الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دليلي احتار

منير المجيد
(Monir Almajid)

2021 / 10 / 25
الادب والفن


لا يمكن الإبتعاد بسهولة عن الغوص في أعمال وحياة سيّدة الغناء، وما أُحيط بها من أحداث وشخوص. ففي كلّ موضوع أتصّوره الأخير في السلسلة، أرى نفسي، بعد ساعات من فضّه عني، غارقاً في أغنية جديدة، أرغب في البحث فيها.
الأمر مُثير على نحو خاص، لأنّه مرتبط بالتاريخ أيضاً. لا أقصد تاريخ السيّدة لوحده، بل كل من دار في فلكها، صعوداً حتّى تاريخ البلد والمنظقة بأسرها.
لكل أغنية خلفية وقصّة، ورغم أن أغنية اليوم لا ترتبط على نحو مُباشر بخصام شخصي بين رامي ومُلهمته، إلّا أنّه واصل حيوي في سلسلة تجليات شاعرنا.

التاريخ أمسية ١ كانون الأول ١٩٥٥ في مسرح حديقة الأزبكية. جمهور أمّ كلثوم يحتلّ مقاعده المُرقّمة. لكن، هم يختلفون عمّا كان قبل ثورة الضبّاط الأحرار.
رجال البلاط ذوي التغذية الجيّدة الممتلئين كخزانة، المُرتدين بزّات سوداء وكأنّهم طيور بطريق، الحاملين لنياشين مُلوّنة ثقيلة، والسيّدات المُتبرّجات بوجوههنّ الجادّة الآمرة وحليهن الكثيرة، أُستبدلوا بجنرالات يحملون نجوماً وطيوراً على أكتافهم وعلى صدورهم أوسمة لا نعرف كيف أحرزوها، أجسامهم نحيلة قويّة موتورة العضلات مدبوغة بلون برونز الثكنات.
ما تبقى من جمهور لم يتغيّر، حتّى هؤلاء الذين تعودّنا عليهم يصرخون بما يشبه الصلاة «عَظَمَةَ على عَظَمَةَ». صحيح أن العديد من الجنرالات وضّبوا بزّاتهم العسكرية في خزائن الثياب، وعلى رأسهم النقيب جمال، لكن العديد غيرهم كان يرتديها تفاخراً طاووسياً في مُناسبات كهذه، ليبقى تقليداً مارسه بضراوة الكثير من جنرالات المنطقة.
جلس أحمد رامي على مقعده رقم ثمانية، وبدا غريباً وسط سيل من بزّات الكاكي، قابلاً بزواج محبوبته المؤخّر من الدكتور الحفناوي الرجل الظلّ، تاركاً أحزانه في شجن طفرات مخيّلته الشعرية، ومُعاناة «ما بين بعدك وشوقي إليك، وبين قربك وخوفي عليك، دليلي احتار وحيّرني» وشكوكه دون أحكام مُسبقة.
وعلى المسرح حمل القصبجي عوده مُحتلّاً كرسيّه الخشبي الإزدرائي، تماماً خلف السيّدة، وظلّ في هذه الوضعية إلى مماته عام ١٩٦٦، ثمّ تركت السيّدة، تكريماً له، كرسيّه شاغراً لمدّة عامين.

كان عبد الناصر قد تجاوز محاولة اغتياله، وانتصر في الأزمة التي نشبت بينه وبين أول رئيس للجمهورية المصرية الجنرال «محمد نجيب». عبد الناصر لاحق قيادات الإخوان المسلمين، بينما كان الرئيس نجيب يُفضّل الهدوء والتعقّل وفسح المجال أمام الحريّات، التي تقلّصت على نحو جدّي. نظام القهر والإضطهاد كان يتبرعم وينضج ليُغطي مساحة تمتدّ على قارّتين.
من الدلتا والصعيد والجنوب توضّح للمصريين من هو الحاكم الفعلي. في أمر يتكرّر الآن في السعودية.
تلك الأمسية، كانت قبل ستة أشهر من تقلّد عبد الناصر، وعلى نحو لا يدعو للشكّ، منصب الرئيس (٢٥ حزيران ١٩٥٦). حيث كانت جماهير السيّدة الغفيرة التي غطّت جغرافية امتدّت من تطوان إلى البصرة، بانتظار إعلان مُذيع رايو القاهرة بدء السهرة «وانفرجت الستارة الآن، وحيّا الحاضرون أمّ كلثوم….».
في تلك الفترة كانت سيّدة الغناء العربي منهمكة في تشكيل نواة امبراطوريتها الخاصّة، لتُصبح سيّدة أعمال أيضاً. ففرقتها الموسيقية تحمل إسمها، وهناك جيش من العاملين والمُنسّقين لحفلاتها في وخارج مصر.

