الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأطلال

منير المجيد
(Monir Almajid)

2021 / 10 / 22
الادب والفن


النفاق والتمسّح بالسلاطين ليست ظاهرة حديثة، بل تمتدّ في عمق الشعوب وتاريخها. وأمّ كلثوم ليست مثالاً فريداً وشاذّاً في دنيا الموسيقى في مصر قبل ثورة عبد الناصر وبعدها.
فالآنسة، حينذاك، فُجعت بوفاة سعد زغلول ورثته بكلمات رامي وألحان القصبجي في أغنية «أن يغيب عن مصر سعد» عام ١٩٢٨، في أجواء القاهرة الضاجّة بالموسيقى والسينما والمسرح والفنون والإنفتاح، حيث سيطرت النساء على الصورة العامة، وكانت ملتقى الفنانين من مختلف دول العالم، بما في ذلك دول الشرق بالطبع. باختصار كانت واحدة من أهمّ عواصم الدنيا النابضة كما كانت برلين، وبكثير قبل أن تنفرد لندن باللقب في الستينات.
هنا وجدت أمّ كلثوم موقعاً لها، تعزّز بتحلّق أفضل الموسيقيين والشعراء حولها. لكن، وبتسارع وتيرة شعبيتها، وجدت نفسها مُضطرّة لتكون حاشية سلطان و«مسّيحة جوخ»، وصفة الإرتقاء في سلّم الأمجاد. صحيح أن فترة العشرينات لم تتجاوز طقطوقاتها المعروفة في إرضاء جمهورها من الرجال، بالرغم من رثاء زغلول، لكنها كانت ترتجل وتخرج عن نصوصها لتمدح وجود الملك فؤاد أو ولي عهده أو أميرة ما في حفلاتها، إلى أن، وبشكل مُباشر، خصّصت أغنية للملك فاروق عام ١٩٣٩ (اجمعي يا مصر من كلمات رامي ولحن القصبجي)، وبعدها بسنتين غنّت «مبروك على سمّوك وسمّوه» (كلمات بديع خيري ولحن السنباطي) لمناسبة زواج الأميرة فوزيّة شقيقة فاروق مع محمد رظا بهلوي (كان ولياً للعهد حينها). النسخة المُتوفّرة منها رديئة الصوت من الناحية التقنية، والأغنية، بمجملها، لم تكن أفضل حالاً منها. ولمناسبة عيد جلوس فاروق على العرش في ٦ نيسان نظم أحمد شوقي «الملك بين يديك-عيد الدهر» فغنّتها الآنسة بلحن السنباطي.
في ١٩٥١ غنّت قصيدة حافظ ابراهيم «مصر تتحدّث عن نفسها». وبدوري لن أتحدّث عن لحن السنباطي الجميل، ولا أداء أمّ كلثوم الرفيع، لكنني سأشير إلى النفاق الذي عمّ الوسط الفني المصري عامّة. فهذه الأغنية التي لم تصدر على إسطوانة بل بقيت كشريط مُسّجل في رفوف راديو القاهرة، أُستعملت بعدئذ كمُقدّمة لكل بلاغ عسكري أصدره مجلس ثورة عبد الناصر عام ١٩٥٢. لا بل ذهب الإعلام إلى ربط الأغنية بمشهد الثورة، وكيف أنّ أمّ كلثوم كانت تحسّ بقدومها. هكذا!
سرعان ما تغيّر هوى السيّدة السياسي، فأضحت ثورجيّة قومجيّة ناصرجيّة حتّى النخاع، ناسية أغاني مدح هذه وذاك من الملكيات المحلية والعربية.
بدأ الأمر إثر حادثة إطلاق ثمانية أعيرة نارية فاشلة على جمال عبد الناصر (كان رئيس مجلس الوزراء) في ٢٦ تشرين الأول ١٩٥٤ في ميدان المنشية في الإسكندرية، وتثبيت التهمة على الإخوان المسلمين، وما نتج عنه من حملة إعتقالات وإعدامات، ووضع أبجدية الأحرف الأولى لنظام شمولي مخابراتي أثّر في العديد من الدول، حيث مازالت شعوب المنطقة تُعاني من آثاره حتى اليوم.
في إتساع مُلفت لواقع القوميّة المُتوّج بالوحدة بين مصر وسوريا، وسقوط الملكية في العراق في نفس العام، شَدَت السيّدة، بعد أن كانت آنسة، من كلمات محمود حسن إسماعيل وألحان السنباطي الأغنية البديعة «بغداد يا قلعة الأسود»، التي صارت مُقدّمتها ضيفاً يطلّ على المستمعين في إذاعات العراق، وفي فترات نقاء وحبّ أخوي عاطفي بنكهة القومية كنّا نستمع للأغنية من إذاعة دمشق والقاهرة أيضاً. يجدر بالتنويه أنها قدّمت عام ١٩٣٩ أغنية اخرى أسمها «بغداد».
ويبدو أن بادرة واحدة لثورة تموز العراقية لم تكن وافية، لأنها أردفتها باغنية «منصورة يا ثورة أحرار» من كلمات سخيفة لعبد الفتاح مصطفى، ولحن للسنباطي لم يكن أبداً في مستوى عبقرية السنباطي، ممّا يفضي إلى الإعتقاد بعملية سلق سريعة كما التلميذ الذي يصرف القليل من الوقت لعمل وظائفه المدرسية مُعرّضاً نفسه إلى الوقوع في أخطاء عديدة. ثمّ تكرّر الأمر مع هذا الثلاثي عام ١٩٦٣ في «الزعيم والثورة» التي جعلوها هديّة لعبد الناصر، و«يا جمال يا مثال الوطنية» الهزيلة من كلمات بيرم التونسي هذه المرّة. مروراً بـ «يا حبّنا الكبير»، و «حبيب الشعب» عام ١٩٦٥، وعام نكسة ١٩٦٧ «قوم بإيمان وبروح ضمير»، وأخيراً، ربّما أسوأ ما غنتّه السيّدة: «رسالة» من شعر نزار قباني في رثاء وفاة الريّس المُفاجئة، دون أن أذكر عدّة أناشيد في تمجيد مصر والسودان والسّلاح.
إنّ الأغاني «الوطنية» للسيّدة بعد النكسة ما هي إلّا سلسلة متواصلة لتبديد قنوط الشعب وإيغالاً في حقن المخدر في شرايين طربهم.

