الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وكانت أيام … ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2021 / 10 / 30
الادب والفن


لم نكن نعرف ، ونحن صغاراً .. أن هناك جريمة اسمها الأختطاف .. أن تختطف انساناً ، وتُبقيه رهينة حتى يدفع أهله مالاً مقابل رقبته .. هكذا عرّفوها لنا وأفهمونا ، وكانت مفردة جديدة اضفناها الى قاموس مفرداتنا الذي ينمو يوما بعد يوم .. !
عرفنا أنواع كثيرة من الجرائم .. كانت تنتشر في كل مكان من حيّنا وغيره .. من نوع السرقة مثلا .. عندما سطا الولد حنش على بيت ام داود ، وسرق مصوغاتها .. شقاء عمرها ، وعرق جبينها وسيقانها وما بينهما ، وكل سنين الكفاح بالجسد ، التي افنت فيها زهرة شبابها .. ! حتى اوشكت المسكينة ان تموت فيها .. !
والاحتيال .. عندما احتال رجل معروف السيئات .. يدعى ماهود ممن استمرأوا جهد الغير ، وأكلْ الثمر بلا عرق أو تعب .. على غلام ميرزة صاحب المتجر الوحيد في الحي ، وكان طماعاً جشعاً يغش في كل شيء حتى الميزان ، وينهب ما لا حق له فيه .. لطش منه مبلغاً كبيراً مدعياً تشغيله بفوائد مغرية .. نفّذ وعده لشهرين أو ثلاثة ثم اختفى بما تبقى من المبلغ نهائياً تاركاً ضحيته يتمرغ في التراب .. !
والقتل ايضاً .. عندما قتل غيلان زوجته الجميلة الفاتنة وعشيقها .. ارادت ان تنعم بالمتعة دون ان تدفع ثمنها .. وجاء وقت دفع الثمن ، ووقت القصاص على يد من لا يرحم .. غيلان الشرس القبيح الذي كنا نطلق عليه اسم البومة للشبه الغريب بينهما .. انتقاماً لشرفه عندما كبسهما معاً في بيته ، وهو عائد من السفر .. !
لم يكتفي بطعنها طعنةَ موتٍ واحدة ، وانما واصل طعنها وتقطيعها بحقد غريب ، ومزق عضوها التناسلي شر تمزيق .. مشهد مرعب لم تتحمله القلوب الضعيفة الواهنة .. كانت في وقتها فضيحة مزلزلة هزت الحي ، وبقي صداها يتردد لسنوات طويلة حتى طواها النسيان تحت ابطه ، وأصبحت مجرد عِبرة يُذكِّر بها الازواج زوجاتهم من مغبة التلاعب واللف والدوران .. !
اما الاختطاف .. فكان حكاية جديدة علينا ، وحدثاً غريبا اكثر مما هو جديد .. ليس على عقولنا فقط ، وانما على قيمنا وتقاليدنا التي عشناها على مدى أجيال .
استيقظنا يوما على خبر .. سرى في كل مكان .. سري النار في الهشيم .. أن بنت الباشا قد أُختُطِفت وأعلن الانجليز النفير العام في قوى الشرطة والجندرمة لأنهم اعتبروها بادرة خطيرة يجب ان لا تتكرر .
بنت الباشا .. مرة واحدة ؟! ومن هذا الذي طال بنت الباشا ووصل اليها ، والناس يمكن ان ترى القمر في المحاق ، ولا يمكنها ان ترى ابيها الباشا ، فكيف بها هي .. ثم أين أسراب الحرس ، والمرافقين والتابعين وتابعي التابعين ؟ اين الخدم والحشم والشِلل التي تحيط بها ليل نهار ؟
لم نستوعب الخبر ولم نفهمه .. !
سأل كل واحد منا ببراءة أبوه او اخوه الاكبر أو حتى أمه التي لن يحصل منها بالتأكيد على جواب لانها مثلنا سوا سوا لا تفهم في مثل هذه الامور شيئاً ، ولا في الكثير غيرها لان النساء في ذلك الزمان كنَّ في معظمهن أميات لايعرفن السما من العمى كما يقولون .
على أي حال لجأتُ إليها لجوء المضطر .. استقبلتني بوجهها الذي يشرق بالطيبة والمودة :
— ما هو الاختطاف ، يا أمي .. ؟
صمتت برهة ثم تثائبت من التعب .. اطلقت تنهيدة حارة ، ورفعت كتفيها مستسلمة .. وقالت :
— ليتني أعرف ، يا بني .. !
فخرجتُ منها صفر اليدين ..
فلم يبقى أمامي إلا أبي .. جمعت اشتات شجاعتي ، واعدت عليه نفس السؤال ، فأجابني متململاً :
— اهتم بدروسك ، ولا تقحم نفسك في أمور لا تعنيك ..
كيف لا تعنيني ، يا والدي ؟ والكل يتحدثون بها من الصغير الى الكبير .. ؟ ألست واحداً من هؤلاء الكل أم انا غلطان .. ؟
ويمر اليوم الأول على الباشا وزوجته مرور الجبال .. يا له من يوم ثقيل دميم .. ! يقولون أن الباشا ، وزوجته لم يذوقوا فيه طعم الأكل ، ولا النوم ولم ينعموا بالراحة .. !
أيعقل أن الباشا يشعر بالجوع ، ويحس بقرصاته المؤلمة رغم تكدس عشرات الأصناف أمامه على المائدة .. ؟ .. يا للغرابة ! ومعدته خاوية مثل آلاف البطون الخاوية الجائعة في حينا وفي غيره .. ؟ لا اصدق .. هذا الرجل السمين القصير الأكرش الذي لو وزعوا شحوم كرشه فقط .. لكفّت قبيلة بحالها لأيام .. يجوع .. كيف … ؟ عجباً .. حقاً عجب !
هل جاع مثل ابو كاظم مثلاً .. ؟ الذي لم يذق يوماً اكلةً يشتهيها ، ونفسه فيها .. مثل خلق الله دون أن تُفرض عليه من بقايا الصدقات الشحيحة ، والتي لا ذوق ولا طعم ولا حتى رائحة لها الا اللهم رائحة العفن .
وزوجة الباشا .. هل مر بها مثل ما مر بأم كاظم التي لم يدخل أحشاءها إلا ما تعوفه النفس من طعام .. إن جاز لنا ان نسميه طعاما مثلما نسمي القوزي والكافيار والستيك ومن لف لفهما طعاماً .. ؟!
هل ذاق الباشا يا ترى طعم القلق ؟ هل بكى في سره ؟ هل تلوى في فراشه مثل بقية أهلنا .. ؟ أي كلام هذا وأي تخريف لا يعقل .. ! على أي حال شكراً لك ، يا زمن .. ! لانك جعلتنا نرى مثل هذا اليوم .. ! .. اللهم شماتة والف شماتة .. !
وجاء الجندرمة من الهنود والگرگة ، وغيرهم من النفايات البشرية الذين تركوا بلدهم محتلاً منهوباً .. بقرةً حلوب .. عُهدةً بيد غاندي الجبان ، وافكاره وتصرفاته الغريبة التي قسمت الهند .. حتى قال عنه احد الهنود لقد علمنا غاندي كيف نكون جبناء وخدم ، وجاءوا ليحتلوا ارضنا ، ويذلونا ويمزقوا وحدتنا وينهبوا خيراتنا .. !
أية ريح بغيضة ، يا ترى .. دفعت بهم الساعة الينا .. ؟
منهم السيخ أصحاب العمائم الملونة الزاهية ، والشعور واللحى الطويلة التي لا تُقص حتى الموت ، والهندوس اصحاب الشوارب المبرومة ، والقبعات المزينة بالريش الملون .. يرتدون جميعاً الكاكي ، وهم ينظرون الينا شزراً .. ملعون أبوهم .. !
بدء اللغط بين سكان الحي ، وأخذوا يتقاذفون التعليقات ، ولأول مرة في حياتهم يكونون على وفاق تام ، وعلى موقف واحد .. رفضوا فيه ان يدنس هؤلاء الاوغاد بيوتهم ، وقالوا .. ان نموت بشرف خير لنا ان نعيش بدون شرف .. وتحفزوا واستعدوا للقتال .. !
ثم جاء الميجر الانجليزي .. في أيام كان فيها الإنجليز هم الأسياد والرؤوساء في كل شيء ، وكان احمر الوجه ازرق العينين منفوخ الأوداج .. شكله لا يعطي احساساً بالثقة ولا بالطمأنينة .. أخذ ينظر الينا نظرة اشمئزاز ، وكأنه ينظر الى صراصير حقيرة .. ربما جاء ليتدارك الأمر تسبقه الايدي لتدفع الفضوليين من الدهماء ، وتفسح له الطريق .. لكن الميجر الانجليزي هذا خاف من الحليم اذا غضب ، وكان داهية كغيره من الضباط الانجليز ، فأمر بالانسحاب فوراً .. وتركْ المهمة للشرطة العراقية !
وفي اليوم التالي بدأت حركة غير اعتيادية تدمدم في الحي .. عمَّ الهدوء ، وصمتَ الاطفال عن الصراخ ، وكتمت حتى الكلاب نباحها .. صمتٌ تسمع فيه تردد الانفاس .. إذ هجمت علينا جحافل الشرطة كاسراب الجراد الجائع .. مدججين بالاسلحة التي زودهم بها الاحتلال البريطاني .. لا ليطردوا محتلاً ، ولا ليقاوموا غاشما ، وإنما ليفتشوا بيوتنا ، وينتهكوا حرماتنا ، ونحن لم نكن نعرف أو نفهم شيئاً ، وليس لنا لا في الثور ولا في الطحين .. !
وبعد ان انتهى التفتيش .. نعق قائدهم مهدداً متوعداً .. الحاضر منكم يُعلم الغايب .. إن ثبت وعرفنا أن أحدكم كان شريكاً في إختطاف بنت الباشا ، فالويل ثم الويل له .. !
وعندما رحلوا تركوا ورائهم العسس او ما اعتدنا ان نسميهم في ذلك الزمان بالجواسيس ، وهم افراد من الشرطة السرية يتنقلون بدراجاتهم الهوائية بزي مدني في الشوارع والأزقة والاسواق والحانات لالتقاط كلمة من هذا او اشارة من ذاك خاصة في الأمور السياسية والأمنية ، وكان معظمهم مكشوفون ومعروفون لنا .. !
ألهذا الحد كان إختطاف بنت الباشا خطيراً ومهماً ، ويستدعي كل هذه الجلبة والحشود ؟ ولم يحرك موت الناس من الفاقة والجوع والمرض أية سكينة أو خلجة في القلوب الميتة أو شبة الميتة .. ؟! غريبة .. !
وفي غروب اليوم الثالث عثروا على الفتاة ، وقد حملتها قدماها الى حافة احد الانهار ممددة ممزقة الثياب منهوكة القوى منهوشة العرض مهدورة الكرامة .. يبدو انها قد هربت من سجانيها .. اعترفت بأسمائهم لانهم من بطانتها ومن نفس طبقتها وشلتها وتعرفهم جيداً ، فالقي القبض عليهم على الفور .. ونجونا من انتقام الباشا الذي توعدنا به .. !!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81


.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد




.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه