الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العجل أبيس وقصة السامريّ

سامح عسكر
كاتب ليبرالي حر وباحث تاريخي وفلسفي

2021 / 10 / 30
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


في سؤال لصديق عن عِجل السامريّ الذي عبده بني إسرائيل مع موسى

قلت: هو (العجل أبيس) الذي قدسه المصريون القدماء ، وهو عِجل طبيعي يجري اختياره وفقا لعلامات معينة منها علامة الهلال على جانبه الأيمن والمثلث على رأسه، في إشارة أنه مُرسَلا من إله القَمر..فأبيس إذن هو تجلي من تجليات القمر..وقد شهد المؤرخ الروماني "أميانوس ماركيلنيوس" المتوفي عام 391 م بعضا من طقوس هذا العجل في المعابد المصرية

فقال "أبيس عِجل يمتاز بعلامات مختلفة منها شكل الهلال على جانبه الأيمن، وعندما يقضي هذا العجل أجله المحتوم يُلقى به في البحيرة المقدسة فيلقى حتفه، وتُذبح في حفرة مماثلة بقرة تتميز بعلامات خاصة وتُهدى إليه، وبعد أن ينفق العجل يجري البحث عن أبيس آخر وسط حداد عام" (مصر في القرن الرابع صـ 65)

والمدة التي يعيشها هذا العجل 25 سنة، والبحيرة التي يُلقى فيها بعد تمام هذا العُمر غير معروفة لكن الكهنة كانوا يحتكرون معرفتها لقدسيتها، ومن يطّلع على الدين القديم يعلم أن شروط القدسية مجهولة للعامة بشكل كبير ولا يحل لشخص عادي أن يسأل عن أسرار القداسة، وهذا السلوك الكهنوتي ظل ملازما لرجال الدين في معظم الأديان إلى اليوم، فيحتكرون الدين لأنفسهم ولا يُبيحون أسراره للعامة ولهم مبرر في ذلك خشية الفتن..

المهم: يضيف المؤرخ الروماني في وصف طقوس أبيس "عندما يُساق العِجل إلى المعبد في موكب مؤلف من مائة كاهن يصبح مقدسا بمجرد دخوله المقصورة، ويقال أنه ينبئ بإشارات جلية إلى ما سوف يقع من أحداث، ويبدو أنه يصد عن بعض زائريه بشكل غير مرضي، فقد حدث فيما قرأت أنه صرف عن قيصر جرمانيكوس عندما كان يقدم له الطعام، فأفصح بذلك عن ما كان يوشك أن يحيق به بعد قليل" (مصر في القرن الرابع صـ 65)

ومختصر الكلام أن أبيس كان عجلا مقدسا يتنبأ به المصريون الأحداث المستقبلية، وعندما امتنع عن أكل طعام القيصر الروماني جرمانيكوس المتوفي عام 19م فسر الكهنة ذلك أن الرب غاضب على القيصر وأن مكروها سيصيبه ، وبالفعل مات القيصر بعد خروجه من مصر بقليل..والتاريخ المصري يحكي أحداثا شبيهة عززت من قدسية أبيس، عندما قرر الفرس غزو مصر في القرن 6 ق. م أثناء حُكم قمبيز..دخل هذا الملك الفارسي الإخميني طيبة ودمّرها واستهزأ بالمعبودات المصرية، وقتل أبيس في مقصورته..فكان جزاؤه أن مات وهلك جيشه في صحراء سيوة..ولم يشفع لخلفه الملك الفارسي "دارا الأول" من الاعتذار للمصريين وتجديد معابد آمون وأبيس والتقرب إليهم في نسيان الشعب المصري ما حدث فحاربوا الفرس حتى طردوهم

البطالمة اليونان كانوا أكثر ذكاء من الفرس، فحين غزوا مصرا في القرن 4 ق. م احترموا معبودات المصريين، ويحكي حجر رشيد أن الملك بطليموس الخامس جدد معابد أبيس تقربا للمصريين، حتى أن اليونان من فرط تقربهم لأبيس والمصريين اخترعوا إلها جديدا هو (سيرابيس) وظلوا يعبدونه في الإسكندرية بنفس مواصفات العجل أبيس، ولا زالت تماثيل سيرابيس تُكتشف من العهد البطلمي إلى اليوم..حتى أن منطقة في الإسكندرية تابعة لحي الرمل الشهير تٌسمى "أبيس" إلى اليوم لمركزية هذا العِجل في الثقافة المصرية..

أما اليهود فلا يؤمنون بالسامريّ لأن الذي صنع العجل الذهبي هو هارون أخو موسى، وعبده مع آلاف العبرانيين وقتها..لكن القرآن يبرئ هارون وينسب صناعته للسامريّ وهو شخصية غير معروفة في الكتاب المقدس..وعلى الأرجح فهو خلاف سياسي نشب بين اليهود بعد موت سليمان فانقسمت مملكته إلى دولة شمالية يحكمها "يربعام بن نباط" وهي التي أحيت عبادة أبيس مرة أخرى بين الإسرائيليين، ودولة جنوبية يحكمها "رحبعام بن سليمان" رفضت عبادة الأوثان وفقا للتصور اليهودي..

الدولة الشمالية عصمتها (السامرة) والجنوبية عاصمتها (أورشليم)

ومن هنا تبين أن لفظ السامريّ منسوب لمدينة السامرة، والمقصود به (رجل من السامرة) هو الذي سيطر على اليهود آنذاك وقت غياب موسى، وهو الذي ورّث لاتباعه في المدينة قدسية أبيس لمئات السنين..وما زال هذا الخلاف بين اليهود قائما حين ادعت طائفة يهودية اسمها (السامريون) عدم قدسية أورشليم وأن عاصمة اليهود الحقيقية هي بجوار نابلس في مدينتهم القديمة، بينما معظم اليهود يتهمون السامريين بالكفر وعبادة الأوثان وأنهم من نسل يربعام بن نباط الذي صنع العجل الذهبي

فالقرآن هنا يتفق مع الكتاب المقدس في شئ، وهو أن طائفة يهودية عبدت العجل وقت موسى، لكنها تمثل طائفة مغضوب عليها في الدينين (الإسلامي واليهودي) والمتطرفين المسلمين بمساعدة مفسري القرآن قليلي الاطلاع ألصقوا تهمة عبادة العجل لكل اليهود، بينما في داخل اليهود خلاف كبير على ذلك والتهمة منسوبة للسامريين أكثر وهي طائفة قليلة العدد جدا ..ربما عدة آلاف، وقد اطلعت على موسوعة اليهود واليهودية لعبدالوهاب المسيري وجدته يشرح هذه النقطة بالتفصيل..لكن شيوخ المسلمين والإخوان برغم إيمانهم بالمسيري لكنهم قفزوا على تلك الجزئية وأصروا على نسب عبادة العجل لكل اليهود..

والتاريخ يحكي أن حروبا دموية حصلت بين مملكتي يهوذا (الجنوبية) وإسرائيل (الشمالية) التي عبدت العجل، وبدأت تلك الحروب بين "أبيام بن رحبعام بن سليمان" ملك الجنوب وبين "يربعام" ملك الشمال في القرن 10 ق.م، واستمرت حتى استولى الملك "يوشيا" ملك الجنوب في القرن 7 ق. م على الشمال، فأقدم على تدمير معبوداتهم الوثنية وفقا لتصوره، ومنها بالطبع العجل الذهبي المنصوب وقتها في الهيكل، فكان ذلك هو آخر حضور للعجل الذهبي في التاريخ الإسرائيلي..وبقيت سردياته في القصص الديني كتهمة لمملكة الشمال في الكتاب المقدس، وكتهمة لمجموعة إسرائيلية في صحراء التيه مع موسى وفقا للقرآن، وبين موسى ويوشيا قرون متصلة هي وفقا للتاريخ الإسرائيلي 600 عام، أي أن قداسة أبيس والعجل الذهبي بقيت في قبائل العبرانيين 6 قرون متصلة حتى قضى عليها يوشيا الملك، وهو أمر غاية في الأهمية يشرح ويؤكد صعوبة القضاء على تلك الظاهرة وأنها لم تكن عابرة وبسيطة في التاريخ اليهودي..

أما عن البقرة التي أمر بذبحها بني إسرائيل في القرآن وسميت بها أكبر سورة فأعتقد أنه توجد علاقة بينها وبين عبادة العجل الذهبي، فالبقرة التي تلقى في البحيرة المقدسة التي شهدها المؤرخ الروماني " أميانوس" كانت لها علامات، على الأرجح انتقلت لبني إسرائيل أثناء طقوس العجل في المعابد، علما بأن قصة هذه البقرة ذكرت في القرآن فقط ولا معلومات عندي لذكرها في الكتاب المقدس، والأمر بذبحها مجهول العلة، ودوافع الآمر مخفية تماما..لكن تصرف الإسرائيليين في السؤال عن علاماتها يوحي بتقارب وتشابه علامات البقرة التي تلقى في البحيرة المقدسة بعد نفوق العجل أبيس

أخيرا: توجد أقوال أن العجل ليس لأبيس بل هو (بعل) الإله الكنعاني، أو (حتحور) البقرة المصرية المقدسة، لكن هذا مردود، فكل أخبار العجل تقول أنه (ثور أو عجل) ليس (بقرة) وكذلك فبعل كان إلها كنعانيا يمثل وجهة نظر وثنية ثار عليها اليهود الأوائل، كذلك فطبيعة أبيس تقول أنها تطورت من صورتها المصرية لصورة أخرى عبرانية ظلت سائدة في المملكة الشمالية لإسرائيل بعد سليمان، بينما هذه الصورة اختفت عند مملكة يهوذا الجنوبية واستبدلوها بالملائكة، ففي الشمال يركب بعل الثيران والعجول..بينما في الجنوب يركب يهوه الملائكة الذين يسمون (بالكروبيم)

وبالتالي فالعجل الذهبي هنا ليس إلها في الحقيقة بل يمثل (عرش أو مركبة) يمتطيها الإله، وصناعته في قوم موسى كان تقربا إلى الله الممنوع تصويره بتماثيل في الوصايا العشر، وعلى الأرجح فكهنة بني إسرائيل رأوا أن إيمانهم في صحراء التيه بدأ يضعف فوصلوا لضرورة بناء تمثال لعرش أو مركبة الإله كي يعبروا عن طريقه بسلام إلى الأرض المقدسة، وهنا المعنى الرمزي لما صنعوه ، أن العِجل مجرد نداء وتعبد إلى الله لكي يعبروا بسلام..لكن موسى منع ذلك نهائيا وكان يقول بأن التماثيل حتى ولو بهذا المعنى فهي مقدمة لعبادتها وعودة الوثنية لبني إسرائيل التي تركوها في مصر وفقا للقرآن والكتاب المقدس..

وفي التاريخ الأوروبي إشارات على أن العجل الذهبي كان لأبيس إذ يُذكَر مع تابوت العهد الذي طُليَ بالذهب بنفس الطريقة ونُسبت له معجزات وكرامات في عصور لاحقة، ففي رسالة الملك الألماني "فريدريك العظيم" المتوفي عام 1786م للفيلسوف الفرنسي "فولتير" المتوفي عام 1778م قال "إن مبشريك سيفتحون أعين قلة من الشباب... ولكن ما أكثر الحمقى الذين لا يعقلون في هذا العالم!.. صدقني، لو أن الفلاسفة أقاموا حكومة فلن يمضي نصف قرن حتى يخلق الشعب خرافات جديدة... قد يتغير موضوع العبادة، كما تتغير الأزياء في فرنسا؛ (ولكن) ما أهمية أن يسجد الناس أمام قطعة من الفطير، وأمام العجل أبيس، أو أمام تابوت العهد، أو أمام تمثال من التماثيل؟ لأيهم الاختيار، فالخرافة واحدة، والعقل لا يكسب شيئاً" ..(قصة الحضارة 38/ 224)

أختم بطُرفة: حيث أقدم فقهاء المسلمين ورواتهم على نقل التصور اليهودي (الشمالي) لبعل وهو يركب الثيران للإسلام وقالوا أن عرش الله يحمله (ثمانية أوعال) أي تيوس..وهم ذكر الماعز فوق السماء السابعة، والحديث مشهور جدا في كتب الأحاديث، ويؤمن به الحنابلة ولولا تشنيع الأشاعرة عليهم لما أقدموا على تضعيفه لاحقا برغم شهرته في المذهب وعن فقهائهم الأوائل، أيضا نقلت كتب الأحاديث التصور اليهودي (الجنوبي) ليهوه وهو يركب الملائكة "الكروبيم" وفقال لحزقيال، فقالوا أن هؤلاء الملائكة لكل واحد منهم أربعة أوجه، (إنسان وأسد وثور ونسر) وتم تدوين ذلك في كتب تفاسير القرآن وهم لا يعلمون أنها منقولة بالحرف من سفر حزقيال ..ودمتم








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مشاركة توضيحية
ابراهيم الثلجي ( 2021 / 10 / 30 - 10:37 )
سيد سامح
اساسا من سلبيات بني اسرائيل تقليدهم للدهماء وهم اهل كتاب ومعززين بقوافل من الانبياء والرسل
فمجرد وصفلوا بر الامان بعد اغراق فرعون وجنوده بدلا من الشكر قالوا لنبيهم نريد عجلا صنما نعبده كاله المصريين اللي كانوا في تلك الناحية
فالعجل ليس اختراعا سامريا بل هو اختراع للدهماء المصرية حينئذ
ولما دخلوا فلسطين بعد التيه في سيناء عادوا واتخذوا من البعل اها وكان يدعى اله الخصوبة عبد في بلاد الشام وتركوا التوراة على اثره
ومن كتابات دانيال حسب ما ورد في الاثر عند اليهود بكتاباته الرمزية ان صح النقل بان يهودا والسامرة صارت تزنيان مع اله الفلسطينيين على رؤوس الجبال وهو يقصد انتشار الاباحية والزنا بعد ترك التوراة
خي سامح كي تربط تاريخ نشاة الانحراف العقائدي اربط بين الاسفار والرواية المصرية القديمة وستلج الى مشاهد اوضح لان القران الكريم حق ولا يتبنى روايات الديانات السياحية على غرار
المنتديات الثقافية في الجونة وامثالها
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ-;- قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ-;- أَصْنَامٍ لَّهُمْ ۚ-;- قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَٰ-;-هًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ۚ-;-

اخر الافلام

.. نحو 1400 مستوطن يقتحمون المسجد الأقصى ويقومون بجولات في أروق


.. تزامنًا مع اقتحامات باحات المسجد الأقصى.. آلاف اليهود يؤدون




.. الجزائر | الأقلية الشيعية.. تحديات كثيرة يفرضها المجتمع


.. الأوقاف الإسلامية: 900 مستوطن ومتطرف اقتحموا المسجد الأقصى ف




.. الاحتلال يغلق المسجد الإبراهيمي في الخليل بالضفة الغربية