الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ينبغي لنا أن نتكلم عن الضفدعة

جيلان صلاح

2021 / 10 / 12
الطبيعة, التلوث , وحماية البيئة ونشاط حركات الخضر


لا يملك الكثيرون من أمثالنا سوى الكلام. الحكي والفضفضة من ركائز التطهر بالنسبة لنا معشر الكتاب.
والآن حان وقت الكلام عن الضفدعة التي قتلتها كذباً باسم العلم وسعياً وراء الدرجات.
وللقصة بداية.
العداء بين طلبة ما تدعى بكليات القمة متأصل منذ أعطيت لتلك الكليات الهالة الأسطورية التي تجعل من يلتحق بها –ولو حتى بينه وبين نفسه- يشعر بسموه وتعاليه عن الآخرين. وللطب بصفة خاصة ذلك السحر الذي يغلفها ككلية عملية تجعل ممن يدخلها ساحراً، يكتشف قدس الأقداس؛ الموت، الجسد البشري، تعطيه نوع من المكانة المجتمعية التي لا يستحقها لمجرد كونه ذاكر أكثر من زملائه في مجزرة الثانوية العامة التي لا تتوقف ولن تتوقف طالما نحن نعيش تحت ظل مجتمع لا يتغير ويستلذ الثبات. ديناميكية الحياة في المجرة هي التي تحركه؛ فبالطبع أصبحت معظم إعلانات التليفزيون تمتلئ بالسيلفيز، وأصبحنا نرى كوميديا مبنية كلياً على كوميكس وميمز من السوشيال ميديا، لكن البشر هم أنفسهم، والذكورية هي نفسها، ربما تتخذ الفيمينزم وحقوق الحيوان والحجاب موضة عابرة، لكن يبقى التقييم الأخلاقي والنظرة الدونية لكل ما ليس رجلاً –مسلماً في الأغلب- وتبقى الخرافات والأساطير المتندرة على الماضي ويبقى دفن الآثام في التراب.
تخرجت في كلية الصيدلة عام 2011، ولم يمر يوماً لم أفكر فيكِ عزيزتي الضفدعة.
عام 2010، كان المشهد الأول الذي جعلني أشعر أنني ارتكبت خطأ ما، عندما انتهى درس التشريح –الحيواني طبعاً- وألقيت نظرة على دلو كبير وضعنا فيه ما تبقى من الضفادع التي قتلناها أنا وزملائي باسم العلم. لم نكن نقتلها بالمعني المفهوم، كنا نقوم بما يدعى التنخيع؛ عن طريق ثقب في مؤخرة رأس الضفدعة، نغرس إبرة التشريح ما بين العامود الفقري والمخ لتحطيم الحبل الشوكي. أي أنها تقريباً مشلولة، لكنها مازالت حية. أقنعتنا المعيدة أول يوم قمنا فيه بالتشريح أن الضفدعة هكذا لا تشعر بشيء، لقد دخلت في غيبوبة ثقيلة لن تفيق منها إلا على الجانب الآخر.
عزيزتي الضفدعة، أعلم أن روحك تطاردني، مازالت الذكرى تؤلمني حتى الآن.
أحياناً أسأل نفسي لماذا فعلت ما فعلت؟ لماذا اندمجت في التشريح حتى النخاع –حقاً؟ لماذا تعاملت وقتها أنا المحبة للحيوانات منذ طفولتي والتي لم تتربى يوماً على قسوة معاملتهم أو اعتبارهم كائنات دنيا كالسواد الأعظم من المصريين، مع الضفدعة فعلاً ككائن غير مهم؛ وجوده مثل عدمه؟ قتله بتلك الطريقة البربرية الوحشية مكرس لأتعلم أكثر عن الجسم البشري، كل هذا في سبيل العلم، معرفة تأثير دواء ما على عضلة القلب، معرفة العمليات الحيوية المشابهة لجسد الانسان. ما أهمية كل هذا أصلاً؟ وحقيقي، ما علاقة هذا بدراستي للصيدلة؟ وما علاقة تلك الحيوانات الصغيرة بما نفعل من تجارب حمقاء نحن نعلم جيداً أنها لن تجعل منا مخترعين أو عباقرة أو آلهة، وأننا حتى لو حاولنا الوصول بعلمنا المتأخر لبلاد النور التي يجب علينا بعد دراستنا الشاقة أن ندفع المزيد من الأموال للحصول على زمالتها أو دبلومتها أو أي من الشهادات المعادلة لها، فلن يكون قتلنا لمزيد من الفئران أو الضفادع مؤثر في مستقبلنا المهني.
عزيزتي الضفدعة، للحديث بقية.
لم أكتف بتشريح العينات التي كانت متوفرة لنا في الكلية. اشتريت ضفدعة لأشرحها على مهل في منزلي. كنت أريد التدرب للامتحان العملي النهائي. مازلت أذكركِ، ضفدعة صحراوية ضئيلة الحجم. اليوم وأنا أحدق في عيني كل حيوان أقابله، يخيل لي أنني أصل إلى روحه. لم تجردت من روحي بينما أنا أمسكك بين يدي؟ حتى الآن مازلت لا أفهم "أنا" طالبة الصيدلة؛ طوال دراستي للصيدلة توقفت عن الكتابة، لم أكن أكتب شيئاً وكنت أؤهب نفسي لما سأكونه؛ صيدلانية ناجحة في شركة أدوية، أو صيدلانية مرتاحة في وظيفة حكومية تؤمن لي مرتباً ثابتاً ومعاشاً عندما أبلغ ستين عاماً.
