الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدولة العميقة والمسارات المستورة للسلطة

راتب شعبو

2021 / 11 / 9
مواضيع وابحاث سياسية


تجري في فرنسا هذه الأيام محاكمة أحد منفذي سلسلة العمليات الإرهابية التي روعت باريس في شهر تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2015، وأدت إلى مقتل حوالي 130 مدنياً وجرح المئات. الشخص الذي تجري محاكمته هو الوحيد الباقي على قيد الحياة من المجموعة المهاجمة. ورغم أن الهجمات التي شارك فيها تعتبر الأكثر دموية في فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية، ورغم أن الشخص المذكور يكرر إيمانه بتنظيم الدولة الإسلامية الذي تبنى العمليات، ولا يبدي أي ندم، ويكرر القول إن منفذيها هم إخوانه، فإنه يتمتع بكل ما يضمنه له القانون من شروط المحاكمة إلى شروط في السجن. وقد سبق له أن احتج، عن طريق محاميه، على ضيق الساحة التي يسمح له ممارسة الرياضة فيها، باعتباره في العزل الانفرادي.
ليس من السهل احترام الحقوق القانونية لشخص شارك في مجزرة بحق مدنيين، ولا يزال، فوق ذلك، بضمير مرتاح. وقد يبدو "احترام" هذا الشخص والسماح له بالتعبير عن أفكار ممسوخة تنتهي إلى قبول قتل مدنيين وهم يحضرون حفلاً موسيقياً أو مباراة في كرة القدم، استفزازاً لعموم الناس وعلى رأسهم أهالي الضحايا. لكن هذا هو القانون، الذي ينبغي احترامه وإنفاذه على طول الخط، بصرف النظر عن "المشاعر". لا سبيل آخر لضمان القدر الممكن من المساواة والعدل في إدارة المجتمع.
بالمقابل، يمكن أن يستيقظ الناس، في بلد ما مثل سوريا، على تنفيذ حكم الإعدام بحق 24 شخصاً بتهمة إشعال الحرائق التي ضربت سوريا في تشرين الأول/أكتوبر 2020، دون تحديد هوية الأشخاص ولا مكان إعدامهم ولا طريقة الإعدام. مع معرفة وسائل التحقيق الشهيرة التي يعترف الشخص تحتها بأي شيء، ليخرج مسؤولو هذا البلد ويقولون إن المجرمين اعترفوا بجريمتهم. وليس من باب سعة الخيال أن نقول إنه ما من شخص في البلد المذكور في منأى عن أن يكون أحد هؤلاء الذين نفذ بهم حكم الإعدام. يكفي إرسال دورية لاعتقال أي شخص يراد به الشر، وتحميله جريمة ما وجعله يعترف بارتكابها. لا ضمان لأحد، حين تريد السلطة الحاكمة أن تؤذيه، لسبب ما. ولا ضمان لأحد حين يريد محقق أن يظهر لأسياده إنه حقق إنجازاً أمنياً واعتقل من نفذ جريمة ما، فيلصقها ببريء "اعترف" بجريمته. هذا ما يجعل الدفاع عن التعيس (البريء المدان) دفاعاً عن النفس. وهذا ما يجعل الناس في بلد يحكمه القانون، مضطرين لوضع احترام القانون فوق المشاعر، لكي يضمنوا حقوقهم، لأن انتهاك حقوق فرد يعني ويعادل انتهاك حقوق الجميع.
يشكل هذا مدخلاً للكلام عن طريقتين عامتين لإدارة المجتمعات، في عالم اليوم. الطريقة الأولى أن تحوز فيه جهة ما (غالباً فرد حوله مجموعة مقربة) على سلطة لا تُنازع، أكانت سلطة مفروضة بالعنف والقوة (ديكتاتور)، أو مفروضة بالتقليد (ملك أو زعيم عشيرة). في هذه الحالة، تكون الإدارة سهلة لأنها لا تبالي باحترام أي حقوق بل تفرض نفسها بالقوة. هناك مصدر واحد (أبدي، أي لا يوجد في النظام مدخل لتغييره) للسلطة التي تتخذ القرار وتمتلك القدرة على فرضه وتنفيذه. يمكن تشبيه هذه الإدارة البسيطة بالخط المستقيم الذي ينطلق من نقطة ثابتة هي مركز السلطة، وينتهي في تنفيذ القرار، أو في "حل" المشكلة. هنا، يفترض بالمجتمع الاستسلام أو التسليم بأن السلطة المفروضة أبدية وأن ما يصدر عنها إنما يمثل الإرادة العامة. والحال أن مثل هذه السلطات منفلتة من المساءلة، ولا تعبر إلا عن إرادة أهل السلطة في أولوية تسيير مصالحهم وأولوية تأبيد سيطرتهم. هكذا تهمش الإرادة العامة ولا تدخل المتن إلا في لحظة الاحتجاج.
