الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الانقلاب في السودان، عن المعجبين بحكم القوة

راتب شعبو

2021 / 11 / 1
مواضيع وابحاث سياسية


يؤكد انقلاب المجلس العسكري في السودان على الحكومة المدنية، أن من أهم العقبات التي تعيق تحرير العلاقة بين الحاكم والمحكوم في مجتمعاتنا هو الحضور السياسي للجيش. ليس من السهل تجاوز هذه العقبة، فليس من السهل عودة حصر الجيش في دوره العسكري ووضعه تحت سلطة مدنية لا تكون مجرد واجهة لحكم الجيش. ولا تعود الصعوبة فقط إلى الشهية المفتوحة للجيش على السلطة، ولا إلى جاهزيته التامة والدائمة وقدرته على فعل ما يريد، قياساً على جاهزية وقدرة القوى المدنية على مقاومته وردّ سيطرته. فإلى جانب ذلك، هناك تسليم يائس، يتخذ شكل الإعجاب أحياناً، لدى فئة غير قليلة من الناس بأن مجتمعاتنا بحاجة إلى حكم قوي لا يوفره سوى الحكم العسكري، سوى ذلك سوف تعم الفوضى والصراعات. ويُستشهد تكراراً بالثورات العربية ومآلاتها للتدليل على ذلك.
لا يقتصر الإعجاب بالحكم العسكري القوي على الفئات الشعبية بل تشارك به بعض النخب. ولا يُفهم من الحكم القوي المثير للإعجاب هنا، الحكمُ الذي يزيد قوة البلد في التنمية الاقتصادية ويعزز تماسكه المجتمعي ويعزز حضور البلد في العالم على مستوى السياسة والعلوم والرياضة ... الخ، بل الحكم الأحادي والصارم في وجه المجتمع، بحيث يقدم للعالم بلداً راكداً تحت ثقل العنف والقمع والترهيب. في واقع الأمر، تنصرف هذه القناعة الشائعة، والتي تشكل مرتكزاً مهماً لسيطرة الجيش على الحياة العامة، إلى تبخيس قيمة القانون وإعلاء اعتبار القوة.
المنزلق الذي يستسلم له أصحاب هذه القناعة يقود إلى سيطرة قانون القوة بدلاً من قوة القانون. وما يسهل الاستسلام لهذا المنزلق، هو الافتراض الموهوم بأن قوة الحكم العسكري إنما تعبر عن إرادة عامة تنشغل بمصلحة الأمة وتحميها من تضارب مصالح الأطراف السياسية التي، لولا الحكم العسكري الصارم، سوف تدخل في صراعات وتنافسات تضعف البلد أو حتى تشله. والحال أن القوة العسكرية التي تضبط المجتمع إنما تعبر، أو تنتهي إلى أن تعبر، عن مصلحة دائرة مصالح ضيقة تستقل أكثر فأكثر عن مصالح الناس والبلاد إلى حدود التعارض.
رغم أن مجتمعاتنا، ما خلا فترات وجيزة، لم تعرف سوى الحكومات العسكرية، وأنه رغم عقود طويلة من هذه الحكومات وما استجرته من فقر وبطش وهوان وطني، يبقى للحكم العسكري رصيداً قوياً لدى فئات من المدنيين. وكلما حاول المجتمع الخروج من تحت سيطرة الحكم العسكري، تبدأ علامات الحنين إلى هذا الحكم بالظهور لدى فئات لا تني تتسع.
السبب في ذلك هو أن حكم القانون ضمن إطار احترام فصل السلطات، يحرر الصراعات التي كانت تكبتها القوة العسكرية والأمنية، وأن تحرير المكبوت وضعف تقاليد الاحتكام للقانون يجعل من فترة الانتقال من الحكم العسكري فترة مضطربة، فترة صراعات حزبية ومظاهرات واضرابات ومطالبات قد تكون فئوية ومتشنجة، يضاف إليها فترة انكماش اقتصادي بسبب الخوف الطبيعي للرأسمال من عدم الاستقرار، وأيضاً بسبب مواقف سياسية لأصحاب رؤوس الأموال المرتبطة بالحكم السابق والساعية إلى تفشيل الانتقال، هذا فضلاً عن ما قد يتعرض له البلد المعني من ضغوط وحصارات من دول لا مصلحة لها في سقوط "الحكم القوي"، كل هذا يثقل على حياة المدنيين ويجعلهم يرون فيه بؤس وفوضى ناجمة عن ضعف الحكم، مما يجعلهم يتمنون "حكم القوة"، ويبررونه، على الأقل بينهم وبين أنفسهم.
