الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإنسان رواية

مظهر محمد صالح

2021 / 11 / 6
الادب والفن


الإنسان رواية
د.مظهر محمد صالح
ما الانسان؟ عنوان واسع اطلقه مارك توين الكاتب والفيلسوف الامريكي على (روايته )منذ العام ١٩٠٦ ،وهو لايخرج عن حوار بين (شاب وشيخ) عن ماهية الانسان وماهية كل من عقله وضميره واخلاقياته ، وما اذا كان الانسان قادراً على الاختراع وإحداث شي من العدم . فالانسان (في رواية مارك توين ) من المهد الى اللحد لايقوم باي عمل إلا ويكون دافعه الاول والوحيد هو ان يضمن راحة باله وطمأنينة نفسه. وهنا يجسد مارك توين في روايته نفي ( الارادة الحرة للانسان) بل هو ( الاختيار الحر للانسان). ما يعتقده الناس انه (ارادة ) فهو ليس الا ( اختيار) بفعل قوة الزامية. فالاختيار الحر عند الانسان مبني على المزاجية ( التي فطر عليها) وضميره ( الخاضع للتدريب) والفطرة وحدها قد تعيق الانسان عن الاختيار . ويقول مارك توين (في موضوع العقل )في روايته ما الانسان :اما العقل فلا علاقة له باختياره ان كان بين الخير والشر ، بل ان الامر عائد الى (اخلاقياته) التي تعد ( آلة مستقلة ) عن (آلة العقل).
اما الضمير (أنا) يعبر عن الانسان ولكن في كل استخدام يُعبر عن جزء واحد من هذا الانسان.(انا ) المادية والروحية ( اي الجسدية والعقلية والمشاعرية) لذا فليس هناك تعبير شمولي لكلمة (انا). فالانسان(الآلة)هو مجموعة مركبة من الآليات المختلفة والتعبير عنها جميعاً دائماً في كلمة واحدةً (( انا)). لقد جسد مارك توين في روايته : ما الانسان ؟ متسائلًا هل ان الوجود يجسد ذاته في عالم الرواية؟
يقول الاديب والروائي التركي الكبير ( أورهان باموق) الحاصل على جائزة نوبل في الاداب عام ٢٠٠٦ قائلاً : ان الروايات حياة ثانية مثل الاحلام ، تكشف لنا عن الالوان والمعتقدات في حياتنا وهي مليئة بالناس وبالوجوه والاشياء التي تشعرنا باننا نعرفها من قبل .ففي روايته (( غرابة في عقلي ))
يتناول الأديب التركي أورهان باموق مدينة إسطنبول التي ولد فيها وتعلق بها بشدة عاداً أنها احتضنت خليطاً من الثقافات والشعوب والأعراق، واشتملت كذلك على نقائض وغرائب لا يمكن تصورها.وفي رحلة مدتها أكثر من نصف قرن يتجول بنا الأديب عبر شوارع وأزقة مدينته الأثيرة ليعاين التغيرات والمحطات التاريخية المهمة التي عاشتها بعيون (بائع متجول يدعى “مولود قره طاش”) واسئلته البريئة في التعاطي مع الحياة ليجسد وجوده الانساني وهنا تطرح الرواية نفسها على انها وجود وحياة اخرى.
يقول الكاتب المصري احمد رجب شلتوت في كتابه الموسوم (فن البحث عن الانسان) صيحة العلاج بالرواية، ليثبت أن لفن الرواية بالفعل دورا في البحث عن الإنسان، مؤكدا التصاق الفن الروائي بالإنسان، سواء بسبر أغواره أو بصنع حياة جديدة له. فعندما نقرأ رواية نتصور أنفسنا في وسط الأحداث الخيالية والشخصيات، فاننا نشعر بأن عالم الرواية هو أكثر واقعية من الواقع نفسه، وغالبا ما يعني هذا أننا نستعيض بالرواية عن الواقع، أو على الأقل نخلط بين الروايات والواقع، ولكننا لا نتذمر من هذا الوهم، نحن نريد للرواية أن تستمر ونأمل بأن هذه الحياة الثانية تظل تستحضر فينا مشاعر متناغمة مع الواقع كما يقول الناقد الادبي حازم خالد في كتاباته بهذا الشان.
وهكذا يمكن للرواية ان تصبح (( الكتاب المقدس)) للعالم الوجودي اوربما هي احد اوجه (( الايديولوجيا الوجودية او الذات الوجودية)) . والروائيون الوجوديين وتحديدا ( ألبير كامو) الحائز على جائزة نوبل عام ١٩٤٧ عن روايته الشهيرة (( الانسان الاول)) وهي نتاج مخاض فكري عميق دارات أحداثها في الجزائر ابان الاحتلال الفرنسي حول اسرة بائسة تصارع الحياة بواقعية وشجاعة وكيف حصل التحول الوجودي الذي يعيشه الطفل (( جاك)) الذي كان عليه ان يترك عالمه القديم كي يصبح رجلاً لاول مرة.

