الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محاكمة أبي الميت الجزء 5 و الأخير

ماجدة منصور

2021 / 11 / 9
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية


ما زالت ذاكرتي تأخذني , غصبا عني, لمواقع الجراح التي سببتها لي , رغم كل محاولاتي اليائسة لتجاوز الألم العتيق و معاناة الطفولة...كل شيئ يسحبني لطفولتي , تلك الطفولة البائسة المتشعبطة بغريزة الحياة و العيش و البقاء ..طفولتي التي تأبى
أن تفارقني رغم وصولي لمنتصف العمر...طفولتي التي تتعمشق بها روحي و خلايا جسدي.
نسيت أن أخبرك يا بابا أنني البارحة قد ذهبت لمدينة الملاهي في ملبورن و كنت أتمنى أن ينظر إليُ طفل و يسحبني للعلب معه و مشاركته المتعة في جميع الألعاب التي تعج بها مدينة الملاهي,, فأنا يا بابا جائعة للعب واللهو مع الأطفال.
لقد حرمتني من طفولتي و ليتك إكتفيت بحرماني من اللعب و اللهو فقط...لكنك آذيتني كثيرا جدا و لا أذكر سوى أوامرك و نواهيك و إستهتارك بآدميتي و بحقي كطفلة تحتاج الحب و اللعب و اللهو كي تكبر وتنمو كأي بشر.
لا أذكر يا بابا أنك إشتريت لعبة لي كي ألعب بها...لذا فقد علًمت نفسي حياكة الألعاب ..من قماش عتيق بالي...و كنت أصنع لنفسي عالما إفتراضيا و ألعب مع لعبي التي صنعتها من قماش,
لاحقا تعلمت أن أصنع لعبا من كرتون!!
فالطفولة تأبى أن تتوقف عن اللعب فاللعب هو عالم الأطفال إن كنت تدري.
لقد صادرت حقي بطفولة عادية فكيف اقدر أن أسامح من إغتال مني البراءة!!!
أنا لا أدري يا بابا!
فأنتا قد إغتلت مني الطفولة و المراهقة و الصبا...إغتلت حقي بكل ما يمت للإنسانية بصلة!!
في ذاك الوقت البعيد و الذي كنا نعيش به في منطقة الدواعش الأصليين...كنت تزداد عنفا و تصلبا و تشددا و غضبا و قهرا للنساء , فأنت كنت تتلقى كل دروس الإرهاب من صديقك ( المتدين..المتعبد...التقي...المحافظ على أركان دينه...) و أقصد به الشيخ
((ناصح الملا....أسكنه الله في فسيح جهنمه))0
لقد كان ناصح الملا صديقك المؤمن الذي لا يًشق له غبار!!!
و صديقك العرص كانت عينه القذرة تُركز على أمي و أخواتي الجميلات جدا....و عليٌ أنا الطفلة أيضا....فالشيخ الجليل لم يكن لديه مانع من مغازلة الطفلات الصغيرات ...أسوة برسوله الكريم....هذا الرسول الذي أودى بماضينا و حاضرنا و مستقبلنا
و لك في زواجه و مضاجعته (( لعائشة)) الطفلة....قدوة حسنة.
تفو....و مليار تفو....على كل إبن حرام إغتصب الطفولة!!!
حتى الأطفال لم ينجو من قذارتكم!!!
لكن ما حصل بطفولتي لم يكن شيئا يُذكر عما حدث لي بسنوات مراهقتي.
فحين وصلت لسن المراهقة كنت قد إزددت عنفا و قهرا لي فأنا الأنثى العار...المصيبة...اللعنة...القحبة المستقبلية...العاهرة المنتظرة...إذ كنت تنتظر هفوة صغيرة مني...كي تدفنني و أنا على قيد الحياة!!!
هكذا علمك صديقك العرص الهالك الشيخ ناصح الملا و كاتبك المفضل إبن تيمية و أحاديث الفاطس البخاري (( ليته يتبخر من عالمنا و ثقافتنا)) و مجتمع الدواعش في مدينة ___الباب___ .
خلال سنوات مراهقتي...إزداد عنفك تجاهي و كنت جاهزا تماما لكي تقبرني....أيها المقبور.
و كلما كنت تزداد ضراوة و شراسة تجاهي...كنت أعاملك بحب أكبر و حنان أكثر و شفقة أشد...لأني كنت أدرك جيدا بأنك ضحية لتعاليم قرآنك ( الغير كريم) و أحاديث رسولك ( الغير شريفة)...فأنا ببساطة كنت أحبك و أشفق عليك و أجد العذر لك دائما