لم تحقّق شخصية، في العصور الحديثة، شعبيّة ساحقة كما فعلت أمّ كلثوم. عشقها وتمايل على حبال صوتها الملولك والأمراء والبرجوازيون وعمّال السكك الحديدية، والموظّفون، والمعلمون، والقّوادون، وسيّدات المنزل، والمُراهقون، ورجال الشرطة، والراقصات، والممثلات. لم يختلف أحد على حبّها وموقعها وتأثيرها.
لو تحلّى عبد الناصر بذكاء مقبول، لجعلها هي رئيسة للجمهورية كي يقنع ما تبقى من دول ناطقة بالعربية بفكرة القومية التي قضى بسببها، ولتوحّدت هذه البلاد تحت راية السيّدة الرئيسة كوكب الشرق والغرب أمّ كلثوم. وهي بغنائها لكانت أنهت، ما وقع عبد الناصر فيه من أخطاء وأزمات وحروب. كان المناخ مُهيّاً لهكذا خطوة عبثية.
إلّا أن التؤامة الغريبة بين الشخصيتين كانت قد ترسّخت ما تبقى من وقت في زعامة عبد الناصر. هو بائع الوهم القوموي الأكبر، وهي بضخّ المزيد من مورفين الطرب، وأي طرب ربّاني! هو يُخطئ وهي تطلق أغنية تزيل أو على الأقل تصلح من شأن الخطأ. كان تحالفاً ندر مثله في العصور الحديثة.

في أمسية ١ كانون الأول صدحت «ثومة» بأغنية «دليلي احتار». من شعر أحمد رامي وألحان السنباطي، وهي تضع نظّارات سوداء، ستُرافقها بقية حياتها بسبب متاعبها مع الغدّة الدرقية، ما أدّى إلى جحوظ عينيها وابتعادها عن التمثيل.
هي لم تكن أبداً مُمثّلة جيدة، مثل كل المُغنين الآخرين، في كل الأحوال.
رامي الذي صرف حياته يكتب بعاطفته وحبّه استطاع أن يُقدّم لها ١٣٧ أغنية من ٢٨٣ أغنية هي مجموع ما غنّته، بينما لحّن السنباطي لها ٨٨ أغنية.
كان لرامي موقف من الأغنية العربية، بعد رحيل السيّدة وعظماء آخرين، وقال حرفياً: «موسيقانا الآن كرجل صعيدي بجلباب بلدي، لكنّه يرتدي برنيطة أمريكاني، والأغنية الآن كالبطيخة الماوي، فيها مياه وكبيرة الحجم وليس لها طعم».

في دليلي احتار وضع السنباطي، بشكل واضح، رؤيته في توحيد الكلمات والصوت والموسيقى، في مَسّرَحةٍ درامية تعبيرية مُذهلة. وتوضّحت في هذه الأغنية، وما تلاها، إمكاناته الهائلة في توظيف الموسيقى وقيادة عضلات صوت ثومة للتعبير عن الحالة، والتي تنزل صعوداً ونزولاً من مقطع لآخر، لا بل من جملة لاخرى.
في المُقدّمة الموسيقية الموغلة في التأثر والرقّة (مقام كرد الأساسي)، تشعر أيضاً بالحيرة، تعبيراً عن الحالة عنوان الأغنية.
«ما بين بعدك وشوقي إليك، وبين قربك وخوفي عليك، دليلي احتار وحيرني»، تابع السنباطي تفرّعات الكرد، صعوداً ونزولاً على السلّم الموسيقي ببهلوانية نادرة.
«وأقول إمتى..» يذهب إلى مقام راست نوا، ويستمر عليه في المقطع الموسيقي الذي يتلوه. الغناء كرد، راست نوا، حجاز نوا، وبياتي نوا، وهكذا.
وهكذا يلهو السنباطي بآذاننا ويدير رؤوسنا حين يُوافق بين الفواصل الموسيقية من مقام شهناز ويجعل غناء السيّدة شهناز فرحفزا.
«أشوف عينك تراعيني وقلبي من لقاك فرحان»، الفرح هنا لا يخطؤه المستمع حين تهتز حنجرة السيّدة بتغريد ساحر، ثم تتجلّى تعبيرية الصورة من خلال «وأشوف بينك وبين عيني خيال البعد والحرمان»، فكلمة «حرمان» حزينة وقاسية، وفي الجملة التالية «وأخاف لتفوت ليالينا وأهيم في بحر أشجاني»، تركت كلمة «أهيم» و«أشجاني» أثراً بكائياً آسراً. وكي لا يلجأ المستمع إلى حالة من القنوط يُعاد المقطع اللازم في الجزئين الأخيرين «وأقول امتى أنا وانت ح نتقابل مع الأيام..».
في «أخاف في البعد توحشني وأخاف في القرب تتركني..» تظهر فيه مقدرة تعبيرية فذّة اخرى، ففيه نشعر بالحيرة والوحشة والخوف في جملة واحدة.
في المقطع الأخير يُتوّج البعد الدرامي في الجملة الأولى «يا ريتك حلم في جفوني، أنام وألقاك وأعيش ويّاك، وآخر طيف أشوفه إنت..». هنا أيضاً يأخذ السنباطي كلمة واحدة (أشوفه) ويجعلها اوپريت بذاته، من خلال صوت السيّدة العالي والمحترق بلوعة الحب الصعب، بما يُشبه الإبتهال الديني.

الإشادة لا تفي بمحاسن الطبيعة بل ممارستها في الذهاب في جولة، على سبيل المثال، وهكذا «دليلي احتار»، التي تحتاج إلى إعادة تشغيل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-


.. المغربية نسرين الراضي:مهرجان مالمو إضافة للسينما العربية وفخ




.. بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ


.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني




.. بعد فيديو البصق.. شمس الكويتية ممنوعة من الغناء في العراق