يُعد عمله الأدبي مصدرًا أساسيًا للفكر الوجودي الحديث. فالموضوع الرئيس في روايات كامو يقوم على فكرة ((أن الحياة البشرية ، بالمعنى الموضوعي ، لا معنى لها)).هذا يؤدي إلى سخافة لا يمكن التغلب عليها إلا من خلال الالتزام بالسلامة الأخلاقية والتضامن الاجتماعي. على الرغم من أنه ربما ليس فيلسوفا بالمعنى الحرفي ، إلا أن فلسفته يتم التعبير عنها على نطاق واسع في رواياته ويُنظر إليه بشكل عام على أنه فيلسوف وجودي. وبكونه كاتبا عبثيا اضافة الى كونه وجوديا فان البير كامو يتصدى الى ظاهرة انتاج (العبث )عن طريق (الصراع ) وهو صراع بين توقعاتنا (لكون عقلاني وعادل )و ( الكون الفعلي بانه غير مبال تماما بكل توقعاتنا).
ففي كتابه الشهير الآخر (الغريب) تناول كامو العالم الذي يقبل فيه الرجل (اللاعقلانية )للحياة والافتقار إلى معنى موضوعي بالامتناع عن إصدار أي أحكام ، من خلال قبول حتى أسوأ أنواع الناس كأصدقاء ، وحتى عدم الانزعاج عندما تموت والدته أو عندما يقتل شخصًا ما وهي حالة العبثية ويمكن ان اطلق عليها (( التخبط الوجودي )) ان جاز لي التعبير.
انها في الواقع عملية ((خلق القيمة الانسانية ))من خلال التمرد على عبثية الوجود ( التخبط الوجودي) او التغلب على عبثية الكون (( وهو النضال الوجودي)) اذ لاينفي كامو ان خلق القيمة الانسانية (كتمرد ونضال ) يتحقق من خلال التزامنا بالقيم الشخصية والاجتماعية على حد سواء منها الدين على الرغم من رفضه للدين وعده انتحارا فلسفيا ً..
وبغض النظر عن حالة العبثية التي ظل البير كامو يعيش صراعاتها ، اذ تاتي مقابل رواسب الوجود مرحلة (العدم ) او (الموت )وهي ضد الوجود ايضاً. ويقول البير كامو في روايته: ❞ كي يوجد المرء مرة واحدة في العالم .. لابد له أن يفقد وجوده إلى الأبد ❝ .
❞ يمكننا أن نؤمن أنفسنا ضد الأشياء جميعا , أما فيما يتعلق (بالموت )فنظل كسكان قلعة مهدمة الأسوار. ❝ .
وبعيدا عن الفلسفة الوجودية التي شغلت القرن العشرين في البحث الذي يخدم البشر فيها انفسهم في هذا العالم الذي دمرته ازمة الكساد الاقتصادي الكبير في العام ١٩٢٩ والحرب العالمية الثانية والاحداث الكونية الجسام ، ظلت الوجودية تبحث عن الذات وربما كان الانسان محورها في ثلاث روايات تم تناولها آفاً ،الاولى : ما الانسان ؟ التي كتبها فيلسوف اميركا مارك توين وشكلت مقدمة لفكرة :ان الانسان رواية ، والثانية : ماكتبه الفيلسوف الفرنسي البير كامو في روايته : الانسان الاول .واخيراً: ياتي اديب تركيا اورهان ياموق في روايته الشهيرة ( غرابة في عقلي ).
فالروايات الثلاث انفا بالقدر الذي جسدت ظاهرة : الوجود الانساني وعدت تلك الروايات هي اقرب الى ادلة استرشاد ومرايا نحو تكامل الاستقلال الوجودي للفرد وتصلح دستورا وجوديا للبعض من الناس. ولكن تبقى الرواية بالنسبة إلى كاتبها ولقارئها على السواء هي فن البحث عن الإنسان، إذ اكتشفت الرواية بطريقتها الخاصة، وعبر مسارات تطورها الأبعاد المختلفة للحياة واحدا إثر الآخر، ولاسيما تلك التي استقصت عند نشوئها على يد امثال الاديب والروائي الاسباني الشهير (ثربانتس ) صاحب رواية ( دون كيشوت )طبيعة المغامرة البشرية، ثم غاصت في مرحلة تالية داخل الإنسان كاشفة عن الحياة السرية للمشاعر البشرية، ومع الروائي الفرنسي كاحد رواد المدرسة الواقعية (جوستاف فلوبير )حطت الرواية على أرض الحياة اليومية، ثم اسبرت أغوار الزمن مع آخرين وهي تبحث في التاريخ أو تستلهم الأساطير، وهكذا صاحبت الرواية الإنسان في كل تجلياته، وهي أيضا تشبه الإنسان في قدرته على التطور والتجدد والاستمرار، لذلك تمنح نفسها دائما حيوات جديدة كما يقول الناقد الادبي حازم خالد في نقد كتاب فن البحث عن الانسان .
فاذا كانت الوجودية هي فلسفة إيجاد الذات عندما يبحث الناس عن هويتهم وماهيتهم طوال حياتهم ، ويتخذون خياراتهم على اساس تجاربهم ومعتقداتهم لتصبح عندها الخيارات الشخصية فريدة في نوعها ودون الحاجة الى كل ما هو موضوعي من اشكال الحقيقة ، فان على الانسان ان يختار هنا وان يتحمل المسؤولية دون الاستناد الى قوانين او اعراف. فبين حرية الارادة البشرية وحتمية الانضباط والمسؤولية الشخصية تحدد طبيعتنا البشرية عن طريق خياراتنا في الحياة.فقد تكون الوجودية دينية اخلاقية او وجودية غير دينية كما جاء بها جون بول سارتر والبير كامو ،ولكن يتفق الجميع على ان الحياة غير مرضية وان دور الوجودية هي البحث عن الذات وعن المعنى الشخصي الحقيقي للحياة . ويبقى تحكم المرء بذاته هو العامل الاهم في تحديد مايجب عليه ان يصدقه .
فاذا كان جانب مهم من فن البحث عن الانسان ، فان الانسان هو في تصرفاته رواية ظاهرة

فليس هناك ما يسمى بالإرادة الحرة للإنسان بل هو الاختيار الحر. ما يعتقده الناس أنه إرادة ليس إلا اختيار بفعل قوة.لذا فان اختيارات الانسان عبر الزمن هي رواية في تشكيل لأحداث نثرية مخترعة ذات طول كبير وحبكة معينة تتعامل بشكل شبه خيالي احياناً مع التجربة الإنسانية، من خلال سلسلة متصلة من الأحداث التي تنطوي على مجموعة من الأشخاص في بيئة معينة ضمن إطارها الواسع، من الأنواع والأساليب الروائية : كالبيكاريسكي، والرسائل، والقوطية، والرومانسية، والواقعية، والتاريخية وغيرها .
ولكل انسان تتشكل خياراته بين التحديات والفرص تقوده الى مايسمى (الانسان رواية).....!!!
واجمل من كتب في الادب العراقي حول ظاهرة (الانسان رواية) بنزعة فلسفية تحددها (الاقدار التي تحكمها الخيارات )هو الدكتور المفكر عقيل الخزعلي حين تصدى لهذه الظاهرة بالقول:

((مازالتِ الحياةُ تزدهي بعنفوانها ، ولازالَ التاريخُ يحكُمُ بسننِهِ ، ومازالت البشرية تخوض معارك صيرورتها ، ويبقى التحدي الاكبر الذي تواجههُ الأرض يتمثل ب:- (العقول؛ الكسولة والمستقيلة والمتقاعدة والجزمية والمأجورة) و (والارادات؛ الاسيرة والمشلولة والسجينة والماضوية والتابعة) و (والمشاعر؛ المتبلدة والباردة والمغالية والطاغية والمتوحشة) و (القيم؛ البدائية والاقصائية والاحتكارية والتمييزية والنفعية).اقدارنا رهن اختياراتنا))
وحتى نذهب بحقائق الحياة باتجاه واحد في تشييد ظاهرة الانسان الرواية، فيمكنني القول:
ان انغلاق (الفكر )الانساني والسير بالذات الى مجاهيل العصر الغابر ، يماثل انفلات (العقل )الانساني والتحلل من كل شي والبحث في فوضى الحاضر وجهل المستقبل ،فكلاهما اضداد في الدرجة ويتفقان في نوعية النتائج، فاقدارنا رهن اختياراتنا في الابحار في عالم الازمنة المتصحرة مالم نتجنبها باختيارنا.
واخيراً، ما يختتم به الدكتور الخزعلي في موضوع :الانسان رواية ،هو توسمه بهذه الحكمة التي تقارن بين ((الانسان والافعال )) وتقول:

- يلجأُ للاوهام ليتَحمَّل ضغوطات الواقع!
- يستعينُ بالانعزال لِيهربَ من سموم المسارح!
- يَتظاهرُ بالغباء ليتحاشى ضريبةَ الوعي!
- يُهادنُ الأشباه ليتفادى ثمن المواجهات!
- يركنُ للتجاهل ليحترمَ قيمة الذات!
- يُضَحَّي بالخصوصيات لينتصر المجموع!
- يُجاملُ المُخْتَلِين لِيُخفِفَ وطأةَ البطش!
- يلوذُ بالصمت ليصونَ الحكمة!
- يستأنسُ مع النُخَب ويتقززُ من القطيع!
- يتوحِّدُ بالغايات ويتعدد بالاساليب!


ختاماً، حقا نعيش في ظلال الحياة لنهرب من افعال يتعاطاها المجتمع البشري وهي لا ترتقى الا الى ازمنة موغلة بالوحشية وانعدام العاطفة واشتداد القهر فيها .... فبين ظلال الحقائق وهوامش الحياة وشتات الرحمة وفراغاتها نحيي طقوس سعادتنا في (انسان )يبقى (رواية )ولكن جوهرها (حرية الاختيار).
(( انتهى))








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني


.. بعد فيديو البصق.. شمس الكويتية ممنوعة من الغناء في العراق




.. صباح العربية | بصوته الرائع.. الفنان الفلسطيني معن رباع يبدع


.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر




.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته