الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نبض الحجر: نسرين الغربي تبث الحياة في الحجر.

سمير مجيد البياتي

2021 / 10 / 18
الادب والفن


«الفسيفساء»: هو فن تقطيع أجزاء الحجر الملون إلى أجزاء صغيرة جدا يبتدئ من أجزاء المليمترات لغاية (1) سنتمترا. لقد جادت علينا الطبيعة ببعض الأحجار أو الصخور المنتشرة في أرجاء المعمورة، القابعة في الكهوف أو في أعالي الجبال وتحت قاع البحار، حتى أن ألوانها موزعة حسب بيئتها ، وكان هم الفنان العامل بفن الفسيفساء هو الحصول على هذه الأحجار. تلك الهادئة والساكنة، صماء مكتفية بذاتها ، ولونها، وكانت تلك الأحجار محدودة الألوان والبريق لكنها بيد الفنان الماهر تأخذ أبعادًا مختلفة وتشرق وتتجمع تلك الأجزاء لتكون جدارية، أو لوحة فسيفسائية رائعة الجمال، ودائمة الحياة، تقاوم الزمن ولا تموت ، ولهذا السبب فقد أبدع الرومان في تصميم جداريات وأرضيات كبيرة تحكي لنا قصص وأحداث يومية من حياتهم، وخير مثال على ذلك متحف «باردو»، الذي يعتبر اكبر كنز لفن «الفيسفساء» في تونس، وفي مدينة «الجم» يتنفس هذا الفن ويعيش ديمومة الحياة من خلال تدريب الجيل الجديد في بعض المؤسسات والورشات الخاصة حتى يتواصل هذا الفن العريق.
واليوم نتعرف على فنانة ، وحرفية مبدعة تشكل أعمالها بشكل مغاير وبأسلوب معاصر، إنها نسرين الغربي ، التي ترسم بالحجر وكل مسار خطوطها رشيقة، ودرجات ألوانها - أحجارها أتت من «باليت» الرسّام - علبة الأحجار الملون- توزع درجات ألوان أحجارها بتقنية عالية، لقد بثت في تلك الأحجار الصماء روحا ونبضا. إنها ثاقبة البصر والبصيرة، نعم لقد نبض الحجر وخرج من سكونه كي يكون أكثر ليونة وأكثر قربًا إلى النفس.
لقد استنطقت الفنانة الحجر، وجعلته يتكلم ويعرف بنفسه، ويكبر ويتشكل في سطح اللوحة، ويخرج من سكونه وعزلته وغربته في تلك الصخور والجبال المتفرقة هنا أو هناك، ليجتمع بأجزائه، تلك التي تعزف نغمه، وتمتزج مع لونه، وتكمل صورته.
وللفنانة رؤاها، المتعددة. إنها تعمل بتركيز شديد لتنفيذ الفكرة، وتنقلنا من مشهد إلى آخر. لا تريد لأعيننا أن تتشبث بمشهد واحد بل هي تخرجنا من السكون إلى الحركة، إلى رؤى مغايرة. إنها تخلق من لوحاتها الحجرية مشاهد متناغمة متآلفة حينا ومتناقضة حينا آخر لكنها تتكون من تلك الأجزاء الصغيرة من الحجر وكأنها تنفخ فيها من روحها فينبض الحجر بأشكاله وتذوب أرواحنا والفكرة تتغلغل فينا كنسمات أو كذرات يمكننا أن نستنشقها في عطر الحضارة والتاريخ. ولا يذوب الحجر الطبيعي ولا يغير ألوانه بل يبقى شاهدا أبديا على جمال الطبيعة حين تشكلها أنامل الفنان.
هكذا بدت لنا أعمال الفنانة نسرين الغربي في معرضها الشخصي الثاني (نبض الحجر)، ففي لوحتها (تمركز لولبي) أو لوحة (انسياب)، انساب الحجر كما أرادت له ذلك وكأنه قد سال من عليائه، وقد أذابت الأشكال فتماهت وتمازجت وتشكلت كما تريدها المخيلة والرؤيا. لقد خرجت تلك الأشكال يغطيها الحجر الصغير، والتي كان من الممكن أن تكون لوحة فنية مرسومة، لكنها اختارت بكل جدارة وصلابة أن تحولها إلى أشكال وصور تجريدية في لوحة فسيفسائية. ولو ابتعدنا عن اللوحة عدة أمتار لرأيناها قد امتزجت أحجارها في عين المشاهد مكونة مشهدًا أكثر مرونة وحركة وهي تطبق تقنيات فناني المدرسة (التنقيطية). لقد كانت ماهرة في كسر الرتابة في الشكل والتكوين.
هذه الفنانة المتحدية تأخذنا بأعمالها ولوحاتها وأفكارها إلى عوالم مختلفة عما نراه في حياتنا اليومية بل هي تنزع عن الأحجار سكونها و تتمرد على الأشكال الهندسية التقليدية كالمستطيل والمربع ، وتخرج من بوتقة القولبة الجاهزة إلى المطلق الرحب.
لقد بدا التضاد في لوحة ( اختراق).في الشكل المرسوم وكأنه مقطع لجزء من واجهة معمارية حيث جسمت ألهندسة والبناء واختيار لون الحجر ولكي لا يصاب المشاهد بالملل أضافت الفنانة إلى لوحتها شريطا ملتويا يخرج اللوحة من توازن نصفيها ويضفي عليها حركية وتموجا تتبعه العين.
أما عند مشاهدة لوحة: (السالب والموجب) فإننا نحس بتحرك الدوائر وكأنها أجرام تخرج عن مسار أفلاكها بالحركة اللولبية المستمرة ، وكأنها كائنات تسبح في فضاء اللوحة حيث نرى ذلك الانسجام اللوني رغم محدودية ألوان أحجار الفسيفساء لكنها انسجمت في أبصارنا وكأنها مرسومة بالألوان الزيتية. لقد سيطرت الفنانة بكل ثبات وقوة على المادة وجعلتها طيعة. وهذا يدل على الحرفية العالية في التنفيذ، بأنامل نسرين الغربي.
ومن الأعمال التي أثارت اهتمامي، أذكر تلك اللوحة التي تجمعت فيها أشكال الحجر غير المنتظم وهي تتراص من الأعلى إلى الأسفل على طول اللوحة حتى أنها خرجت من الإطار وهذا يدل على أن الفنانة تتوق إلى الحرية وترفض تسطيح العمل ووضع حدود له، ولقد تمكنت من خلال تجربتها الفنية من إظهار التضاد بين درجات الألوان حتى تبين الانسجام اللوني والبناء التشكيلي وهو كما قلت سابقًا خروج وتمرد على شكل اللوحة.
وفي لوحة: (موج (1): كانت الفنانة بارعة في تشكيلها لتقلبات الموجة، حين أعطتنا جزء بسيطا من حركتها وانكساراتها، انه انكسار خرج من الواقعي إلى التجريدي فبثت فينا هدوء الموجة ولينها. الملفت في أعمال نسرين الغربي أنها تأخذ أشكالها بانسيابية ورهافة فلا نحس بجزيئات المادة الحجرية فقد نحتت من المربع أو المستطيل أشكالا منحنية وزوايا ترفض الحدة.
وفي لوحة (تفتت الحجر)، كانت الفنانة وفية للعنوان.. لقد فتتت الحجر ورمت تلك الكتل الصماء الجبارة، في فضاء اللوحة وأعادت بناءه من جديد في شكل جديد يحيل على الهزيمة والانهيار فنرى تشظي الكتل بأشكال وأحجام مختلفة. هذه الفنانة تصور لنا حالات مختلفة بل يحكمها التضاد من السكون والهدوء إلى الحركة والضجيج، ومن الفراغ إلى الامتلاء.. إن هذا القلق الدؤوب للفنان هو الذي يبتكر حالات مختلفة وأعمالا مثيرة ومختلفة شكلا ومضمونا وعناوين شعرية تحمل في طياتها تمردا رمزيا مثل تمرد الحجر على ذاته وسكونه فينبض بالحركة والحياة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس


.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني




.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/