هذا الواقع الانتقالي الذي من الطبيعي أن يكون صعباً ومشحوناً ومتوتراً، يتحول إلى ذريعة، على يد الجيش الساعي إلى الاحتفاظ بسيطرته التي تضمن له أيضاً البقاء في مأمن من المحاسبة. يريد العسكريون أن يقتنع العامة إن من طبيعة الحكم المدني أن يكون ضعيفاً وعاجزاً عن ضبط الصراعات وأن هذا ينعكس على الاقتصاد ضعفاً وانكماشاً وعلى الناس فقراً وانعداماً في الأمن. سوف يجد هذا المنطق أنصاراً بين المدنيين، ونشهد مثل هذا في السودان حيث يعتقد عبد الفتاح البرهان (صاحب الانقلاب) أن الجيش في السودان يعادل الدولة نفسها، على ما نقلت نيويورك تايمز.
اضطرابات المرحلة الانتقالية من الأسباب التي تحرض حنين مدنيين إلى "الحكم القوي"، نظراً إلى تأثر حياتهم بصورة مباشرة، ولكن هذه الاضطرابات ليست بالنسبة للجيش سوى ذريعة للعودة إلى الحكم واتهام المدنيين بأنهم يتصارعون على الكراسي ويسببون الفوضى. والحال أن الانقلاب الذي أقدم عليه الجيش في السودان، يثير من الفوضى والاضطرابات أكثر مما تسببه المرحلة الانتقالية، ولاسيما على خلفية التصميم والجاهزية الشعبية للدفاع عن مكاسب ثورة 2019، كما تقول شوارع وساحات المدن السودانية عقب الانقلاب.
معروف أن مشكلة المجلس العسكري مع الحكومة المدنية لا تتعلق بضعف القبضة ولا بالأزمة المعيشية، بل تتعلق بسعي الحكومة إلى وضع المشاريع الاقتصادية الهائلة للجيش (مئات المشاريع المتعلقة بإنتاج وبيع المعادن، ومنها الذهب، واستيراد وتصدير المواشي، ومواد البناء والأدوية .. ) والتي ينتشر فيها الفساد ونادراً ما تساهم في الموازنة الوطنية، تحت إشراف وزارة المالية. وتتعلق المشكلة أيضاً بالمحاسبة على انتهاكات حقوق الانسان في السودان، وبتسليم عمر البشير للمحكمة الدولية، هذه خيارات سياسية يخشى قادة الجيش من تبعاتها، ولاسيما أن الشخصيتين الرئيسيتين في المجلس العسكري الانقلابي (البرهان وحميدتي) شريكان في جرائم الحرب التي ارتكبت في دارفور والتي من المفترض أن يحاكم عليها البشير.
في حين يوجد محللين وقوى مدنية تأخذ على الحكومة المدنية تساهلها أمام المجلس العسكري مما أفقدها قدراً من ثقة الجمهور، يوجد من يأخذ على حكومة عبد الله حمدوك أنها استفزت الجيش ولم تقدم للجنرالات ضمانات كافية للاطمئنان وتهدئة المخاوف، وبحسب السفير السوداني في واشنطن، نور الدين ساتي، الذي أقاله البرهان لأنه وقف ضد الانقلاب، فإن الوزير الأول حمدوك "كان شديد القسوة والسرعة في اندفاعه".
من المفهوم جيداً أن تؤخذ حساسات لحظة الصراع بعين الاعتبار، وأن لا يتم استفزاز الجيش وأن تتم تهدئة مخاوفه، ومن المفهوم أيضاً أن يكون للحكومة عمود فقري فلا تكون زائدة الليونة أمام ممثلي الجيش، لكن مهما يكن الأمر، فإن الجيش سوف يحاول الانقلاب بأي ذريعة توفرت، ومهما كان سلوك الحكومة المدنية. ولكي يضمن الجيش مصالحه ويبقى في مأمن من المساءلة، من مصلحته أن يكرس في الوعي العام، أن الطريقة الوحيدة للاستقرار هي "حكم القوة" الذي يعني قمع الصراعات وحلها بالقوة وليس بالقانون، وحين تحل الصراعات بالقوة فإنها تحل بدون عدل مطرد، وتحل في مصلحة أصحاب القوة وليس في مصلحة المعجبين بهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملف الهجرة وأمن الحدود .. بين اهتمام الناخبين وفشل السياسيين


.. قائد كتيبة في لواء -ناحل- يعلن انتهاء العملية في أطرف مخيم ا




.. وسائل إعلام إسرائيلية تناقش تداعيات الرد الإيراني والهجوم ال


.. إيران وروسيا والصين.. ما حجم التقارب؟ ولماذا يزعجون الغرب؟




.. مخلفا شهداء ومفقودين.. الاحتلال يدمر منزلا غربي النصيرات على