
لونها متغير وذراتها أكثر سمكا من المعتاد بمراحل
نظرتُ للسقف فوجدته مكتملاً في تعاليه والنافذة كما هي
بعيدة و غامضة
في تفسير جنس اللغة الشعرية وفصله عن جنس لغة أخرى اشتركت لأداء دور بيناني، كما في أول جملة من المستهل والتي تمثل فعلان لكن نجد التغير التعبيري مباشرة تَوَضَّحَ نسقه بعد انتهاء الجملة الفعلية مباشرة، حيث نواجه جمل شعرية في صيغها التعبيرية، ونجد تصاعد إيقاعات المعنى المختلف، الساعي الى إزاحة كل نَفَس بياني وإبداله بنَفَس حسي، وفي نص – صديقي الوحيد بعد التحية – اللغة الشعرية تتخلى كلياً عن السياقات التي يلتزمها القص من أفعال بيانية ودرامية، وخلقت دراما شعرية بنَفَس شعري يهتم بتصعيد المعنى الجمالي أكثر من التفسير المباشر للشعر، فجمل النص حتى دخلت في النَفَس السريالي افتراضاً:
عندما خرجتَ من المرآة لابساً شارات الهنود الحمر
- كنتَ تلهو معي، أعلم –
وَصَلَت إليَّ مشاعرك الفياضة و غطتني تماماً
لكنها، اسمح لي
كانت متراوحةً قليلاً بين الحب والاحتواء
لقد اهتمت الصياغة الأسلوبية في شعرية مؤمن سمير بالتحول من مفهوم التحديث الشعري، إلى مفهوم ما بعد التحديث، وما بقي هذا الجانب مكتفياً في تداول شكل مناسب شعرياً مع مقومات قصيدة نثر ما بعد الحداثة، بل تعدى ذلك إلى تحريك عنصر اللغة لاكتساب صيغ أن تصبح اللغة، ليس ذلك المعنى الذي نصادفه في الشاعر، بل معنى مختلفاً وجديراً بتحوله الى التوافق مع المنطق الخاص لقصيدة النثر، وموازاة التباس المعنى المتخلي عن عموميته.
*التخلي عن مثالية المعنى:
تُشكل مسألة المعنى بتحوله من أفق الحداثة إلى أفق ما بعد الحداثة تغيرات نوعية شهدتها، حيث حَسَب بارت وحَسَب هيلاري بوتنام ،المستوى الدلالي للمعنى فقد الكثير من الميزات في صفته المثالية والتي تقدمت إلى الأمام بمفهوم الواقعية لتتنفس أفق الحياة, ومن ثَمَّ جاءت الموضوعية لتزيد المعنى الحياتي عبقاً مضافاً, ولكن قصيدة النثر في بعد ما بعد الموضوعية وضعت المعنى في حرج, وعليه أن يتخلى عن تلك المثالية، وبعدم تخليه ربما ليس يثلم جانب من جوانبه, بل ربما سيسقط كما هُبَل الذي رُميت مثاليته معه من أعلى, وسعت بعض الاشتغالات في قصيدة نثر ما بعد الحداثة عن التخلي كلياً عن تلك المثالية، وقدمت تجربة مؤمن سمير تحولاً نوعياً في العلاقة مع المعنى الشعري فقد وجد الشاعر أن المعنى لم يجدد نفسه وعلى شِعر ما بعد الحداثة أن يقف على مفترقٍ هنا، فإما تنشيط روحية المعنى، أو إبدال ثوبه البالي، وإما قلب ذلك المعنى رأساً على عقب وليكن ذلك المهرج الذي يرى الأشياء مقلوبة، وتلك مهمة شعرية عسيرة قد تمكن مؤمن سمير منها ووازى لذلك أقطاب التصوف الشعري المتطرف، ففي مقطع جدير بذلك التطرف ما بعد الموضوعي يحرك الشاعر الساكن ليعيد صياغة المعنى:
ضاقت مساحات تنفسي
و تَمَكَّنَ الرعبُ من أَسْرِي في جوالٍ ضيق سَيُلقى به في النهر
ليسمم السمك
خرجتُ جارياً و هارباً من الحلم
لكنهم كانوا ورائي
يملؤون السرير و الغرفة و الممرات
ويضحكون
لقد أثمرت تجربة مؤمن سمير ما بعد الحداثية وما بعد المعنى وما بعد الشكل القائم في العملية الشعرية تاريخياً، والذي انتقل من شكل سياق القصيدة العمودية إلى قصيدة التفعيلة، ومن ثم استعارت ذلك الشكل قصيدة النثر، وقد سعى عزرا باوند و إليوت وقبلهم بودلير إلى كسر أفق ذلك الشكل الشجري، وقد نقم أنطوان أرتو على هذا الشكل، وقد أتى مؤمن سمير ليضيف إلى تلك النقمة نقمة جديرة، فقدم لنا شكلاً يناور بين تحقيقه الغرض الشعري بطريقة شعرية ما بعد الحداثة، وبين التوازن الموضوعي في أفق الكتابة الشعرية بين التاريخ وما بعد الحداثة، وقد حقق الغرض الشخصي الذي يمثل مرحلة الوعي الحالية والغرض العام.
هذا مقطع شِعري يتصف بإعادة إنتاج الصياغة الشعرية، حيث يتداخل منطق الكتابة المجاورة ذات صفة الحكي والسرد بمنطق الكتابة الشعرية المابعد حداثي لقصيدة النثر, وهذا التداخل علته هو الشكل الجديد للكتابة، والذي طبيعته الأسلوبية يتناغم فيها المقصوص والشعري الجديد، والتناغم جعل بنية النص الشعري تراكبيةً، من صوتٍ سبيلُهُ بياني يؤكد الوضوح التام، ومن صوتٍ مقابل له، يأنس ببذل المعنى جهد كسر أطر العموم وتطوير دلالة مثلومة، لتعيد إنتاج نفسها بحالة جديدة:
تناوَلْتُ الثلاث وأربعون صفعةً
ومشيت
ثم عدتُ للبحث عن أسناني المحطمة
خوفاً من أن تكون
سقطت في مكانٍ لزج
يسمح لها بالنمو
في هذا المقطع تخلت القصيدة عن التفسير العام, وحيث لغة الشعر فيها لسانياً، يمكن أن توصف بجنس لغوي نَاوَرَ ليخرج من كيان لغة الإشارة البيانية إلى لغة العلامة الملتبسة, وقد حققت اللغة بجنسها صفة التوصيف وعدم التعريف, والإحالات فيها أزاحت عن المعنى بالتحديد, وكما كانت لغة تجريد بعد أن تتم ،بعد التوصيف، وقد تمكنت اللغة من انتحال المعنى بجدارة, ودون تكلف في الإزاحة ومحو التحديدات الشكلية البيانية ذات السمات الفعلية.
لقد أحكم الشاعر معناه على التحول الموضوعي الجدير بإثبات رؤيا الشاعر، وتحقيق غرضه الشعري ما بعد الحداثي، وتفسير منطق الكتابة الشعرية الجديد لا يتم دون دليل إنتاجي، فنجد الشاعر في هذا النص المنصوص قد أعطانا تجربة خارج السياقات العامة والخاصة، فنصه المنصوص يتيح للوحدات المنصوصة أن تبدو عيانياً كنصوص، ففي آخر اختيار لنا بعدما تصاعدت إيقاعات التحول إلى أقصى مدياتها مضموناً:
نَمَا شَعْري وتكاثرت لحيتي بالرغم من كل محاولاتي لسد المسام
خِفْتُ من نفسي
وأيقنتُ أنهم بدلوني أثناء نومي
سأقرأ تعويذاتي لأستولي على فص المخ الخائن
سأُخرجه و أمضغه
هذا عن الآن
أما الأيام القادمة فسأحتاط جيداً لها
لقد أنجز مؤمن سمير تلك المهمة الشعرية بجدارة كبيرة، وقدم لنا نص منصوص، بطريقة تقنية جديدة نسبياً، في محاولة له لكسب قيم جمالية مضافة، وصراحة هناك عاطفة مال بها الشاعر إلى نصه، وتلك العاطفة مشتركة ما بين الشاعر والنص المنصوص، حيث زادت تلك العاطفة من مناسيب الفن التجديدين وقدمت لنا التجربة الشعرية بعد التخلص من فائض المعنى إلى معالجة المعنى فنياً، حيث هناك مستويات جديدة صار بها المعنى مختلفاً، رغم إن الشاعر مرة يبقيه على ملامحه العامة في حالات رسم صورة بيانية، وفي مرة أخرى يمتلك جرأة خارجية وداخلية أيضاً، حيث جعل المعنى مرة يكون كمهرج جان جانيت و أخرى كما شخوص إيتالو كالفينو من نماذج المعنى الذي تجرأ به شاتوبريان على اللغة نفسها، بعد ذلك يجعله خالصاً بعد نمو شاقولي كسر به آفاق تاريخية عديدة حتى التي توافقت معه في حدود معينة، وتلك البلاغة النصية المقتدرة هي نتاج وعي شعري مختلف وجدير بتجربته المثيرة فنياً وجمالياً.
--------------------------------------------------------


(1) غذاء السمك، مؤمن سمير، دار الذهبية للنشر و التوزيع، مصر2019.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما


.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا




.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما


.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في




.. من الكويت بروفسور بالهندسة الكيميائية والبيئية يقف لأول مرة