الطريقة الثانية هي أن يدير المجتمع نفسه عبر الالتزام بعهد اجتماعي أو قانون عام توافق عليه غالبية الناس، ويرتضيه الجميع، وينطوي هذا العهد أو هذا القانون على آليات محددة تسمح بتعديله أو بتغييره. يتم عبر هذا القانون إنتاج دوري لمركز سلطة تحكم المجتمع وتتعامل مع صراعاته وما يتعرض له من مشاكل، دون الخروج عن القانون الموضوع. يمكن تشبيه هذه الإدارة المعقدة بالدائرة التي تكون فيها كل نقطة هي البداية والنهاية. هنا لا يكون مركز السلطة حراً في قراره، يوجد قانون عليه التقيد به بالدرجة الأولى، بوصفه ناظم حياة الجميع، ويوجد أيضاً رقابة من خوله بالسلطة (جمهور الناخبين) وهناك تأثير التنظيمات المعارضة، فضلاً عن وجود السلطة القضائية وعلى رأسها المحكمة الدستورية بوصفها ضابطاً رئيسياً من ضوابط السلطة، ووجود سلطة الإعلام وسلطة الاحتجاجات الشعبية ... الخ. هذا يعني أن هناك حضور فاعل للإرادة العامة، يحد من سيطرة إرادة أهل السلطة على حساب المجتمع.
قد يكون الوجود الواقعي الصافي لكل طريقة، أقل من الوجود الهجين الذي يجمع عناصر من الطريقتين بنسب متفاوتة. في العالم الواقعي يمكن للخط المستقيم أن يتلوى ولكن دون أن يستدير، وللدائرة أن تتكسر دون أن تفقد دائريتها. نشهد في العالم إدارات تجمع بين الطريقتين، مثل النموذج الإيراني، حيث توجد لجنة تقرر المرشحين للرئاسة، فتصادر سلفاً بالتالي على قرار جمهور الناخبين بأن تحدد خياراتهم، كما تضيف مرجع أعلى يكون منطلق لخط مستقيم في القضايا الأساسية.
ما يسمى "الدولة العميقة" يعبر عن سعي أصحاب المصالح الكبرى في الأنظمة الديموقراطية التي تتغير فيها السلطات السياسية، إلى ضمان استقرار المسار العام للسياسات رغم تغير السلطات، بما يضمن استمرار سير هذه المصالح. أي هي نوع من ضبط فاعلية الإرادة العامة. أو بكلام آخر، الدولة العميقة في البلدان الديموقراطية هي تقرّبٌ من النمط الأحادي لإدارة المجتمع حيث يكون مركز القرار ثابتاً. على هذا، لا تحتاج الدولة المستبدة إلى دولة عميقة، مركز السلطة الظاهر هو مركز السلطة الفعلي، وإن كان يخضع، بطبيعة الحال، في ممارسة السلطة، لتأثيرات داخلية وخارجية شتى. لكن مركز السلطة الأحادي هذا يمكن أن يوزع سلطته في جسم الدولة عبر مسارات لا تتفق مع المسارات الظاهرة للسلطة، كأن يحوز ضابط الأمن على سلطة تفوق سلطة الوزير، أو أن يحوز ضابط برتبة أدنى على سلطة تفوق سلطة ضابط أعلى منه في الرتبة وهكذا. هذا يسمح بالحديث عن دولة ظاهرة تحترم شكل الدولة وذات سلطات فعلية محدودة، وعن مسارات مستورة تمر عبرها السلطة الفعلية التي تحرك هيكل الدولة.
كما أن الدولة العميقة، غير الخاضعة للتبدلات الانتخابية، تمثل حلاً للمصالح الكبرى في التغلب على الإرادة العامة التي تغير السلطات في الأنظمة الديموقراطية، فإن المسارات المستورة للسلطة تمثل حلاً لصاحب السلطة المستبدة في التكيف مع الشكل الحديث للدولة. في الحالة الأولى تنتقص الديموقراطية، وفي الثانية تُهان الدولة الحديثة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السعودية.. شخص يطعم ناقته المال! • فرانس 24 / FRANCE 24


.. الادعاء الأمريكي يتهم ترامب بالانخراط في -مؤامرة إجرامية-




.. هذا ما قاله سكان مقابر رفح عن مقبرة خان يونس الجماعية وعن اس


.. ترامب يخالف تعليمات المحكمة وينتقد القضاء| #مراسلو_سكاي




.. آخر ابتكارات أوكرانيا ضد الجيش الروسي: شوكولا مفخخة