الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفلسفة كوسيلة فهم للتاريخ

سامح عسكر
كاتب ليبرالي حر وباحث تاريخي وفلسفي

2021 / 11 / 6
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


في فلسفة التاريخ يجب التفريق بين العلم والفلسفة، فالعلم في ذاته هو المعرفة..لكن الفلسفة هي التفكير في تلك المعرفة، مما يعني أن فلسفة التاريخ لا تهتم بطرق الحصول على المعلومة وكيفية ذلك أكثر من الاهتمام بتحليلها وربطها بنظائرها للاستنتاج، وهذه التفلسف يسمح بعد ذلك في النظر إلى طرق الحصول على المعلومة والحكم على صدقها من عدمه، وهو ما يختلط على كثير من الباحثين..

فالبعض حين ينظر مثلا لطرق الأخبار والروايات يتوهم أن علوم السند في الحديث مثلا هي ضرب من ضروب التفكير..وهذا غير صحيح، فالمعلومة الروائية جاءت بطريق العلم والمعرفة لا الفلسفة..وهنا الفارق، وهذا العلم لا يشترط فيه أن يكون عقليا بل في هذه الحالة نقلي صِرف وكافة أدواته وأساليبه تقليدية عقيمة لا تسمح بمساحة تفكير لتصورها أو الحكم عليها، لكن الفلاسفة حين رأوا تلك الأخبار جاءت بتلك الطريقة حاكموها بالتفكير..فوضعوها بين مقصات الشك والتحليل والمقارنة فسقطت من جذورها مما استدعى البعض منهم لاحقا في النظر لأهلية طرق الروايات بالأصل وبالتالي حكموا على مادة علم الحديث بالكذب والخرافة..

والذين يتناولون التاريخ كعلم فقط يختلط عليهم الأمر فيحرمون أنفسهم من فضيلة الخيال والشك وتصور أحداث القدماء في الزمان والمكان، ولا ينتبهوا لفضائل أخرى عقلية وهي تحليل المجتمعات من نواحي علم الاجتماع والنفس والتطور، وعلى هذا المنوال رأينا كيف انحدر التعليم في مجتمعاتنا حتى صار ما يعلمه التلاميذ في المدارس منفصل عن الواقع بشكل كبير، فيتأملون أسباب ونتائج الحملة الفرنسية – كمثال – لكن لا يتأملون الواقع المصري والفرنسي من نواحي (الدين والمجتمع والسياسة والثقافة والنفس) حينها، فيكون تعاملهم مع الحملة الفرنسية بشكل ظاهري محض لا يُبصر الواقع في ذلك العهد على حقيقته، بينما أزعم أن لو تُرِك الأمر لمجتمع الفلاسفة بوضع مناهج التعليم لتغيرت أشياء كثيرة في نظرتنا لتلك الحملة على مصر والشام..

وأهم تلك الأشياء التي يجب أن تتغير هو طرح الواقع الديني والثقافي في مصر حينها على حقيقته التي كان عليها، حيث عانت كل الممالك والدول التي قبعت تحت الاحتلال العثماني من التخلف الحضاري الشامل، ووقوعها فريسة للحروب والأوبئة والمجاعات والفتن مما أنهك تلك الشعوب التي كان لها نصيبا من التحضر قبل آلاف السنين، وكذلك كان ضرورة تمثيل الواقع الفرنسي على حقيقته وعدم اختزاله في الثورة السياسية ولكن طرح ثورته الدينية والثقافية الشاملة على رجال الدين..مما يطرح بعدا آخر من المشهد هو غض الطرف عن ذلك الواقع لصالح إخراج الحدث بطريقة لا تمس السلطتين (الدينية والسياسية) في الشرق الأوسط، علما بأن هاتين السلطتين لا زالوا يعيشون على أمجاد الماضي الديني الذي تمثله العثمانيون في جزء كبير منه، فيصبح كشف الواقع حينها تدميرا معنويا لتلك السلطات وحملها على التحضر والاستقامة وحقوق الإنسان جبرا..

هذا يعني أن دراسة التاريخ ليست مجرد حفظ سنوات وأحداث ومعارك، بل (فهم لمتغيرات المجتمع) وهذه المتغيرات قد تكون سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو دينية، وكلما كنت مُلما بتلك المتغيرات ومناقشا لأبعادها كلما فهمت الحدث التاريخي في سياقه..ولأن كل حدث له سياق في الزمان والمكان والنفسية الاجتماعية يكون فهم تلك السياقات ضرورة معرفية لفهم الحدث نفسه، مثلما يخرج فيلسوفا ثائرا بكتابه على الدين..فاعلم أنه كان يقصد ظروفا معينة وأشخاصا معينين لا يجري إسقاطه على ظروف أخرى ولا محاكمة آخرين بكلامه، ومثلما يحدث انقلابا عسكريا أو ثورة دينية..فاعلم أنها صنيعة ظلم وفشل سياسي للسلطة القائمة، فعلى المؤرخ دراسة أسباب ذلك الفشل وطبيعته وحلفاؤه والأحداث المتعلقة به قبل أن تفهم الانقلاب أو الثورة أصلا..

حدثا كبيرا كسقوط غرناطة الأندلسية وطرد المسلمين من أسبانيا سنة 1492م هذا قبله ب 50 عاما فقط كان سقوط القسطنطينية على يد الأتراك سنة 1453م، وبالتالي نفهم أن محاكم التفتيش الأسبانية الكاثوليكية كانت رد فعل على حكم الخلافة العثمانية لاسطنبول، فما فعله الأتراك من قوة عسكرية سقطت بها أسوار المدينة المقدسة في الدين المسيحي...أوجد حشدا نفسيا هائلا وتعاطفا شعبيا ضد كل عدو للمسلمين، ومن هنا بدأت رحلة طرد المسلمين من الأندلس ومحاكمة وقتل العرب في أوروبا الغربية، وكذلك دخول البرتغال لاستعمار أفريقيا وسيادة البحر قبل أسبانيا، السبب فيه أن البرتغال تخلصت من الحكم الإسلامي عام 1249م في عهد الملك ألفونس الثالث، فبدأت مبكرا رحلاتها لأفريقيا والبحر..وفي الحقيقة هي لم تكن مجرد رحلات بل حروب صليبية لاستعمار الممالك الأفريقية المسلمة خشية تهديدها لعرش مملكة البرتغال الجديدة..

الناس في هذا العصر كانوا يفكرون بشكل ديني صِرف والعُقدة الاقتصادية لم تَكن نشأت بعد، بل ظهرت كعارض من عوارض الغزوات، مثل الفتوحات الإسلامية التي كانت غزوات دينية في جوهرها وحروب طائفية بين المسلمين وغيرهم..لكن مردودها الاقتصادي غيّر من شكل الدولة المسلمة وأدخل عليها مؤسسات حديثة كدواوين اللغة والوزارات والعملات والمال..إلخ، ومن يدعي أن استعمار البرتغال لم يكن بشكل ديني فعليه أن يدرس مجتمع البرتغال ذلك العهد أولا قبل أن يتكلم من نواحي (الدين والثقافة والسياسة) وحقائق رحلات التبشير التي جاءوا بها لأفريقيا، والسياق الذي ظهر فيه ذلك الاستعمار بعد طرد المسلمين، وما هي وجهتهم الأولى والممالك التي هددتهم وعلاقتها بالحُكم الإسلامي السابق لبلادهم، ثم أهم شئ هو الوقوف على مصطلح الاقتصاد وتطوراته وهيئاته المختلفة ، كون البشرية في ذلك الوقت لم تكن توصلت بعد لمفهوم الاقتصاد المعاصر، والغالب على صراعاتها الدين والطائفة بشكل كبير..

كذلك فرحلات كريستوفر كولمبوس لاكتشاف أمريكا، هذه كانت بالأصل للوصول إلى (الهند والصين) بشهادة كولومبوس نفسه في رسائله لأسباب دينية وسياسية بعد قطع العثمانيين طرق الشرق على الأوروبيين ومنع أي اتصال سياسي وجغرافي لهم مع الأسيويين ، فهي كانت حملات صليبية عسكرية بالأساس تهدف للتحالف مع شعوب آسيا لمحاصرة العثمانيين الذين قضوا على مدينة المسيحيين المقدسة في اسطنبول..علما بأن كولومبوس كان عمره (عامين) حين سقطت القسطنطينية على يد محمد الفاتح العثماني سنة 1453م، وكان قد بلغ 29 عاما حين ذبح العثمانيون 800 قس مسيحي في إيطاليا بمجزرة "أوترانتو" الشهيرة عام 1480م ، علما بأن كولومبوس كان إيطاليا وبالتالي تصبح دوافعه الدينية والقومية كبيرة..

وتدين كولومبوس مشهور على المذهب الكاثوليكي..حتى الأسماء التي سمى بها المدن والجزر تحمل طابعا مسيحيا كمدينة "سان سلفادور" التي تعني "المخلص المقدس" وفقا لوول ديورانت في قصة الحضارة (23/ 19) وكذلك جزيرة "دومينكيا" التي تعني يوم الأحد المقدس في اللاتينية..

ولأن كروية الأرض في زمن كولومبوس كانت حقيقة علمية، رأى إمكانية الوصول للهند والصين من الغرب، فذهب ووجد أرضا جديدة يسكنها البدائيون كما هو مشهور..وهذا الكلام ليس جديدا بالمناسبة، وسبق تأليفه في كتب منها الأمريكية "كارول ديلاني" في كتابها " كولومبوس والبحث عن القدس" وكذلك المؤرخ الإنجليزي "نايجل كليف"..وغيرهم، ومشهور بحث الأوروبيين عن طريق جديد للشرق بعيدا عن الشرق الأوسط وآسيا الصغرى فوصلوا لطريق "رأس الرجاء الصالح" بعد سقوط القسطنطينية ب 30 عاما فقط، مما يعني أن الفجوة الحضارية والسياسية والجغرافية كانت كبيرة جدا في ذلك التوقيت بين أوروبا والمسلمين مما حمل الأوروبيون للتصرف بعيدا عن حكام المسلمين وشعوبهم، وهو الذي أوجد العداء لاحقا وموجات الاستعمار الأوروبي لأفريقيا والشرق الأوسط على مدار قرون.

فأولى شروط القراءة التاريخية الصحيحة هي (فهم ثقافة العصر) لمعرفة طرق تفكير البشرية وقتها ومن ثم البناء عليها بمقدمات ونتائج واستقراء علمي صحيح، وتلك الطريقة هي التي أفزعتنا بالمناسبة على حقيقة التاريخ الماضي وجرائمه بشكل صادم، فأوجدت الصلة بين سلوكيات القدماء والمعاصرين، وبالتالي فهم مركزية النص الديني عند المعاصرين لإحياء جرائم أجدادهم دون النظر للتطور البشري وحقوق الإنسان وإهمال العلوم التجريبية والعقلية بشكل تام لصالح النزعات الهمجية والبدائية التي ميزت الأسلاف..

والخلاصة في ذلك أن فلسفة التاريخ تجمع بين صنوف العقل من حيث كونه (خبرة) ومن كونه (معرفة) فمن جهة الخبرة يصبح بإمكان المؤرخ التحليل والاستقراء والاستنتاج بناء على معرفة مسبقة، وهذه من فضائل الخبرة في تناول التاريخ، وتقديري أن المفكر الذي هو أكثر قدرة على المقارنات والاستقراء هو الأكثر إلماما بالمختلفات والمتناقضات ومن ثم يعقد تحليلا ديالكتيكيا في ذهنه يصل فيه لأصدق حقيقة ممكنة..فالفلسفة التاريخية لا تؤمن بنفي البسيط فقط ولكن تبسيط المعقد أيضأ، وبالتالي هي تعمل في اتجاهين علميين هما، الشك في الأحداث البسيطة وعدم النظر إليها ببساطة، وتحليل المعقد لشرحه وتبسيطه في الأخير، وتلك الجزئية تخدع كثيرا من المؤرخين الذين يمرون على الأحداث البسيطة دون النظر لفحواها ومعناها ، كمثال تسمية كولومبوس مدنا أمريكية بتسميات مسيحية مثلا، فهذا لا يمر مرور الكرام بل يصبح مقدمة لدراسة عقيدة ومجتمع وسلطة البرتغال ككل..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - التاريخ وفلسفة التاريخ
منير كريم ( 2021 / 11 / 7 - 17:38 )
تحية للاستاذ سامح عسكر المحترم
هذه ملاحظات نظرية تكميلية
اولا : التاريخ ليس علما . فالعلم يشخص بعوامل ثلاثة التجربة (الملاحظة) واكتشاف قوانين تحكم الظواهر واخيرا التوقع العلمي
وهذه يستحيل انطباقها على التاريخ , لكن البعض يسمي التاريخ بعلم التاريخ وذلك في طريقة تنظيم المخطوطات والوثائق ونتائج الحفريات وهذا شيء اخر
ثانيا : فلسفة التاريخ تدرس الاسس النظرية للتاريخ كما هو الحال في فلسفة العلوم وفلسفة الدين وفلسفة الجمال
في اقسام الفلسفة تقسم فلسفة التاريخ الى اتجاهين
فلسفة التخمين للتاريخ وتشمل التفسير الديني للتاريخ والتفسير الهيجلي والتقسير الماركسي وتفسير فوكوياما
اي كل تفسير يستند الى الميتافيزياء
الفلسفة الانتقادية للتاريخ وهذه جزء من الفلسفة التحليلية وهي تنفي اية غاية وحتمية للتاريخ واية قوانين للتاريخ واي طريق تقدمي للتاريخ ,وتدرس التاريخ بصورة انتقادية
المؤرخ يبين كيف حدث؟ وفيلسوف التاريخ يدرس لماذا حدث ؟
الان مثلا , لماذا قتل عثمان بن عفان ؟
اصطلاحان هامان في اللغة الانجليزية حول الموضوع
speculative philosophy and critical philosophy of history
شكرا جزيلا

اخر الافلام

.. #shorts - 14-Al-Baqarah


.. #shorts -15- AL-Baqarah




.. #shorts -2- Al-Baqarah


.. #shorts -20-Al-Baqarah




.. #shorts - 7- Al-Baqarah