الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خميرة الخبز

منير المجيد
(Monir Almajid)

2021 / 10 / 21
الادب والفن


في سنوات الطفولة، كان شراء الخبز من فرن «أبو صباح» ترفاً، لذلك كانت أمّي تلجأ، مثل بقية نسوة الحي، إلى إستعمال تنّور الحاجّة أم سعيد. ولأن الخَبْز يحتاج الخميرة، فإنّ تداول الأخيرة كان عادةً مُتبعة أيضاً. فالتي عملت على تحضيرها لم تبخل على توزيعها، والتي ارتفع عجينها اكتفت بإعطاء قليل منها لتقوم جارتها بإضافتها إلى عجينها، وهكذا. أمّي كانت ترسلني إلى الحاجّة تطلب منها «هڤيناً». ولا غرابة أن يُقارب الكرد بين كلمتي عجين وخميرة، فالأولى «هڤير»، والثانية «هڤين».

تبدو عملية تحضير الخميرة في منتهى البساطة. كميّة قليلة من الطحين ومقدار مماثل من الماء.
لكن هذا التفاعل الكيميائي هو من معجزات الطبيعة. في هذا الخليط مستعمرات من الكائنات الحيّة الدقيقة والخمائر الطبيعية والعصيات اللبنية. الطحين يحتوي بشكل طبيعي على مجموعة من الخمائر الطبيعية والبكتيريات، وحين خلطه بالماء يقوم إنزيم الأميليز بتكسير النشاء إلى غلوكوز السكّر والمالتوز. مع الوقت الكافي ودرجة الحرارة والرطوبة يُطوّر الخليط مُستنبتاً مُستقرّاً يؤدّي بالنتيجة، حين إضافته للعجين، إلى إرتفاعه، بسبب إنتاجه الكثيف لغاز ثاني أوكسيد الكربون.
الفارق الأساسي بين خميرة أمّهاتنا وتلك التي نشتريها جاهزة، أنّ حمض اللاكتيك المُنتج من العصيّات اللبنية يضيف مذاقاً حموضياً مُترفاً شهياً للخبز، علاوة على أداء ملحوظ لحفظه.
هذا يُفسّر أن أمّهاتنا كنّ يخبزن مرّة أو مرّتين في الشهر، رغم عدم وجود البرّادات والفريزرات. حسناً، بعد يومين كان الخبز يقسى، وبعد أسبوع كان يمكن تحويله إلى سلاح هجومي.
لذلك مازلت أتذكّر مروري صباح كل يوم إلى جانب الفرن في طريقي إلى المدرسة ورائحة الخبز الطازج. أحسن بكثير من شعور «فنجان قهوة وفيروز»، الذي يصفعني به العديد من الفيسبوكيين.

في الحضارات القديمة، البابلية والسومرية والآشورية والمصرية والإغريقية، ومن ثمّة كل الأديان الإبراهيمية نجد أن الإنسان خُلق من تراب وماء وعُجن ليكتسب هيئتة.
هل هناك رابط بين قدسية الخلق والعجن، أي الخبز؟
يُقال، دون تأكيد مُطلق، أن الإنسان خبز الخبز قبل ما لا يقل عن ثلاثين ألف سنة. وكانت البداية على شكل خلط الماء ببعض الحبوب وقليها على الصخور الساخنة، وتُعتبر هذه أهم خطوة خطاها الإنسان نحو الحضارة والتحضّر، خاصة ما عنته في الإبقاء على الحياة. بقوّتها وبساطتها. قّوة الخبز كعنصر هام في التغذية ومدّ الجسم بالكاربوهيدرات الحيوية للطاقة، وبساطته التي تتكون من الطحين المخلوط بالماء وقليل من الملح.
في دراسةٍ للأكاديمية الوطنية للعلوم في أمريكا عام ٢٠١٠ تحدّثت عن إكتشاف بقايا نشاء (من السرخس على الأرجح)، في ملاط عصور ما قبل التاريخ.
ربما كان الفراعنة أوّل من خبزَ، أو ربمّا كانت هناك حضارات اخرى سبقتهم، إلا أنه من المؤكد أنّهم أول من إستعمل الخميرة.
لقد تمّ تقديس الخبز وقام الأوّلون بتطوير دلالاته ليُصار إلى تجسيد رمزي، ليس فيما يتعلق بمكنونه الغذائي فقط بل مرتبطاً بالتضحية.
امي كانت تنصحنا دوماً بعدم رمي كسرات الخبز، بل وضعها على جدار كي تقتات عليها الطيور، وربّما القطط الشاردة التي كانت تضطر إلى ممارسة عادات نباتية تتمثل في تناول الخبز، لعدم توفّر اللحم، حتّى لنا.
في كل الحضارات، دون إستثناء، أساطير تتعلق بالقمح والخبز والعجن. وما تسريب هذا، برأيي، إلى سحبه على خلق الإنسان، الذي جاء من الطين (عجن التراب والماء)، إلّا دلالة رمزية بليغة.
في النص السومري « بعرق وجهك تأكل خبزاً حتى تعود الى الأرض التي أُخذتَ منها، لأنّك من تراب وإلى التراب تعود».
وفي سفر التكوين العبري: «وجبلَ الإله آدم تراباً من الارض، ونفخَ في إنفه نسمة الحياة، فصار آدم نفساً حيّة».
والفكرة إيّاها تتكرّر في الأسطورة الفرعونية والإغريقية (أنظر فراس السّواح في كتابه مُغامرة العقل الأولى).
والمشهد الدلالي جليّ في أوضح صوره، حينما شارك المسيح تلامذته بالخبز والنبيذ في العشاء الأخير.
وقد عبّرت الشاعرة الاسترالية آينيز ك. هيلاند (١٨٦٣ - ١٨٩٢) أجمل تعبير عن العلاقة بين الخبز والنبيذ والحب في هذا المقطع:
وأي خبز سأكسر
مع نبيذي، برأيك أنت؟
خبز الحب،
هذا محضٌ وصحيح.

والخبز، ليس ذاك المخبوز من طحين القمح (ولهذا أيضاً عشرات الأنواع) الذي يتمتع ببروتينات عالية ونسبة مُرتفعة من الغروية، فحسب، بل قام القدماء بعمله من الشعير، ومن الذرة (أمريكا اللاتينية وخبز التورتيّا المشهور)، والأرز والبطاطا. في العصور الأحدث أضاف الإنسان إلى القائمة مكونات اخرى مثل الفول والبازلاء والفاصولياء والجاودار والحنطة السوداء.

في السنوات العشرين الأخيرة إزداد إهتمام هواة الطبخ والنفخ، من أمثالي، في تحضير المأكولات في البيت، والإحجام، قدر الإمكان، عن شراء المأكولات الجاهزة.
الخبز يتصّدر برنامجي هذا. ولكي أكون أكثر إلتزاماً بالمبدأ، فقد قمتُ بتحضير خميرتي أيضاً.
إسمها بالإنكليزية sourdough، وتعني حرفياً «العجين الحامض»، وتُسمّى خميرة العجين بالعربية، دون إضافات وتوضيح كما في بقية لغات العالم، فالخميرة الإعتيادية أسمها yeast، وبالعربية أسمها خميرة. أرى هنا أيضاً، كما في إشكالية الترفل والكمأة، ضرورة إيجاد كلمتين واضحتين للتفريق بين هذين النوعين من الخميرة.
ولكلمة «خميرة» اشتقاقات كثيرة جداً. في مُعجم المعاني الجامع: أخمرَ يُخمر، إخمارًا، فهو مُخمِر، والمفعول مُخْمَر. أخْمَرَ: تَوارَى في الخَمَر. أخْمَرَ: كَثُر عنده الخَمْر. أخْمَرَ المرأَةُ: كان لها خُمُرٌ. أخْمَرَ الجاريةُ: آن لها أن تَخْتَمِر. أخْمَرَ الأرضُ: كَثُر خَمَرُها. أخْمَرَ على فلانٍ: حَقَدَ. أخْمَرَ الخَمْرَ: اتخذها. أخْمَرَ الشيءَ: ستَره. أخْمَرَ الشيءَ: أغفلَه. أخْمَرَ الأمرَ: أضمَره، كتَمَهُ. أخْمَرَ فلانٌ على فلان ظِنَّةً: أَضْمرها. أخْمَرَ فلاناً: خدَعه. أخمرَت المرأةُ العجينَ: جعلت فيه عجينةً مختمرةً بها فطر خاص، ليولّد ثاني أكسيد الكربون. أخمرَت المرأةُ وجهَها: سترته.