أتخيل الأسئلة؛ ماذا عن الآن؟ هل يمكنني أن أعيد التجربة؟ قطعاً لا.
ماذا لو عاد بي الزمن للوراء؟
سأفعل كل شيء فعلته منذ ولدت وحتى الآن، بنفس الغباء والطيش والتشتت، فالزمن يعود للوراء بنفس شخصياتنا قليلة الخبرة، قليلة الفهم لماهية الحياة. في ذلك الزمن كنت أخشى مرور ال 120 دقيقة لسكشن العملي وإلا فقدت درجات. في هذا الزمن كنت أتخيل أنني أفعل الصواب بتلك الضفدعة حتى أصل للحقيقة. في هذا الزمن كانت الحقيقة العلمية بالنسبة لي لا تقدر بثمن، لكنني لا أنكر أنني حمدت الله على انتهاء دروس التشريح في النصف الثاني من العام الرابع والعام الخامس. لم أكن أريد أن أتسبب في مزيد من الجثث، حتى لو بحجم الضفدعة.
أذكر جيداً ذلك اليوم، بينما نسير أنا واثنتين من زميلاتي –ليس صديقات، زميلات- سألتنا إحداهما عما إذا كنا سندفن هذه الضفادع التي شرحناها. يومها سخرنا منها أنا وزميلتي الأخرى، وعندما سألناها لماذا ندفنهم أخبرتنا وهي مترددة "حرام."
يومها شعرت بغضب منها؛ من تظن نفسها لتتظاهر بتفوق أخلاقي يزيد عنا؟ لكنني الآن أفهمها، وأشعر بمرارة لتخيل جثث الضفادع تلقى في القمامة، وتخيل جميع الحيوانات التي لا تجد سوى القمامة لتتلقى جثثها. في خيالي أرى مقابر أشبه بمقابر الروم الكاثوليك؛ جميلة، هادئة، وتغمرها الأشجار. أرى قبوراً تتسع لكل الحيوانات، الضالة منها و"ولاد الذوات". مقابر لا تفرق بين كلب شوارع بلدي وهسكي جميل أو بيت بول مندفع. مقابر تتسع للعصافير والضفادع والقطط والسحالي. أعلم أنه في بلد لا يجد فيها بعض الناس أحياناً مقابر لتلم أجساد ذويهم، يبدو الحديث عن مقبرة للحيوانات ضرباً من العبث، كما أن الحديث عن كون تشريح ضفدعة فعلاً همجياً؛ ضرباً من العبث في بلد يحتاج لإعادة هيكلة نظامه التعليمي بالكامل. لكنها اعترافاتنا الصغيرة التي تمكننا من الاستمرار في التعايش مع أنفسنا وغيرنا. ذلك البوح الذي يكوي قلوبنا بالمرارة، شعورنا بأن مهما فعلنا لن نستطيع أن نمحو أخطاءنا التي ينم معظمها عن قلة خبرة أو غباء أو حتى قسوة ناتجة عن الجهل.
لحظة التنوير أتت بعد تخرجي بعام، عندما شاهدت فيديو عارضة الأزياء وفنانة الأداء الحي نيكول كاتالدو دافيز. كان عرض بالشارع، أمضت فيه الفنانة 10 ساعات متواصلة من التعذيب المستمر. في النهاية نكتشف أن هذا التعذيب ما هو إلا انعكاس لما يمر به حيوان التجارب في شركات التجميل ومعامل الدواء. ارتدت بدلة بلون الجلد واحتملت العذاب من إطعام بالقوة للتقييد لسكب السوائل الحارقة في عينيها لحلق شعر رأسها بالكامل، كل هذا علنياً في نافذة أحد محال شارع ريجنت المزدحم في لندن. احتملت مشاهدة مقتطفات من عرض الرعب الحي، فقط لأنتهي منه وأتيقن من أنني عبرت خطاً وهمياً من الرمادي إلى الثقب الأسود الحقيقي، ولو أن ربط الأسود بالشر والأبيض بالخير ما هي إلا رواسب عنصرية من ماضي كان البشر فيه يقيمون طبقاً للون بشرتهم.
عزيزتي الضفدعة، الماضي مازال حياً.
في نهاية التشريح، كانوا يخبروننا بأن علينا أن ننزع القلب، لتموت الضفدعة فعلياً. فنحن لم نكن قتلناها بعد. كنا نشرحها حية بينما هي معلقة بين السماء والأرض، تنتظر إذن المشرط لتغادر للضفة الأخرى، حيث أتخيل وجود الكثير من الضفادع التي ماتت ميتات مماثلة تنتظر اعترافاً منا لتحرر أرواحنا حبيسة الندم على ما فعلنا.
ينبغي لنا أن نتكلم عن الضفدعة، كل ضفدعة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تحشد قواتها .. ومخاوف من اجتياح رفح |#غرفة_الأخبار


.. تساؤلات حول ما سيحمله الدور التركي كوسيط مستجد في مفاوضات وق




.. بعد تصعيد حزب الله غير المسبوق عبر الحدود.. هل يعمد الحزب لش


.. وزير المالية الإسرائيلي: أتمنى العمل على تعزيز المستوطنات في




.. سائح هولندي يرصد فرس نهر يتجول بأريحية في أحد شوارع جنوب أفر