بأنك ضحية لتعاليم دينك يا بابا.
إن جوع أحشائي للحب و العطف هو الذي يجعلني أكتب لك.
و هذا الجوع العاطفي هو الذي يجعلني أحاكمك الآن و أنت في قبرك فأنا أعلم جيدا أن بداخلك روح طيبة و قلب إنسان.
أتذكر حين أجبرتني على زواج قمعي ...بأنني قد هربت من زوج الندامة و لجأت لمنزل أحد الشرفاء اللذين ساعدوني بشرف و إنسانية كي أنال شهادة البكالوريا...لأني كنت لا أبغي شيئا سوى أن أتعلم.
و حين نلت شهادة البكالوريا ...أتى طبيب كبير جدا....و حائز على شهادات علمية ضخمة,.. و قرر الزواج مني...ربما شفقة منه علي أنا....في الواقع فإن زوجي الدكتور قد أخبرني صراحة __فيما بعد زواجه مني___بأنه قد تزوجني عطفا و شفقة
ليس إلا!!!!!!!!!!
عليَ أن أشكر القدر الذي بعث لي زوجا ...يتزوجني...شفقة و عطفا!!!
ربما صعب عليه حالي و أحوالي.
لم أكن سعيدة بهذا الزواج إذ أن زوجي ما إنفك أن يذكرني بفضله علي.
و هذا ما جناه أبي...وما جنيت أنا على أحد.
بعد زواجي من الدكتور الكبير....إبن العائلة الكبيرة و المحترم...كنت يا بابا قد وصلت لسن التقاعد فإستلمت تقاعدك و إنتقلت للعيش مع بقية أسرتي لمدينة حلب و لمحاسن الصدف فإنك قد إشتريت بيتا لنا في شارع أغلب سكانه من المسيحيين و الأرمن
و كان هذا المنزل فاتحة سعد و خير لنا جميعا.
في هذا الشارع كانت السيدات و الفتيات و الشبان المسيحيين و الأرمن يعيشون حياتهم بكل تحضر و أناقة و سمو و إنسانية...فالنساء تلبس ثيابا هي آخر موضة و كان معظم سكان البناية أو العمارة التي نقطن بها هم خير ما إنجبت سوريا...
لقد إبتعدت يا والدي عن منطقة الدواعش ( الباب)
شيئا فشيئا...كانت إنسانيتك تعود لك,,,و بدأت أرى ضحكتك الجميلة تعلو وجههك الرائع...و كان جارك أبو جورج يدعوك لتناول القهوة معه و ها هو ( آكوب ) الأرمني يدخل معك شريكا تجاريا...و جارتك الرائعة ( ماتيلدا) تخبرك عن آخر نكتة
و ( مارسيل) تشكو لك زوجها!! و ( أبو أنطون) الجزار يدعوك لتدخين الشيشة على بلكونته و هاهو جارك الكردي يوجه الدعوة لك و لنا لمشاركته السعادة بعيد ((النيروز)) و الخياط الشركسي ..و إسمه أمين...يحيك لك أجمل البدلالت الرجالية
و المساعد ( أبو نمر) العلوي ...يأخذ بيدك للتسريع في عملية تقاضي راتبك التقاعدي!! ...و أكرم الدرزي لا يمل من الحديث معك عن دور الموحدين الدروز في عبادة الله الواحد الأحد...الفرد الصمد...و عن جهودهم في الدعوة لتوحيد الله.
هذه البيئة الجديدة قد أرجعت إنسانيتك يا والدي.
في ذاك الوقت كنت قد نزعت عني الحجاب و النقاب و الزبالات الأخرى التي فرضتها علي في منطقة الدواعش و أعني بها منطقة الباب.
هاقد رجعت إنسانا حقيقيا يا بابا.
هنا ..و في هذه السنوات الفاصلة...وجدتك يا أبي و قد أصبحت صديقي الحميم!!
يا للعجب
الأيام حبًلى و تلد كل عجيب!!
فبمجرد إنتقالك من منطقة الدواعش أجد أن إنسانيتك قد رجعت لك.
و بدأت تحب فستاني الوردي و تنورتي البنفسجية و قميصي البني!!! أنت الذي كنت , فيما مضى, تدفننا تحت نقاب أسود وعباءة سوداء ثقيلة حيث كنا نبدو كأكياس قمامة متنقلة أو كأشباح متخفية أو مجرمين مستترين أو بالونات مضحكة منتفخة
مجردة من ملامحها...فقد كنا كائنات تمشي تحت أكياس قمامة سوداء و أشباح بلا ملامح.
يا للأماكن....كم تغير فينا!!
لقد أدركت جيدا حينها بأني قد إسترجعت والدي الذي أعشق و أحب!!!
يا لفرحتي.
و يا لبهجتي.
فهذا هو والدي الحقيقي الذي راهنت عليه طوال عمري.
إنه أبي الإنسان.
وقتها يا بابا إبتدأت صداقتك معي...و علاقتي الحقيقية معك...فأخذت أدعوك لتدخين الشيشة التي تحبها و أنت بدورك تدعوني لنسرق لحظة من عمر الزمن كي نذهب خلسة لمشاهدة فيلم سينمائي...بعدها كنا نتجول سوية , بساحة سعد الله الجابري, في مدينة حلب
لقد إستعدت إنسانيتك التي صادرها منك رجال الدين و أدركت حجم نفاقهم و تعريصهم و خاصة أنك أنت هذا المثقف الجميل ...لقد كنت شديد البهاء و عامر بالإنسانية يا والدي.
حين مرضت مرضك الأخير...كنت دائما الى جانبك...أقبل يديك...و جبينك...و أدلك رجلاك...و أغير ملابسك...أدخن معك سيجارة مالبورو...و كنت تخبرني كم أنت تحبني ...و تعلمني بأنك آسف,,,على كل ما إرتكبته بحقي من تعذيب و ظلم...و قلت لي:
بأني إبنتك المفضلة و الحبيبة و كنت تصارحني بمدى حبك و رضائك عني.. فأنا يا بابا قد عشت أجمل لحظات عمري معك حين كنت أعتني بك و أنت مريض ,, مرضك الأخير,, في مستشفى حلب الجامعي.
ليت الزمن يعود بي عشرات السنيين كي أحيا معك يا والدي...فأنا قد شُفيت من جراحي كلها تجاهك..و أنا أعلنها الآن...بأني أحبك حبا جما...و إن كل خلية في جسمي و عقلي و وجداني و روحي قد تحررت من زعلي القديم و حزني العتيق لا تستغرب إن
قلت لك بأني أتمنى أن إجتمع بك في الدار الآخرة....لألعب معك ( دق طاولة) و بأني مشتاقة لك...وأن حبي لك أقوى من الظلم و العذاب و التعتير...
((((لكن هذا الطائر قد بنى عشه لدي : لذا أحبه و أعزه, و ها هو يحضن بيضاته الذهبية لدي. هكذا يجب أن ألجلج و أمتدح فضائلك .
فيما مضى كانت لك صبوات و كنت أدعوها شريرة, أما الآن فليس لدي سوى فضائلك, و قد نبتت من صلب صبواتك و شهواتك.
لقد وضعت هدفك الأسمى في قلب تلك الصبوات و الشهوات و ها قد غدت هي فضائلك و حسناتك.
و سواء أكنت من نوع الغضوبين أو الشهوانيين أو ذوي الإيمان الساخط ...العنيف و الغاضب ...فإن كل صبواتك و ستغدو فضائل بالنهاية,, وكل شياطينك...ملائكة تصير.
في ما مضى كانت لديك كلاب متوحشة و تعوي دائما , لكنها بالنهاية تحولت لعصافير و بلابل ملائكية تشدو بأصوات عذبة)))))
هكذا تحدث زرادشت
هز ذاك السم الذي سيقتني منه قد تحول ل بلسم جراحي العتيقة...و ها أنا أسقيك بلسم الحب الذي شفاني.
إنه الحب يا والدي
الحب الذي يبلسم الجرح.
هذا وعد أقطعه من نفسي إليك::: لن يتأتى مني شر تجاهك بعد اليوم....فكل ما أملكه الآن..هو بعض من جيناتك الطيبة...و أصالة خلقك...فأنا بحاجة للطيران بخفة ...فتلك أحمالي...و هاهو ذا ثقلي..الذي رميته في هذا الموقع الكريم...و أقصد به موقع الحوار
المتمدن... الذي أتاح لني: أن أولد من جديد.
هنا أقف
من هناك أمشي
و خلص كلامي معك يا بابا








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السودان: متى تنتهي الحرب المنسية؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. الولايات المتحدة: ما الذي يجري في الجامعات الأمريكية؟ • فران




.. بلينكن في الصين: قائمة التوترات من تايوان إلى -تيك توك-


.. انسحاب إيراني من سوريا.. لعبة خيانة أم تمويه؟ | #التاسعة




.. هل تنجح أميركا بلجم التقارب الصيني الروسي؟ | #التاسعة