هذه المُقدّمة الطويلة أراها مدخلاً إضطرارياً لتهيئة الجو للحديث عن «الأطلال» (١٩٦٦).
وجد رياض السنباطي نفسه في الستينات قد أُزيح عن موقعه الذي بلغه في الخمسينات، كالملحن الأكبر، في العدد أيضاً، في عالم السيّدة. صحيح أنّها لم تركنه كما فعلت بالقصبجي، إلّا أنها كانت قد مالت، وهي تجاوزت سنواتها الستّين (لا نعرف سنة مولدها بدقّة) إلى الزخرفة اللحنية بإضافة الإيقاع الراقص، ونحو سهولة إنت عمري محمد عبد الوهاب. عبد الوهاب صرّح في مقابلة تلفزيونية أواخر الثمانينات أنّ قدرات الست الصوتية كانت قد تهاوت فلجأ إلى الزخرفة والبهرجة الإيقاعية كي ينقذ ما تبقى لها من تراث صوتي. هذا الرأي الذي لا أجد له أساساً ثابتاً وهي تُودّي ألحان الفترة برخامة ومساحة صوت عريضة وقوّة وليونة وقدرة غير إعتيادية على التنقل والدمج بين المقامات، وخير مثال هو ما أنجزه السنباطي في الأطلال.
بالمُقابل، أعتقد، في ذات الوقت، أن الستينات، وليس السبعينات، كانت بداية إنهيار أغنية الطرب العربي التقليدي وظهور الأغنية الشبابية الكارثية المُعتمدة على مقام وحيد مُبسّط (كرد) وإيقاع الهيوه في معظمه، مُبتعدين عن الراست والسيكاه والحجاز. وقد تمّ ذلك، برأيي، على يد بليغ حمدي بدءاً بـ «ألف ليلة وليلة».
أعتقد أيضاً، بالرغم من أهمية الأطلال واعتبارها، من قبل معظم المختصين، كأهم أغنية في تاريخ الموسيقى العربية، أنّ في عناصرها تنافر مُبهم.
دعوني أسوق مثالاً: لدينا سيّارة فاخرة صنعها فنّان بتقنيات متطورة، مُستعملاً ثلاثة أجزاء من الرولس رويس والفيراري والمرسيدس. كل قطعة لوحدها نفيسة وجميلة وباهظة الثمن لكنها قليلة التوافق. أنا أتكلّم عن القصيدة واللحن والأداء في الأطلال. لو كان القصبجي هو الفنّان التقني لقام بوضع هذه القطع الثلاث من السيّارات في خلّاط ثمّ قام بصنع سيّارته.
في الأطلال الكثير من التكلّف. ربّما يعود إلى إصرار السنباطي على إقناع أمّ كلثوم بالكفّ عن إيقاعات المُجدّدين والعودة إلى «كلثمة» أغانيها. كأنه يقول لها ابتعدي عن عبد الوهاب وحمدي، فهما يجعلناك صوتاً جميلاً لرقّاصة هزّازة. لقد قام بصرف جهد بالغ في تضخيم موسيقاه، ومبالغه في إلباسها ثوباً سيمفونياً يعتمد ببعضه على التقاليد الموسيقية الغنائية الغربية في القرن الثامن عشر، وخاصة في المُقدّمة الفخمة التي اعتمد فيها أكثر من أربعة مقامات.
أو قد تكون القصيدة التي هُجنت ببعض الأبيات من قصيدة اخرى لإبراهيم ناجي بإسم «الوداع».
وكما معظم الإحباطات التي رافقتني في البحث عن قصّة الكلمات في ألحان أمّ كلثوم، واجهتني هنا أيضاً مسألة تُثير الإزعاج.
الإزعاج هو قلّة التوثيق والأرشفة في بلاد المشرق، مما يفتح المجال للتزوير التاريخي، لا بل تسريب قصص تافهة مليئة بالأكاذيب. ونحن هنا نتحدّث عن تاريخ قريب يبلغ أكثر بقليل من نصف قرن.
إبراهيم ناجي (١٨٩٨١٩٥٣) الذي نظم قصيدة الأطلال، قيل (هنا أكره أن أستعمل كلمة قيل، عوضاً عن أن أوردها كحقيقة) أنّه حاول إقناع الست باقتناء بعض قصائده، لكن أحالت أحداث المنطقة وثورة الضباط من تنفيذها، وحدث أنّه توفي في لندن إثر حادث مروري. في الستينات عادت إلى التفكير في المسألة وكلّفت أحمد رامي باختيار مقاطع من قصيدته الطويلة. أمّا اللحن فكلّفت به السنباطي، لأن لا أحد يمكن له التعامل مع القصيدة التقليدية كما يفعل هو.
شهرة الأطلال أسفرت عن قصص: الأولى أن ناجي كان مُغرماً بجنون بجارته، وحينما عاد طبيباً من أوروبا طلب منه رجل مرّة أن يسعف زوجته التي تعثّرت ولادتها، وبينما كان ينقذ حياتها طلب منه أن يكشف عن وجهها المُغطى، ليرى حبيبته القديمة. لماذا كان وجهها مٌغطى بحق السماء؟ ورواية اخرى تقول أنّ القصيدة خُصّصت لزميلته في كلية الطب «عنايات محمود» التي كان يحبّها. وأخيراً جاءت المُمثّلة زوزو نبيل لتقول أنّها هي المقصودة وقد كتب الأطلال لها.