لتحضيرها يجب إضافة مقدار من الطحين الأبيض فقط، يُماثله مقدار من الماء. تُحرّك جيداً وتُغطّى. في اليوم الثاني تُضاف ذات الكمية من الطحين والماء، ثم تُعاد في الأيام الثلاثة التالية. قد تتفاوت المدّة حسب نوع الطحين ودرجات الحرارة، إلّا أن الخطوات الأهم هي التحريك الجيد، وعدم وضعها في البراد. حينما تفوح منها رائحة البيرة، تكون قد نضجت. وحينها يجب وضعها في البراد. وعلى ذكر البيرة، لا عجب أن خمائر الخبز المُختلفة الجاهزة التي تُرصّ في برادات السوبرماركتات، قد تمّ صنعها في معامل إنتاج الكحول.
في حلب مازال أسم خميرة الخبز «خميرة البيرة».
يجب أيضاً، مُعاملتها بحبّ وتدليلها. مثل أن تحركّها (إستعمال صيغة الذكر لا علاقة لها بالثقافة الذكورية الخرقاء بل لتسهيلها لغوياً) كل يوم أو يومين لتتمتّع بظهور فقاعات الهواء على سطحها، وبالتالي لتشعر بمدى صحّة وليدك. نعم، الخميرة وليدٌ قمتَ أنت بصنعه. ولأنه وليد يجب، وهذا هام، تلقيمه بملعقة من الطحين وأقلّ منها من الماء، كل أسبوع.
وحين تخبز، أضفها، إلى جانب الملح، بمقدار فنجان إلى طحينك واعجنه بحيوية ولمدة لا تقل عن عشرة دقائق (آلياً دعه لضعف المدّة) لتفعيل الغلوتين، واتركه لمدة لا تقل عن إثنتي عشر ساعة، لتحصل على قوام سلكي منفوخ كثديي سيليكون، وملمحاً من الفسق.
الخبز الناتج يختلف كثيراً بالمذاق، والسطح مُقرمش أكثر، والقوام اسفنجي مطّاطي رطب مُثخن بقاعات هوائية.
هو اللحظات الأولى من خبز أمّي الساخن. أريج يُشبه الحياة والإبتسامة. حينها تتذكّر أن تضحك له، بعكس العبوس الذي «ما بيضحك للرغيف السخن».
هذه الخميرة، إن اعتنيت بها، فإنّها ستعيش معك بقية عمرك. أو ربما مع أطفالك والأجيال اللاحقة.
في كاليفورنيا (سان فرانسيسكو تحديداً)، بدأت «ثورة» خَبْز العصور الحديثة قبل مائتي سنة، أيّام البحث عن الذهب، حينما صارت الأفران تستعمل العجين الحامض.
هناك فرن يستعمل نفس الخميرة حتّى الآن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إعلام إيراني يناقض الرواية العراقية حيال -قاعدة كالسو- وهجما


.. شبّه جمهورها ومحبيها بمتعاطي مخدر الحشيش..علي العميم يحلل أس




.. نبؤته تحققت!! .. ملك التوقعات يثير الجدل ومفاجأة جديدة عن فن


.. كل الزوايا - الكاتب الصحفي د. محمد الباز يتحدث عن كواليس اجت




.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله