الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ماكس، الكلب

منير المجيد
(Monir Almajid)

2021 / 11 / 5
الادب والفن


منطقة ما تحت المهاد في دماغي، التي تتحكّم بغدتي النخامية الصغيرة، والتي بدورها تصدر أوامرها وتسيطر تماماً على هرموني الجنسي (التستوستيرون)، ومجموع هذه جزء من الأندروجينات ذات الخصائص الذكورية، كانت تُسيّرني آمرة ناهية في فترة شبابي الأولى. همّي الأكبر كان الإنصياع لها وتلبية طلباتها، حتّى لو انتهى بي الأمر إلى مواقف سوف أموت قبل أن أقدم عليها في سنوات خَتْيرتي.
هكذا كان حالي حينما جئت في زيارة سياحية إلى هذه البلاد مطلع السبعينات. الفتاة التي قابلتها، وكانت برفقة صديقتين حينها، بدت، علاوة على رشاقتها وحسنها، الهدف الرئيسي في تلك الأمسية الكوبنهاغنية الدافئة في بار وسط المدينة. تعارفنا وتحادثنا وتضاحكنا وتلامسنا وتلاصقنا وتباوسنا فدعتني بعد ساعات إحماء خلتها دهراً، إلى شقّتها. «ربحت اليانصيب اليوم أيها الفاسق». قلت لنفسي، ويدي على كتفها ويدها على خصري، ومضينا محاولين دوزنة خطانا معاً كي لا نتعثّر.
حين فتحت الباب استقبلنا كلب شيفر ألماني هائل الحجم له عينا بني إنسان، قفز فرحاً ونقر الأرضية الخشبية بمخالبه، فركعت حبيبتي (كنت قد وقعت في غرامها طبعاً) وكانت تُحادثه بالدانماركية، فحضنها الكلب. نعم، حضنها حرفياً، وبدأ بلعق وجهها بما في ذلك شفتيها، وهي بادلته القبل كعاشقة.
لمّا فرغ منها حاول التعربش بساقي وهو ينظر إليّ ويضرب ساقي الاخرى بذنبه الثقيل. كنت مرتعباً ولا أعرف، حتّى الآن، أيّ شجاعة تركتني مُتسمّراً في مدخل تلك الشقّة سوى أن تكون شجاعة التستوستيرون!
هذا «ماكس». قالت وهي تُعرّفني على مُنافسي.

أنا من سوريا، ومن القامشلي، وإن لم يكن هذا كافياً، فأنا من حي قدوربك. ليالي الحيّ كانت تعجّ بالكلاب الباحثة عن طعام في أكوام القمامة. كنّا نسمع أصوات صراعها مع القطط ونرتعد خوفاً داخل بيوتنا. أحياناً كانت البلدية ترسل الشرطة لتطلق عليها النار في البراري المُحيطة. كلاب ضالّة كانوا يُسمّونها. وكلمة كلب وسخ شائعة الإستعمال كشتيمة، كما هو معروف.
خوفي من الكلاب له أيضاً علاقة ببضع ليالٍ لا تُنسى، حينما غامرت، وأنا طفل، بالذهاب لمشاهدة فيلم ما في سينما شهرزاد الصيفية واضطراري للعودة في عمق الظلام. الكلاب الهزيلة التي صادفتها في طريقي لم تقدم على مهاجمتي أبداً، لكنها تركت فيّ الرهاب الكلبي لسنوات طويلة، لأنّها اكتفت بالزمجرة وكأنني سأنافسها على وليمة القمامة.
كان مشهد التصاق الذكر بالأنثى أثناء موسم التزاوج مشهداً رهيباً ومألوفاً أيضاً على أطراف نهر جغجغ، ورأيت أحياناً بعض الشبّان الشجعان يرمونهم في الماء لفكّ الإلتحام.
هكذا كانت علاقتي بالكلاب في فترة الطفولة والمراهقة، هذا إن كانت كلمة علاقة مُناسبة وفي محلّها.
وثمّة مسألة النجاسة التي كرّرها علينا أهلنا، والنعت رافق الكلب في القص الشعبي والديني.
حيوان آخر من خلق الله مظلوم في شرقنا.

في الحضارات القديمة أُعتبر حارساً للعالم السفلي، ورُبط بآلهة الشفاء والطب «غولا»، بينما نحته الآشوريون كتمائم حماية.
الإغريق بدورهم جعلوا الكلب ثلاثي الرؤوس «سيربيروس» حامياً لبوابة العالم السفلي، وكذلك الهندوسيون يعتقدون أنّ إله الموت «ياما» يرافقه كلبان لحراسة العالم السفلي.
لعلّ الفراعنة هم أكثر من تعامل مع الكلب بشكل جيد، لا بل دفنوه إلى جانب أصحابه في كثير من الأحيان. تظهر سلالات مختلفة منها في اللوحات مثل السلوقي والغراي هوند. وقد تركوا له دوراً في العمليات اللوجستية العسكرية وهم أول من إستعمله في قوّات الشرطة، علاوة على الإستفادة من خدماته الاخرى.
في البوذية يُعتبر رمزاً للشر، لكن للخير أيضاً. وهذا التناقض لا يتوضّح بنفس الطريقة في العهد القديم، بل أن الكلب نجس «ولا تدخل أجرة زانية ولا ثمن كلب إلى بيت الرب إلهك عند نذر ما؛ لأنهما كليهما رجس لدى الرب إلهك» (تثنية ١٨:٢٣).
تصنّيف الكنيسة للكلاب كنجاسة جاء لفترة حينما تآلف الناس معهم وأفرطوا في إيوائهم في غرف النوم ومساواتهم ووضعهم في مرتبة الإنسان، فاعتبرتها خطيئة. لكن، بشكل عام، تنظر المسيحية إليهم كمخلوقات الربّ، ونسمع عن نظرة مُختلفة للكنيسة الحديثة، بدليل أنّها تُخصّص لها ملاجئ على عقاراتها، وتحثُ على حبّ كافة الحيوانات.
في القرآن ذُكر الكلب ثلاث مرّات، وفي كلّ مرّة على نحو إيجابي، بعكس الحديث النبوي: عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقْطَعُ الصَّلاَةَ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ، وَيَقِي ذَلِكَ مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ. رواه مسلم (٥١١).
وروى مسلم (٢٩٧٤) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا لَيْسَ بِكَلْبِ صَيْدٍ وَلا مَاشِيَةٍ وَلا أَرْضٍ فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ قِيرَاطَانِ كُلَّ يَوْمٍ.
فقط في الزرادشتية، إن كنّا نتحدّث عن الأديان وليس الحضارات، كُرّم بشكل واضح لا لبس فيه، وأُعتبر في الدرجة الثانية من الأهمية بعد الإنسان، وجعلوا لإطعام الكلاب طقوساً.

علاقتي بالكلاب تحسّنت بفضل صديق وكلبة عائلته السيّدة العجوز «تيتي».
في بداية معرفتي به، كانت تعوي حال إقترابي من باب الفيللا، وكان صديقي يأمرها بالسكوت فتسكت. فيما بعد، ولأن سمعها يجعلها تُميّز وقع خطوات الذين يرتادون المكان فرداً فرداً، فإنها كانت تقف قرب الباب وتُسارع إلى الترحيب بي. أعجبني هذا الودّ فصرت أُمسّد على رأسها وظهرها، وهي، كعلامة امتنان منها كانت تضرب بذنبها. التقبيل واللعق لم يكونا من خصالها نتيجة تعاليم صارمة.
في أحد الأيّام، ذهبت عائلة صديقي في سفرة لمدّة أسبوع فاستضفتُ تيتي عندنا. فرح بها طفلاي، وقمنا بأخذها في مشاوير مرّتين يومياً. بعد خمسة أيام «عملتها» في الصالون، وكان غائطها رقيقاً، وبدت تعبة وفاقدة الحيوية. وحين عادت العائلة، أخذوها إلى الطبيب البيطري الذي جاء حكمه قاسياً، فحقنها بحقنة الرحمة القاتلة. حزنّا عليها جميعاً.
بعد ذلك زال الخوف من الكلاب، جزئياً، فصرت أحياناً أنحني لإلقاء التحية عليهم حينما يقتربون مني في الشارع وأتحدّث إليهم. «كلب جيد، كلب ذكيّ». أقول لهم. ليس كلّهم، فمازلت أتجنّب الكبيرة منها، ذات الأشداق التي يسيل منها اللعاب شرائط، وأخصّ بالذكر الروت ڤايلر.
في الدانمارك ٥٤٦ ألف كلبة وكلب حسب إحصاءات سنة ٢٠٠٠. لهم مقابر خاصة، عيادات صحية، خبراء تغذية، صالونات تجميل، فنادق ودور عجزة. هو في الواقع فرد من أفراد العائلة. صديقة لي كانت تقول: ذهبنا، كلبي وأنا، كذا. الكلب قبلها.
أعرف عائلة رُزقت بطفل، فقاموا بتخصيص غرفة كلبهم للمولود الجديد. لكن الكلب شعر بالغيرة، فاستدانوا مبلغاً مُعتبراً من البنك وبنوا غرفة إضافية في منزلهم للمولود، ليُعيدو للكلب غرفته.
جاء لمسمعي أنّ اقتناء الكلاب صار عادة يمارسها العديد من الناس في شرقنا، خلافاً لما سبق من إحتقار لها. لما لا؟ قد تساهم الخطوة في إعادة الإعتبار لهذا المخلوق.

الكلاب حيوانات أليفة رقيقة المشاعر، بالرغم من المظهر المخيف لبعض سلالاتها، وفيّة حتى صار وفاؤها مثلاً. رغم أنني أفضّل القطط لأنها لن تقوم بأي شيء لتكسب ودّي. أميل للمخلوقات ذات الشخصية المُستقلّة.
وهي، علاوة على ذلك، تلعب، ولعبت، دوراً هامّاً في حياة البشر. هي تُساعدنا في الحراسة والدفاع عنّا وعن ماشيتنا ودجاجنا. هناك بعضها مُتمرّن لمساعدة البوليس في كشف الجرائم والمخدرات، وبعضها يُحدّد موقع الأحياء التي عزلتهم ركامات الزلازل، واخرى تعرف مكان الألغام، ناهيك عن التي ترشد العميان. بعضها أيضاً طعام في الصين وكوريا، والمعاذ بالله.

أعود إلى حكاية ماكس. بعد أن عرّفتني عليه حبيبتي، التي ألغيت عنها صفة الحبيبة بعد كل العناق والتبويس مع كلبها، لم أتخيّل نفسي، ولا حتّى للحظة، قيامي بتقبيل هذه الحسناء ومعانقتها، حتّى لو استحمّت. وجدتُ نفسي أقول بسرعة «آسف، أنا لديّ حساسية من الكلاب»، وأدرت ظهري وسارعتُ إلى النزول على الدرج.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا