الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ابن الريف وابنة المدينة ....... قصة قصيرة

منى نوال حلمى

2021 / 10 / 19
الادب والفن


ابن الريف وابنة المدينة ..... قصة قصيرة
----------------------------------------------------------

أنت الوحيد الذى سافرت اليه ليلا ، فى تلك القرية النائية .
نظرى قصير ، والطريق طويل ، والليل البارد يخفى المعالم . سيارتى الصغيرة مستهلكة ، تكاد تتماسك لتصل بالسلامة . لكننى اليك مشتاقة ، وأنا أحب الحنين الممتزج بالخطر ، والتحدى .
بين كل لحظة وأخرى ، أتصفح الخريطة التى وصفتها لى عبر الهاتف .
بين كل لحظة وأخرى ، أوقف السيارة لأطمئن على العجلات الأربعة ، ربما ثقبها مسمار ، و" نامت " . لكننى لا أعتقد ذلك . فكيف تنام ، والسهر فى عيونى يوقظ الكون كله .
بين كل لحظة وأخرى ، أتوقف .. أتشكك فى مسار الرحلة .
أسأل المارة ، وأصحاب المحلات ، والبائعين على الطريق ، وسائقى
السيارات الملاكى والسيارات الأجرة ، وسائقى عربيات الشحن الكبيرة . كلهم يؤكدون أننى على الطريق الصحيح .
أبتسم وأتخيلك وأنت ترانى ، قد وصلت ، ولم أضل اليك الطريق .
أتسائل كيف لابن الريف ، أن يرحب بابنة المدينة ؟. هربت من صخب العاصمة ، وتفاهة وتشابه ورجعية وخواء رجال المدينة . لم أسافر أبدا
الى رجل . هم الرجال الذين كانوا يتحملون مشقة السفر ، من أجل أشياء
لم أعد بها . أنت الوحيد الذى سافرت اليه وحدى فى الليل ، الى قرية لم أسمع بها ، فرحة بأى مجهول ينتظرنى . أنا التى تخاف القيادة فى الليل ،
وأن تتوه فى بلد لا تعرفه ، أصبحت فجأة امرأة جريئة ، لامبالية بأى نتائج .
هدأت وتوقفت عند جانب الطريق المواز اترعة القرية ، لأشرب كوبا من عصير القصب . فعلا ، لقد اقتربت جدا . فأنت وصفت لى هذا المحل .
وقلت أنه بجوار البيت . حب عصير القصب ، شئ مشترك بيننا . وكذلك موسيقى العبقرى " القصبجى ".
بدأت المعالم تتضح ، وبدأ المطر يداعب أحلامى . فتأكدت أنها رحلة العمر . بينى وبين المطر ، حكايات وأسرار وأمنيات ، ولا يخذل أبدا
المجئ حينما أناديه وأحتاج اليه . وكتبت قطرات المطر أول سطر ، فى قصيدة جديدة ، أنت ملهمها ، وأنا بطلتها .
دخلت الى البيت ، ولم أكن أعرف أننى دخلت الى مصيرى ، الى ما يربطنا الى الأبد ، الى ما يفرحنى الى الأبد ، وما يبكينى الى الأبد .
تعرفت على أبيك ، الهادئ ، البشوش ، يرحب بكلمات لم أسمعها
من قبل : " يادى النور " . تعبير بسيط ، كان كافيا لأتأكد أن بقائى سوف يطول ، وأننى منذ الليلة أصبحت جزءا عضويا ، أبديا ، فى هذه الأسرة الريفية الطيبة . أسرة فقدت الأم مبكرا . لكنها لم تفقد الدفء ، والسكينة .
أعددت لى الشاى والعشاء . غنيت لى آخر ألحانك . عزفت على
" العود " ، أغنيات أحبها ، وجلسنا نرتب دون أن ندرى ، لقدرنا
المحتوم بالفرح ، المختوم بالألم .
قلت لك : " هذا العالم ليس مكانا للعيش ، انه بحر من الدماء ،
حماقات البشر المتكررة تخنقنى ، واستسلامهم للزيف ينفرنى . الأكاذيب
تصلنا مجانا حتى بيوتنا ، وداخل غرفة النوم . لم أعد أسمع العصافير ، صباحا ، ولا الكروان ليلا ، لا أدرى كيف أتأقلم مع حياة ، أصبحت سوقا كبيرا ، كل شئ يُباع ، ويُشترى ".
أمسكت يدى قائلا : " معا نواجه كل الأشياء .. أنت بالكتابة وأنا
بالموسيقى . سنصنع لنا وطنا داخل الوطن . أتعب أرتاح بين كلماتك ،
تشعرين بالضجر أهديكِ نغماتى ".
قلت : " والدك ، سعيد بمجيئى ، ليس مألوفا أو مقبولا ، أن تأتى امرأة تزور رجلا فى بيته الريفى ".
أنت : " أبى أكثر استنارة وتحضرا وتقدما ، ممنْ نعرفهم
جميعا .. وهو يحبنى ، ويثق أن ابنه الذى جاء بعد ستة بنات ، لا يفعل
شيئا معيبا أو مهينا له ، أو لغيره ".
سألتك : " أين هو ؟ أريد أن أجلس معه ونتكلم ".
تقول : " أتسمعين آذان العشاء هذا .. انه صوت أبى امام جامع
القرية ".
قلت : " عرفت الآن ممنْ ورثت الصوت الجميل ".
تشرد عيناك .. تبتسم قائلا : " وأنا صغير كنت أستاء جدا من الاستيقاظ مبكرا ، خاصة فى الشِتاء فى عز البرد ، لكى أقوم أتوضأ ، وأذهب للصلاة مع أبى فى الجامع . كان عمرى أعتقد سبع سنوات .. وكنت عاوز أصلى مثل الكبار .. وبعدين تعبت ، وقلت لأبويا مش عاوز أقوم من السرير وأتوضأ وأصلى الفجر تانى ، عاوز أنام وكمان مش هاصلى تانى فى أى وقت .. خمس مرات كتير أوى يا أبويا .. كل شوية وضوء وصلاة تعبت ..
ابتسم أبى شيخ القرية وامام الجامع ، وقال بالحرف الواحد " ليك حق بلا وجع دماغ .. النوم سلطان ، حد يا ابنى قالك تصلى ، انت حر .. وهذه الجملة الساحرة ، هى التى صنعتنى ، فتحت لى أبواب الحرية ، وجعلتنى لا أؤمن الا بعقلى ، وتفكيرى ".
قلت لك : " هنيئا لك بأبيك ".
أنت : " هنيئا لى بكِ .. لم تسافر امرأة أبدا ليلا ، لترانى وتزورنى ،
هنا فى البيت الريفى .. أنتِ الزاهدة فى جميع الرجال ، تتحملين العناء من
أجلى .. هذا أكثر مما تمنيت . لا أطلب شيئا من الدنيا ، أكثر من هذا ".
أنا : لكن أنا أطلب شيئا ... كوبا آخر من الشاى تقدمه بيديك ، وفى
حضور أبيك ، الشيخ الحنون الجميل ، وامام جامع القرية المستنير ، لولاه ما كانت الليلة ".
--------








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا


.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما




.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في


.. من الكويت بروفسور بالهندسة الكيميائية والبيئية يقف لأول مرة




.. الفنان صابر الرباعي في لقاء سابق أحلم بتقديم حفلة في كل بلد