لنعد إلى الأغنية، حديث اليوم.
استهل السنباطي الأطلال بجنس راست على درجة الدوكاه، بمعنى أن الجملة الأولى ليست، كما يقول الخبراء، مقام راحة الأرواح المُطابق للهزام، الذي يرتكز على درجة العراق عوضاً عن السيكاه. بعد ذلك تتوالى أجناس النهاوند والبياتي والحجاز والعراق. هذا الخلاف أدعه للخبراء لنتعرف، نحن العامّة، على الحقيقة.
المعروف أن ربط أي الأغنية، رغم تنوّع مقاماتها، يعود إلى المقام الإستهلالي مع حرص المؤلف على جعله للختام أيضاً، مما أثار إشكالية مفهومة عن إمكان أن لا يُشكّل المقام ذاته سوى نسبة مئوية صغيرة من مُجمل اللحن.
تُوغل السيّدة في راحة الأرواح وتميل إلى الصبا في «يا حبيباً زرت يوماً أيكه»، ثمّ إلى الصبا وصولاً إلى «أعطني حريتي أطلق يديّا» مُظهرة مقدرتها المُذهلة في تغيير طبقة الصوت، ممّا يدعم، مرّة اخرى، رأيي المُناقض لما قاله محمد عبد الوهاب عن مقدرات أمّ كلثوم الصوتية في الستينات. وهذا يتجسّد بوضوح في «هل رأي الحب سُكارى» لتُؤدي ثلاثة مقامات دفعة واحدة (الحجاز، البياتي وراحة الأرواح).
وتماماً هذا المقطع هو الأشهر، ليس من ناحية الإعجاز في الأداء الصوتي الدرامي وحسب، بل في إضافة جُرعة داعمة لتخدير الجماهير المدهوشة والمحبطة من نكسة حزيران.
وهذا ما جعل السيّدة تقوم بأداء الأطلال، لتزامنها بعد أقل من سنة مع ٦ حزيران، وإعتباراً من إطلاقها في ٧ نيسان ١٩٦٦ وحتّى ١٩٦٩، إحدى وعشرين مرّة مُتنقلة من مسرح لآخر، ومن بلد لآخر، أذكر منها حفلتان على مسرح الأولمبيا في باريس.
يُذكر أن خلافاً نشب بين السيّدة والسنباطي على درجة قفلة الأغنية «فإنّ الحظ شاء» العالية، فأم كلثوم تُنهي أغانيها دائماً بتدرّج ينخفض حتى النهاية. هنا أراد السنباطي درجة عالية صارخة فيها تعبيرية حداثية على الموسيقى العربية. والمُلاحظ أن السنباطي فاز في هذه الجولة، وفزنا لأننّا، كمستمعين، شهدنا قفلة تاريخية.

في عالمي البسيط وقدراتي ذات البعد الأُحادي في فهم وتذوّق الموسيقى الكلثومية، أعتبر أن رقّ الحبيب هي صاحبة الدرجة الأولى في سلّم تقديري المُنبسط، وليست الأطلال أو رباعيات الخيام. ولهذا لا علاقة بالإضطهاد الذي تعرّض له محمّد القصبجي على يد أمّ كلثوم القاسيّة الباهرة المعجزة الصوتية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة