الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل من عراق قبل -النطقية الثالثه-؟

عبدالامير الركابي

2021 / 10 / 9
مواضيع وابحاث سياسية


يقول لونكرك في مفتتح كتابه الشهير "أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث" وفي اول سطور مقدمته للكتاب: "على ان اطلاق اسم العراق بهذا الشكل قد يكون موضع اخذ ورد، لانه لم يكن يشيع استعماله بمثل هذه الدرجة من الاهميه خلال القسم الأكبر من المدة نفسها، كما انه كان يطلق في بعض الأوقات ليدل على قطر يختلف تمام الاختلاف عما هو عليه اليوم. غير انه ليس هناك من الأسماء ماهو اكثر انطباقا، ووضوحا عند جمهور اصبح متعودا تمام التعود عليه، مثل الاسم الذي تحمله المملكة العراقيه في يومنا هذا"(1)والغريب في الملاحظة التي يوردها الكاتب، الضابط الانكليزي، انها لم تثر، او تستحث لديه، أي رغبه في التوقف، او استجلاب انتباهة تفسيرية، توضح ولو من باب الاجمال، كيف يكون بلد من البلدان متغيرا جغرافيا/كيانبا، ولماذا ؟ وصولا الى اللحظة الراهنه التي ذهب الى تكريسها قطعيا، بالارتكاز الى ماهو ماخوذ به من نموذجية كيانيه، هي خلفيته، ونموذج بلاده التي جاء الى هنا من باب تعميمها الفاشل، الغالب على مستوى المعموره.
لقد كان العراق يوما " لكش"، في بقعه صغيره من ارض السواد في سومرجنوبا، كمكان ومنطلق امبراطوري، احتل ارض الشام غربا، وعيلام شرقا، والاناضول، وعبر البحر الى كريت في الالف الثالث قبل الميلاد، ليصرح وقتها "سرجون الاكدي" اول امبراطور في التاريخ قائلا: " انا حاكم زوايا الدنيا الأربع"، وعاد العراق بعد ذلك للتمدد الى بابل، ليختفي بعدها، الى ان يعود منبعثا في القرن السابع مع الفتح الجزيري الذي حرر الاليات العراقيه المتوقفه بفعل وطاة الاحتلال الفارسي وأسباب أخرى ذاتيه، ليتمدد هذه المرة الى خارج ارض السواد، نحو العراق الأعلى "عراق الجزيرة"، حيث اتخذ العباسيون، عاصمة لهم هربا من الكوفة وانتفاضاتها، وكرهها لهم وموالاتها للعلويين، ليعود مرة أخرى بعد 1258 وسقوط بغداد، الى حيث ابتدا اول مرة، في سومر جنوبا، مع القرن السادس عشر، عندما بدا الانبعاث الحالي الثالث في دورة تاريخيه جديده، هي الحالية بعد الأولى السومرية البابلية الابراهيمه، والثانيه العباسية القرمطية الانتظارية، التي انتهت في 1258 ومن يومها لم يعد ثمة عراق.
من خاصيات الدورة الراهنه انها تبدا مخالفة لمادرجت عليه التشكلية الإمبراطورية الازدواجية العراقيه من نشاة، تبدا عادة وكقانون من الأسفل ( سومر في الدورة الأولى، والكوفة والبصرة في الثانيه) لتكتمل بالاطار الأعلى النازل اليها، او المنبثق من داخلها باعتباره اطارا منفصلا، احاديا ارضويا يتحول الى "امبراطورية / مدينه"، منعزلة داخل اسوار ها، ومعسكرة من داخلها، تاركة المجال المجتمعي الأسفل غير القابل للاخضاع، لخاصياته اللاارضوية، لخاصياته، مع الاحتفاظ بالقدر اللازم مع التفاعية معه، ككيانيه موحدة،ضمن الازدواج المجتمعي الارضوي/ اللاارضوي، وديناميات غير تلك المحلوية الشائعه عن الدول والأمم، فالعراق كيانيه متعدية للمحلوية، ونوع الكيانيه المسماة "وطنيه"، وابرز واعرق اشكالها الحالة الشائعه المصرية الأحادية المحلوية، ذات الدورة والتشكل الواحد الوحيد، الأدنى، او الاورببيه الانشطارية الطبقية، الأعلى دينامية داخل نمطها.
وفي حين كانت الدورة الأولى والثانيه، الكيانيه الرافدينيه المتعدية للكيانيه، قد تلازمت مع حالة انفتاح في الأفق المجتمعي الضروري للتمدد الامبراطوري في الدورة الأولى، بفعل السبق التاريخي، وتاخر تبلور المجتمعات الأخرى المحيطة والقريبه، وفي الثانيه بسبب الفتح الجزيري الذي مهد المجال الممتد الى حدود الصين شرقا، واوربا غريبا، وجدت الدورة الحالية ضمن اشتراطات غير مسبوقة لهذه الجهه، لعبت فيها متبقيات الدورة الثانيه المنهارة دورا ميزها، وطبع مسارات تشكلها، بما لم تكن الفته، او عرفت مايشابهه، فبغداد ليست كبابل التي درست بفعل الاشتراطات البيئية المجافية، ووطاة الاحتلال، وانهيار البنيه، ومقاصد الاحتلال الفارسي، فهي قد ظلت شاخصة كخربة تذكر بتاريخ ومرحلة زالت من الوجود، في كيانيه محكومة بسبب ازدواجيتها لقانون "الدورات والانقطاعات"، ماكان من شانه ان اوجد " عراقان"، عراق براني تتعاقب عليه السلالات والدويلات المحتلة من زمن هولاكو، هو عراق الدورة الثانيه المنهارة، وعاصمتها "الرمز" الايهامي، الذي ماعاد موجودا بالفعل قياسا الى الاشتراطات والموجبات، ونوع الاليات التي اوجدته في حينه ضمن دورته، وعراق ناشي منبعث اليوم، من طبيعته وكينونته انه لا يتشكل ككيانيه مستقلة بذاتها، مايتيح للاطار الأعلى ومن بتعاقبون عليه، ازالته من الوجود وامحائه مفهوما، مع ادراجه القسري التغلبي تحت يافطة و كيانيه عليا،مع انه هو القسم المرشح فعليا منذ بدء الانبعاث الحالي الثالث، للتعبير عن عملية التشكل الحديث المستمرة منذ ظهور "اتحاد قبائل المنتفك" في ارض سومر التاريخيه من جديد.
وتنقسم مرحلة العاصمة الايهاميه البرانيه الى مرحلتين: أولى هي التي تستمر من القرن الثالث عشر في 1258 ، حتى القرن السادس عشر، وثانيه تبدا مع العثمانيين والانبعاث الثالث، تتغير معه الظروف، وعمل الاليات المحركة، فيصير الاطار الأعلى الباقي من الدورة الثانيه المنهارة وقتها، ماخوذا بفعل واثر التشكلية السفلى، ولايعود كما كان منفردا بذاته وبرانيا صرفا، بقدر مايصير خاضعا لقوة دفع العملية التشكلية الانبعاثية الصاعده، فتعود مفاعيل الاصطراعية الازدواجية للعمل. وليست الفترة الثانيه هي الأخرى متماثلة وواحده، فهي تنقسم هي أيضا الى لحظتين، أولى هي العثمانيه، وثانيه تبدا مع القرن العشرين، وحضور الغرب ونموذجه، والايديلوجيا المرافقة له، ونوع الكيانيه و "الدولة" التي يعمد الى فبركتها ومعها تبدا اصطراعية كونيه، فاصلة واخيره.
والعراق ابان الفترات الانفه غير موجود، فهو بالاحرى صنيع من ينطقون عنه وباسمه، من منطلق وعلى قاعدة متبقيات الدورة الثانيه المنهارة، بينما هو صامت بلا نطقية، وهي ظاهرة تلازم تاريخه، وظلت مستمرة من الدورة الأولى، لصالح المنظور والرؤية الأحادية الارضوية عن المجتمعات، لتعذر ارتقاء الاعقالية المتاحة لمستوى ادراك الأصل النوعي المجتمعي كما ينشا بالاساس في ارض مابين النهرين، في ارض سومر، بما هو شكل مجتمعية لاارضيوية، وهنا نقع على خاصية أخرى، وثابته، تتعلق بالمفارقة العقليىة المجتمعية، حيث العقل موجود ابتداء، ادنى قدرة وقابلية على استكناه منطوى الظاهرة المجتمعية التي هي رحمه، والبوتقة التي يترقى داخلها متصيرا،وصولا الى ادراك كنهها ومنطواها.
والمجتمعية تبدا لاارضوية، نتاج حالة "العيش على حافة الفناء" البيئية التي هي خاصية ارض مابين النهرين، وارض السواد بالذات، حيث العلاقة البيئية البشرية محكومه لاشتراطات تجاوز الارضوية لا التناغم معها، الامر الذي يتعذر تحققه وتجليه ابتداء وعند الدورة الأولى، فينتكس لصالح الارضوية ومفهومها، ونموذجها الذي يظل غالبا، مستعينا بغلبته على مستوى المعمورة، وبداهته الأقرب للاحاطة العقلية الاوليه، هذا بينما تظل اللاارضوية تنتظر توفر الأسباب المادية اللازمه للتحول اللاارضوي الاكواني، التي لاتحول من دونها، والمقصود، الالة والتكنولوجيا كوسائل ضرورية ظلت تنقص اللاارضوية وتحول بينها وبين تحققها الانقلابي الأعظم.
حين تكون كيانيه فريده بذاتها،في غربه عن العقل، وواقعا، فانها تصبح ولاشك خارج التجسيد الاعقالي، وان بقيت حاضرة كآليات، والعراق لم يوجد اليوم بعد،ولاهو كان له وجود يطابق طبيعته وكيانيته المتعدية للكيانيه منذ انتهاء الدورة الثانيه الى اليوم، وقد يذهب البصر القاصر متصورا بحسب فهاهة الاتباعيين، ان زمن الامبراطوريات ولى، مع انه وقتها لايكون بالفعل قد لاحظ مايخادع به نفسه، لان الامبراطوريات التي لاتغيب عن ممالكها الشمس في العصر الحديث، متزاحمه ومتواليه، وصولا الى الإمبراطورية المفقسه خارج رحم التاريخ، الامريكيه، هذا عدا عن ان التفلسف في ساحة ومنتدى الجهالة المطبق هذا، ليس واردة هنا مقاربتة في الوقت الذي يتوقف العقل بمقدار طاقته الاحاطية الحالية دونه، بما هو نوع ونمط كيانيه (وطن / كونية) بنيويا وكينونة، لاتوجد الا كذلك، أي كازدواج امبراطوري ارضوي من اعلى، وسماوي، ابراهيمي، قرمطي، اسماعيلي، انتظاري مهدوي، من اسفل، وانه لم يسبق على مر تاريخه الذي هو أطول التواريخ البشرية، ان انتظم تحت ايه آليات أخرى، وبالأخص تلك التي جاءت اليوم محاولة قتل حال تشكل حي هو الاعرق، وظاهرة كونيه من اكثر الظواهر المجتمعية التاريخيه حضورا وفعلا على مستوى الكوكب، مايخالف طبيعة الأشياء وديناميات الوجود المجتمعي الحي.
والأخطر فيما هو مغيب الى اليوم، سواء بحكم طبيعة الأشياء وضروراتها، او انصياعا لاشتراطات اللحظة، وماهو مكرس خلالها من مفاهيم ارضوية متقدمه، وهي الأعلى والاقصى تجليا، هو مايجري اسقاطة من احتمالية كبرى تخص حقيقة المجتمعية ومالاتها، والهدف من وجودها ومستقر مسارها باعتبارها ظاهرة منقضية، ايلة الى آنتهاء الصلاحية، والزوال ذهابا الى مابعدها، مايجعل من غمط الحقيقة الكونيه العراقية الرافدينه الجاري الى الان، منطويا على احتمالية اصطراعيه كونيه، هي الامتداد والتكمله الطبيعيه لتاريخ الصراعية الارضوية اللاارضوية الأصل كما بدات داخليا في ارض مابين النهرين داخليا، خلال دورتين لتصبح اليوم عالمية وكونيه شامله للكوكب.
تقدير كهذا، لابد ان يعلمنا بان "النطقية الثالثة" هي النطقية الأولى المؤجلة، المودعة بين تضاعيف الظاهرة المجتمعية المحجوبة عن العقل، والتي ماان ينكشف سترها، حتى يكون العالم والكائنات البشريه قد دخلت زمن مابعد المجتمعية، وحتى وقتها لايكون للعراق العراقي من وجود.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ستيفن همسلي لونكرك/ أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث/دارالكتاب / ط5/ ترجمة جعفر الخياط/ ص 9








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. توقيف مساعد نائب ألماني بالبرلمان الأوروبي بشبهة التجسس لصال


.. الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين تهز عددا متزايدا من الجامعات




.. مسلحون يستهدفون قواعد أميركية من داخل العراق وبغداد تصفهم با


.. الجيش الإسرائيلي يعلن حشد لواءين احتياطيين -للقيام بمهام دفا




.. مخاوف من تصعيد كبير في الجنوب اللبناني على وقع ارتفاع حدة ال