الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قرويون على أرصفة المدن

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2021 / 10 / 24
المجتمع المدني


"مدني" مشتق من "مدينة"، يعني ساكن المدينة، سواء الفرد بذاته أو الجماعة كلها ساكنة المدينة وأهلها. والكلمة "مدني" لا تمتد لتشمل القرية أو العشيرة أو القبيلة أو سوى ذلك مما هو دون "المدينة"، لسبب واضح هو أن تلك التجمعات البشرية تقوم وتنتظم حياتها على علاقات وروابط شديدة الاختلاف عن نظيراتها القائمة في "المدينة". وحين يكون المدني هو "ساكن المدينة"، هذا يعني بالتأكيد أن الوصف "مدني" يشمل كافة أفراد المدينة بوظائفهم وطوائفهم وتصنيفاتهم وأجناسهم وأديانهم وأعراقهم المختلفة، أو في قول آخر يشمل كل ما يتصل بهؤلاء المدنيين وما ينتج عنهم.

هكذا، لا يقال أن من يمتهن، مثلاً، العسكرية أو الأمن أو الدين أو السياسة أو الطب أو المحاماة أو أي مهنة أخرى ليس "مدنياً"، طالما كان من بين "سكان المدينة" وأبنائها. الصفة الحاكمة في التصنيف ليست المهنة أو الديانة أو لون البشرة أو المكانة الاجتماعية أو الاقتصادية أو أي شيء آخر مما يفرق بين سكان المدينة ويمايز بينهم. بل هي في المكان، في "المدينة" حيث يستوطنون. وطالما أنهم جميعاً يستوطنون نفس "المدينة"، إذن هم جميعاً بلا استثناء "مدنيون"، متساوون بالمطلق في سكناهم واستيطانهم لذات "المدينة"، وفي حقوقهم وواجباتهم تجاهها.

الحكم فيما دون المدينة، في القرية أو العشيرة أو القبيلة أو غير ذلك، له خصائص شديدة الاختلاف عنه في المدينة، وليس هنا محل التفصيل فيها. باختصار، طبيعة الحكم دون المدنية بدائية وتقوم على روابط القرابة والدم والعصبية، وهي جميعاً لا يمكن أن تفضي إلى ما يعرف "حكم مدني"، الذي بدوره قد يتطور إلى "حكم ديمقراطي". لنترك أشكال الحكم ما دون المدنية جانباً الآن ونركز على المدينة.

ليس معنى أن شخص ما ذو مهنة عسكرية أو دينية، مثلاً، يترأس الحكم في المدينة، أن الحكم ليس "مدنياً" وأصبح عسكرياً أو دينياً. هذا غير دقيق. الحكم المدني معناه أن "يشارك سكان المدينة، أهلها، بدرجة أو بأخرى في حكم أنفسهم وتنظيم شؤون حياتهم بطريقتهم ووسائلهم الخاصة. وأهل المدينة هؤلاء منهم بالطبع العسكري ورجل الدين وغير ذلك. إذن، الشرط الحاكم لطبيعة الحكم "المدنية" في المدينة هو "مشاركة أهل المدينة"- سواء من خلال عدد صغير ومحدود أو عبر الأغلبية أو النسبة المرضية منهم، في حكم المدينة وتسيير شؤونها ومنافعها.

في الواقع، هذه المشاركة لا يمكن أبداً أن تكون شاملة، أو منصفة بالكامل. بل تكون عبر نسب ووسائل مختلفة. لكن تبقى دائماً غاية "إشراك كل أهل المدينة أو أكبر عدد ممكن منهم" بطريقة أو بأخرى، والتوسعة المستمرة لهذه المشاركة وعدم التضييق عليها وخنقها، تبقى شرطاً جوهرياً لأي حكم مدني حقيقي. فإذا ما بلغت نسبة مشاركة "أهل المدينة" في حكم أنفسهم مستويات مرضية ومستقرة، حينئذ يمكن وصف نظام الحكم المتبع "ديمقراطياً" أو "مدنياً ديمقراطياً"، حتى لو كان رجل عسكري أو ديني هو من يتربع على سدة الحكم. في المقابل، حين تتراجع هذه النسبة إلى حدود غير مرضية، حينئذ تصبح طبيعة الحكم أي شيء آخر عدا "مدنية" أو ديمقراطية". وتتحدد "مرضية" أو "غير مرضية" هذه من وجهة نظر سكان المدينة أنفسهم.

مرة أخرى، "مدنية" تعني أن أهل المدينة هم من يحكمون مدينتهم. السؤال هو: كم هي النسبة من كل أهل المدينة وطوائفها يشاركون في هذا الحكم عبر الوسائل المختلفة. إذا بلغت النسبة الصحية، كان النظام ديمقراطياً، ودونها غير ذلك.

حين تحتكر الحكم طبقة ما، فئة ما، أقلية ما، طائفة ما، أو مهنة ما من طبقات أو فئات أو مجموع أو طوائف المدينة إلى حد حرمان شركاؤها في "المدينة" أو التضييق عليهم ومحاصرتهم بدرجة أو بأخرى، تتحول طبيعة الحكم إلى القهر والاستبداد والديكتاتورية بدرجات متفاوتة ويكتسب صفة هذه الطبقة أو الفئة أو الأقلية أو الطائفة أو المهنة، ليصبح برجوازي، أو بروليتاري (حكم العمال)، أو عسكري أو ديني أو غير ذلك. قد يحتكر الحكم، أو نصيب الأسد منه، الأغنياء أو العسكريون أو الأمراء أو الفقهاء أو رجاء المال والأعمال والنفوذ، أو الشركات الكبرى ومتعددة الجنسيات، أو حتى تجار المخدرات والمجرمون والعصابات ممن يملكون من الوسائل ما يكفي لفرض سيطرتهم وقانونهم وحكمهم بالقوة- وبالإقناع وسحر الكلمة أحياناً- على بقية شركائهم في المدينة.

في الختام، الحكم المدني هو حكم أبناء المدينة ولا يوجد سوى في المدينة فقط. والحكم الديمقراطي هو امتداد طبيعي وصحي للحكم المدني فقط. بمعنى، القرية أو القبيلة لا يمكن أن توصل إلى "مدنية" أو "ديمقراطية" على الإطلاق. المدنية والديمقراطية في المدينة. لابد أن تنمو القرية وتتطور إلى مدينة أولاً، وتطور بالتزامن روابط وقواعد وقوانين وأعراف وعلاقات المدينة، أو البنية التحتية الثقافية المدنية.

هل نشأت وتطورت المدينة حقاً في العالم العربي؟ وهل نحن فعلاً سكان مدنيون نحيا في كنف أنظمة حكم مدنية، استبدادية أو ديمقراطية؟ هل تحكمنا نظم وقواعد وقوانين "المدينة" أم أن روابط ودماء وعصبية القرى والعائلات والقبائل لا تزال تجري في عروقنا من تحت جلودنا، وهي الحاكمة لأفكارنا وأفعالنا في الحقيقة؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيرانيون يتظاهرون في طهران ضد إسرائيل


.. اعتقال موظفين بشركة غوغل في أمريكا بسبب احتجاجهم على التعاون




.. الأمم المتحدة تحذر من إبادة قطاع التعليم في غزة


.. كيف يعيش اللاجئون السودانيون في تونس؟




.. اعتقالات في حرم جامعة كولومبيا خلال احتجاج طلابي مؤيد للفلسط