الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صابون

منير المجيد
(Monir Almajid)

2021 / 11 / 10
سيرة ذاتية


كنتُ قد أنهيتُ للتوّ حمّاماً مرتجلاً في المطبخ، حينما نقرتْ «ك» على الباب.
صاحبة البيت «أم أنطون» كانت تزور أقرباء لها في مصياف، و«مُفيد» المستأجر الأردني الآخر كان يقضي عطلة الصيف في عمّان. الظروف لم تكن مواتية فحسب، بل كانت مثالية.
هرموناتنا الضارية لم تدع مجالاً لتبادل الأحاديث، بل رحنا في عناق مجون. تشممتني ك ككلبة ودمدمت شيئاً ثم سألتني عن نوع العطر الذي أستعملته. «صابون Camay». قلتُ لها.
نعم، بعد إنتقالي إلى دمشق، تخليّت عن صابون الغار، واستبدلته بكاماي، الذي كان أحد السلع المُهرّبة من لبنان، مثل السكائر الأمريكية والحشيشة البعلبكية، بائعوه كانوا يجلسون على أرصفة الدوائر الحكومية وساحات المدينة.

لم أعرف، في الحقيقة، صابوناً آخر غير الغار، في كل سنوات طفولتي وشبابي. كان يقوم مقام الشامبو، ومنظف الجلد بحكّه على الليفة القاسية التي كانت تترك خدوشاً صغيرة في أنحاء جسدي. القالب الجديد البنيّ المُصفرّ منه كانت له أطراف قاسية جارحة، ومع الإستعمال يلين ويفشي عن لونه الأخضر. أحياناً كنّاً نستعمله في غسيل الثياب إن لم يتوفّر مسحوق التايد.
لم تعجبني رائحته حينذاك، ومازلت، رغم معرفتي بفوائده الكثيرة، أهمّها كونه منتج بيئي بالكامل.

اسم شهرته العالمي هو «صابون حلب». يُصنع من العصرة الثانية للزيتون (المطراف)، بخلطه مع زيت الغار ورماد الصوديوم في قدر وغليه بدرجة تصل إلى مائتين، إلى أن يتفكّك إلى غليسيرين وملح صودي (عملية التصبين). ثمّ يتركونه ليبرد ويُقسّم إلى قوالب تُختم بحفر إسم الصانع.
وأثناء المقتلة السورية فرّ بعض صُنّاع الصابون إلى عفرين (قبل أن تغتصبها ميليشيات الولاء التركي)، وتركيا، وبدأوا إنتاجه في مدينة مرسين، ومن هناك يُصدّر إلى العالم الآن.

طريقة صنعه تعود إلى ألفي سنة قبل الميلاد. ومن الحلبيين تعلّم النابلسيون وآخرون، حتى وصل الكار إلى مرسيليا. لكن بقي الأصل (الحلبي)، هو المُفضّل في كل أنحاء العالم. الإتحاد الأوروبي منع إستعمال زيت الغار كمكوّن بسبب إحتمال تسبّبه بالحساسية.
رأيته يُباع في اليابان كسلعة فاخرة. «صابون حلب الأصلي». هكذا كتبوا على الدعايات المُرفقة.
طبيب أسنان من روّاد اللاتيرنا أخبرنا أنّه لا يستعمل أي منتج آخر للتنطيف، لا بل يستعمله أيضاً في تنظيف أسنانه عوضاً عن الكولغيت.

قبل كل هذا، شكّل اختراع الصابون قفزة مدنية هائلة، بسبب فعاليته المُضادة للبكتيريا والفيروسات، وأيضاً فعاليته كمضاد حيوي خفّف من وقع أوبئة مثل الكوليرا والتيفوئيد والديزنتاريا. وفي هذه الأيام يُعدّ ضرورة حياتية لغسل اليدين، إلى جانب المعقّمات الكحولية، درءاً للإصابة بفيروس كورونا.
أثبتت الحفريات وجوده عند البابليين والسومريين والفراعنة.
القفزة النوعية في تصنيع أنواع الصابون واستنباط طرق كيميائية أشدّ تعقيداً لم تتمّ إلّا في القرن الثامن عشر على يد الفرنسي نيكولا لوبلانك، تبعه عدة كيميائيين لتُصبح بعدها صناعة انتشرت في كل أرجاء المعمورة، حتّى قيام ويليم پروكتير الإنكليزي وجيمس غامبل الإرلندي، اللذين أسّسا شركة پروكتر وغامبل (عام ١٨٣٧) في أوهايو الأمريكية المُنتجة لأكثر من ثلاثين نوعاً من الصابون.
وفي سنة ١٩٢٤ طرحت الشركة صابون كاماي لتلبية إحتياجات الموضة. «أنتِ تُشاركين في مسابقة جمال كل يوم من حياتكِ». هكذا كتبَ نيل ماكلوري، مدير قسم الإعلان في الشركة، شعار كاماي الإعلاني عام ١٩٣١.
بعد سبعة وأربعين سنة وصل كاماي إلى يدي. مُغلّف أحمر كبير بحجم نصف طوبة بناء، وفي داخله قالب ناعم الأطراف ورديّ اللون ورائحته عطرية ناعمة مُثيرة. أثارت، على الأقل، زميلتي ك من كلية الفنون.
بحثتُ عنه في الدانمارك دون جدوى. وجدته في القاهرة (تستورده مصر منذ عام ١٩٨٤)، وفي ألمانيا، لكن ليس بذاك المقاس وبهاء التغليف الذي أعرفه. هناك الآن عدد لا يُحصي من ماركات الصوابين أو الصابونات أو أية لعنة لغوية اخرى، وسوائل صابونية وشامبوات وبلاسم شعر ولست أدري ماذا، إلّا أن كاماي يبقى الأهم عندي في التصوبن، لعلّي وعساي أستعادة لحظات ك أو أحرف أبجدية اخرى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الفرنسية توقف رجلاً هدد بتفجير نفسه في القنصلية الإير


.. نتنياهو يرفع صوته ضد وزيرة الخارجية الألمانية




.. مراسلنا: دمار كبير في موقع عسكري تابع لفصائل مسلحة في منطقة


.. إيران تقلل من شأن الهجوم الذي تعرضت له وتتجاهل الإشارة لمسؤو




.. أصوات انفجارات في محافظة بابل العراقية وسط تقارير عن هجوم بط